الأربعاء، 5 يناير 2022

صراع حول تعريف مصادر الطاقة الخضراء


صراع محتدم يدور هذه الأيام في البيت الأوروبي، ولكن تداعيات هذا الصراع وما يتمخض عنه حتماً ستنتقل إلى التكتلات الاقتصادية والسياسة الأخرى، بل وفي تقديري إلى كل دول العالم، فالجميع معني بقضية الصراع وموضوعه الخطير والهام جداً على كافة المستويات.

 

فهذا الصراح يتمحور في جوهره حول المصدر المستقبلي للطاقة للدول الأوروبية، وبالتحديد حالياً بين دول الاتحاد الأوروبي، فالأسئلة التي تُثار حول هذه القضية كثيرة منها: ما هو مصدر الطاقة الذي سيعتمد عليه الاتحاد الأوروبي من أجل الوفاء بالتزاماته أمام المجتمع الدولي والشعوب بخفض انبعاث الغازات المسؤولة عن التغير المناخي وارتفاع حرارة الأرض، ثم الوصول في نهاية المطاف إلى تحقيق الهدف الأسمى وهو الانبعاث الصفري أو الحياد الكربوني؟ كذلك يُطرح السؤال الثاني وهو كيف يُصنِّف الاتحاد الأوروبي ويُعرِّف  بعض مصادر الطاقة المستخدمة حالياً في هذه الدول، مثل الطاقة النووية والغاز الطبيعي، فهل هما مصدران "خضراء ومستدامة" للطاقة أم لا؟

 

وجاء هذا الصراع بعد أن تَقدَّم الاتحاد الأوروبي بمقترح يصنف فيه الطاقة النووية بأنها من مصادر الطاقة الخضراء والمستدامة، مقارنة بالغاز الطبيعي، أو الفحم والنفط، كما اقترح التصور المـُقدم اعتبار الطاقة النووية من مصادر الطاقة التي يمكن الاعتماد عليها في المستقبل في دول الاتحاد الأوروبي لتوليد الكهرباء وتشغيل المصانع إضافة إلى مواجهة خفض الانبعاثات المسببة للتغير المناخي، ثم إدخال وضم الطاقة النووية ضمن قائمة "الاستثمار المستدام"، مما يعني توفير الغطاء السياسي والقرار الاتحادي للدول الأعضاء والشركات والمصانع العاملة بها لضخ أموالهم في هذا المصدر للطاقة، والاستثمار فيه مستقبلاً لتوفير وتأمين الكهرباء والطاقة بشكلٍ عام لهذه الدول. 

 

وهذا المقترح بالتحديد قسَّم معسكر الاتحاد الأوروبي إلى قطبين، الأول بزعامة ألمانيا وعضوية لوكسمبورج، والنمسا، وإسبانيا، والثاني بزعامة فرنسا، وفنلندا، وجمهورية الشيك. أما رد القطب الألماني فجاء سريعاً وواضحاً ومعارضاً بشدة على القرار، وجاء على لسان الناطق الرسمي باسم الحكومة ستيفن هبستريت(Steffen Hebestreit) في الثالث من يناير من العام الجاري، حيث أكد في مؤتمر صحفي قائلاً بأن:  "موقف الحكومة حول الطاقة النووية لم يتغير، فالحكومة مقتنعة بأنه لا يمكن تصنيف الطاقة النووية بأنها مستدامة. وبالنسبة لألمانيا فإن الغاز الطبيعي سيبقى الجسر المهم للعبور عليه إلى الحياد الكربوني وخفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري". كما أضاف: "نحن نعتبر بأن التقنية النووية خطرة. نحن نعتبر بأن مشكلة التخلص من المخلفات النووية مازالت قائمة ولم تعالج جذرياً، والحكومة الألمانية وافقت كذلك في الوقت الحالي بأنها تحتاج إلى الغاز الطبيعي كجسر وتقنية عابرة، فألمانيا تحتاج بدرجة أكبر إلى الكهرباء في المستقبل القريب، وهذه الحاجة لا يمكن تلبيتها فقط من مصادر الطاقة المتجددة كالطاقة الشمسية وطاقة الرياح".

 

فهذه السياسة التي تتبناها ألمانيا كانت كردة فعل للكوارث النووية التي وقعت في عدة دول منها كارثة التسربات الإشعاعية من محطة تشرنوبيل للطاقة الذرية في أوكرانيا في 26 أبريل 1986، إضافة إلى الطامة الكبرى التي لا مثيل لها في التاريخ وهي تسرب المواد المشعة من المفاعلات النووية لتوليد الكهرباء في فوكوشيما في اليابان في 11 مارس 2011، حيث لوثت المواد المشعة المنبعثة البر، والبحر، والجو، وأصبحت جزءاً لا يتجزأ من أجسام الحياة الفطرية والإنسان معاً. فمثل هذه الكوارث النووية جعلت ألمانيا تصر بأن الطاقة النووية "خطرة"، وعملت على تجنب إنشاء محطات نووية جديدة، واتخذت قراراً مصيرياً حاسماً في إغلاق كافة المحطات الموجودة، حيث أغلقت في 31 ديسمبر 2021 ثلاث محطات، وستتخلص من الثلاث المحطات القائمة في نهاية 2022.

 

وفي المقابل فإن فرنسا تبنت سياسية للأمن في الطاقة تختلف في أولياتها عن السياسية الألمانية وهي الاعتماد في المستقبل القريب على الطاقة النووية واعتبارها مصدراً أخضر ومستدام للطاقة، فهي تعمل على تحديث المفاعلات القديمة وإنشاء مفاعلات أخرى جديدة لتلبية احتياجاتها المتزايدة والمتسارعة للكهرباء،  كما إن فرنسا تعتبر الطاقة النووية لتوليد الكهرباء وسيلة فاعلة للوفاء بتعهداتها التي قطعت على نفسها في مفاهمات باريس 2015 حول التغير المناخي والمتعلقة بخفض انبعاثاتها من الملوثات التي تؤدي إلى التغير المناخي.

 

وهذا الموقفان المتصارعان جعلا الأمانة العامة للاتحاد الأوروبي في ورطة وحيرة شديدين، فلا يمكن رفض طلب ألمانيا، كما لا يمكن في الوقت نفسه الموافقة على طلب فرنسا في تصنيف الطاقة النووية كمصدر أخضر ومستدام، ولذلك في تقديري فإن الاتحاد الأوروبي سيصل إلى حل توافقي وواقعي يرضي القطبين الرئيسين للاتحاد، وسيكون بمقترح جديد معدل يُعلن فيه بأن هناك دوراً للغاز الطبيعي والطاقة النووية معاً كوسيلتين لتسهيل الانتقال والتحول إلى مستقبل تسيطر عليه مصادر الطاقة المتجددة، أي اعتبار الغاز الطبيعي والطاقة النووية حالياً مصدرين مستدامين ونظيفين للاستثمار فيهما مستقبلاً.

 

وهذا الصراع الأوروبي، أو الحالة الأوروبية الحالية جعلتني أؤكد، كما كتبتُ سابقاً عدة مرات، بأن قرارات الدول الكبرى لا تعتمد كلياً على تحقيق مصالح البيئة وهمومها، فهي لا تجعل البيئة أكبر همها  ومبتغاها، وإنما تضع أمام أعينها تماماً مصالحها القومية التنموية والاقتصادية والسياسية، فهي التي تحكم قراراتها، وتصمم سياساتها واستراتيجياتها المستقبلية. كما أن "تعريفات وتصنيفات" هذه الدول لمصادر الطاقة أو مصادر الوقود بأنها مستدامة، أو متجددة، أو خضراء، أو نظيفة تتغير وتتلون حسب هوى مصالحها، سواء مصلحة الرجل الحاكم، أو مصلحة الحزب الحاكم، وليس حسب تعريفها وتصنيفها العلمي المعروف عند العلماء المختصين، فكافة قراراتها تكون مسيسة، والواقع السياسي يلعب دوراً في تحديدها وتنفيذها. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق