الخميس، 20 يناير 2022

تحذير لسكان لندن من الخروج من منازلهم!


أول ما يتبادر إلى ذِهنك وأنت تقرأ المقال هو أن هذا التحذير الصادر من الجهات المعنية في الحكومة البريطانية حول دعوة الناس إلى عدم الخروج من منازلهم وحجرهم في أماكن سكنهم جاء بسبب تفشي فيروس كورونا لمدة سنتين حتى الآن، وبالتحديد هذه الأيام من متحور فيروس كورونا الأصلي وهو أوميكرون.

 

فهذا التحذير والحجر الحكومي للناس ليس بغريب على مدن بريطانيا وعلى كافة مدن العالم منذ أن ولج هذا الفيروس العصيب في نهاية ديسمبر عام 2019 إلى البيئة البشرية، ثم إلى أعضاء جسم الإنسان مباشرة، حتى أن ضحايا هذا الفيروس في زيادة مستمرة مطردة في كل مدن العالم دون توقف لحظة واحدة لكي يعيد المجتمع الإنساني أنفاسه ويعطيه مجالاً للتفكير والدراسة، فمنهم من قضوا نحبهم ونقلوا إلى مثواهم الأخرى تحت الثرى، وبلغ عددهم قرابة 5.6 مليون، ومنهم من أصابهم المرض وقاربوا على 327 مليون.

 

ولكن التحذير اللندني الذي نُشر في وسائل الإعلام البريطانية في يوم الجمعة 14 يناير لم يكن هذه المرة كالعادة نتيجة لانتشار فيروس كورونا بجميع تحوراته، ولكن كان نتيجة لسوء الأحوال البيئية، وتدهورٍ شديد لنوعية الهواء التي يتعرض لها الناس ويستنشقونها في كل ثانية. ولذلك جاء تحذير لسكان لندن من الخروج من منازلهم في ذلك اليوم حماية لصحتهم، وتوجيههم إلى تجنب ممارسة الرياضة والأنشطة في البيئات الخارجية وعدم سياقة السيارة كلما أمكن ذلك حفاظاً على سلامة أجسادهم ومنعاً لدخول الملوثات السامة والخطرة إلى أعضاء أجسامهم، وبخاصة الجهاز التنفسي العلوي والسفلي. وهذا التنبيه صدر بصفةٍ خاصة لكبار السن والأطفال، ولكل من يعاني من مشكلات صحية في الجهاز التنفسي كالربو، والحساسية، وأمراض القلب، فهذه الفئة من الناس تكون عادة أكثر معاناة من أي تغيرٍ، ولو طفيف، لحجم وتركيز الملوثات في الهواء الجوي.

 

 وجدير بالذكر أن المتهم في هذه الحالة الصحية التي نزلت على لندن لم يكن فقط تلوث الهواء المنبعث من السيارات، ومحطات توليد الكهرباء، والمصانع، فهذه المصادر موجودة دائماً ولم تتوقف قط، والملوثات تنبعث منها ليلاً ونهاراً في كل ثانية، ولكن المتهم الآخر الذي زاد الطين بله هو تدهور الطقس في ذلك اليوم بالتحديد، فالرياح كانت ساكنة جداً، وحركة التيارات الهوائية بطيئة، أو شبه منعدمة في بعض الساعات، كما أن ظاهرة الانقلاب الحراري كانت أيضاً من أسباب هذا الحالة الشديدة التي نزلت على لندن. ففي مثل هذه الأجواء المناخية الخاصة، فإن الملوثات التي تنطلق إلى الهواء من جميع المصادر لا تتشتت ولا تنتشر في السماء الواسعة، ولا يخف تركيزها مع الوقت، وإنما تساعد هذه الأجواء المناخية على تراكمها، وزيادة تركيزها ساعة بعد ساعة، فتتكون طبقة من السحب القاتلة المشبعة بالملوثات السامة في طبقات الجو السفلى، فيتعرض لها الناس بتراكيز مرتفعة جداً تؤدي بهم في بعض الأوقات إلى الموت، أو غرف الطوارئ في المستشفيات، وتزيد عندهم الكحة، والسعال، وآلام في الحنجرة والعينين، وحكة شديدة في الجلد.

 

ومثل هذه الحالات البيئية الصحية التي شهدناها في لندن ليست جديدة، وليست أيضاً حالات فريدة تنزل على لندن فقط، وإنما هي قديمة قِدم الثورة الصناعية التي قام بها الإنسان، وهي في الوقت نفسه ظاهرة عامة تعاني منها الكثير من المدن الحضرية في شتى أنحاء العالم، وبخاصة في المدن التي تكثر فيها السيارات والمصانع ومحطات توليد الكهرباء، وتعاني في الوقت نفسه من الظاهرة المناخية الخاصة التي ذكرتها.

 

فعلى سبيل المثال، أجمعتْ وسائل الإعلام الهندية، ومنها صحيفة "هندوستان تايمس"(Hindustan Times) المنشورة في 14 يناير من العام الجاري، أي في اليوم نفسه الذي وقعت فيه حادثة لندن، عن نزول الحالة البيئية الصحية نفسها التي نزلت على لندن، حيث أكدت الجهات الحكومية المختصة عن استمرار تدهور جودة الهواء في سماء المدن الهندية، وبالتحديد العاصمة دلهي، بدءاً من 12 يناير حتى 16 يناير، حيث بلغ المؤشر الخاص بجودة الهواء 312، وهذا المستوى المرتفع يؤكد بأن الهواء في المدينة متدهور، أو سيء جداً. ومثل هذه الحالة تتكرر كثيراً في مدينة دلهي ومدن هندية أخرى، حيث نقلت وسائل الإعلام الصادرة في مدينة دلهي مثل صحيفة "الهند اليوم"(India Today) في السادس من نوفمبر 2021 أخباراً تحت عنوان: "هواء دلهي الخانق يبقى في المستوى الخطر"، وعنوان آخر: "نوعية الهواء في دلهي ضمن المستوى الخطر". وفي مثل هذه الحالات التي ترتفع فيها معدلات تلوث الهواء، تتعرقل حركة الناس، وتمنع الأطفال وكبار السن من الخروج من منازلهم، وتصيب عامة الناس بأعراض الربو والحساسية في الجهاز التنفسي، وقد أفادت التقارير بأن مؤشر جودة الهواء في دلهي في تلك الأيام بلغ مستوى "الخطر"، حيث وصل إلى مستويات قياسية عالية فاقت الرقم 600، كما نقلت صحيف هندستان تايمس  في السابع من نوفمبر عن تقارير طبية بأن عدد المرضى الذين يشتكون من أعراض مرضية في الجهاز التنفسي كضيق التنفس، والكحة، والعطاس وغيرها زادت بنسبة 20% عن الأيام العادية. كذلك في المدن الصينية أصبحت هذه الحالات مألوفة من كثر وقوعها، فعلى سبيل المثال، نشرت صحيفة يوميات الصين(China Daily)في العدد الصادر في الخامس من نوفمبر 2021 خبراً تحت عنوان: "تعليق الأنشطة المدرسية الخارجية بسبب تدهور نوعية الهواء"، حيث جاء فيه بأن هيئة التعليم في العاصمة الصينية أصدرت تحذيرات شديدة وتعليمات صارمة طارئة تُوجه فيها كل المدارس والمعاهد التدريبية إلى وقف جميع الأنشطة التي تقام في خارج البيئات المغلقة، أي خارج مباني المدارس والمعاهد.

 

ولذلك في تقديري فإن استمرار وقوع مثل هذه الكوارث البيئية الصحية منذ أكثر من مائة عام، وتفشي هذه الظاهرة بدرجةٍ مطردة في الكثير من مدن العالم وزيادة انتشارها وظهور بؤر جديدة سنة بعد سنة ، يؤكد لي بأن الإنسان قد فشل فشلاً ذريعاً في محاربة تلوث الهواء ومواجهة أضراره، بل وإنه خسر الحرب ضد تلوث الهواء.

 

Bottom of Form

 

وأتمنى أن تحظى قضية تلوث الهواء على الاهتمام على المستوى القومي، والإقليمي، والدولي الذي يتناسب مع حجم ضرره على البشرية، كاهتمامنا غير المسبوق بمرض فيروس كورونا(SARS-CoV-2). فهذا الفيروس العقيم يسبب مرضاً واحداً فقط هو كوفيد_19، في حين أن تلوث الهواء يسبب المئات من الأمراض المختلفة والمستعصية كالسرطان وأمراض القلب والرئة، والتي يُجمع العلماء والأطباء على علاقتها بتلوث الهواء مباشرة.

فهل من مجيب؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق