الأربعاء، 27 نوفمبر 2019

توجيهات حكومية لرصد جودة الهواء



عندما كُلفتُ بمسؤولية شؤون البيئة قبل أكثر من 15 عاماً، وضعتُ لنفسي برنامجاً واضحاً وخارطة طريق عملية أمشي عليها وأُنفذها وأتابعها شخصياً بشكلٍ يومي، وكلها كانت تصب مباشرة في تحسين مكونات وعناصر البيئة المحلية في مملكتنا الغالية وخفض نسبة الملوثات التي تصب فيها، سواء أكانت الهواء أو الماء أو التربة ، وأحد بنود هذا البرنامج الذي حرصتُ شخصياً على الاهتمام به وإعطائه الأولوية هو التعرف على جودة الهواء في محافظات البحرين الخمس، ومقارنتها بمقاييس ومعايير جودة الهواء الخاصة بالبحرين وبعض دول العالم، ثم تحديد أهم المصادر التي تُفسد الهواء الجوي وتدهور صحته وسلامته، ومدى خطورتها وتأثيرها على الصحة العامة.

ومن أجل القيام بهذه المهمة بشكلٍ علمي منهجي وموثوق كان لا بد من وجود أجهزة ومعدات حديثة عالية الجودة، أو ما يُعرف بمحطات قياس جودة الهواء، للقيام بقياس تركيز ونسبة الملوثات في هواء محافظات مملكة البحرين في كل ساعة من كل يوم، وعلى مدار العام كله، فاضطررتُ لإنجاز هذه المهمة إلى شراء خمس عربات يمكن تحريكها ونقلها من منطقة إلى أخرى وبداخلها العديد من الأجهزة التي تُقدم بشكلٍ فوري ومباشر تركيز الملوثات بشكلٍ مستمر، علماً بأن الأجهزة السابقة كانت معظمها قديمة ولا تعمل. ومن الملوثات التي كانت الأجهزة تقيسها هي غاز الأوزون، وأول أكسيد الكربون، وأكاسيد النيتروجين، وثاني أكسيد الكبريت، والبنزين، والدخان أو الجسيمات الدقيقة، وكبريتيد الهيدروجين، والمركبات العضوية المتطايرة.

وأول عربة وصلتْ البحرين وضعتُها مباشرة في قرية المعايير لوجود شكاوى مزمنة من المواطنين حول جودة الهواء في المنطقة، ثم بعد ذلك تم وضع باقي محطات جودة الهواء في كل محافظة لمراقبة نوعية الهواء الجوي ومعرفة تركيز الملوثات ودرجة التلوث في المنطقة.

أما عن نتائج مراقبة جودة الهواء التي تكشفها وتقيسها الأجهزة، فكنتُ أضعُها في تقرير شهري تحليلي يلخص المعلومات المتعلقة بتركيز الملوثات من حيث معدل التركيز الشهري في كل محافظة، والقيمة العظمى التي وصل إليها، وعدد التجاوزات للمعايير والمواصفات الخاصة بجودة الهواء في كل شهر وفي كل محافظة، إضافة إلى تقديم صورة واضحة للمصادر المحتملة لهذه التجاوزات في كل محافظة. فقد كانت الأجهزة تقيس 12 نوعاً من الملوثات، إضافة إلى العوامل المناخية مثل درجة الحرارة، ونسبة الرطوبة، واتجاه وسرعة الرياح.

وجدير بالذكر أن هذه التقارير الشهرية كانت "عامة"، أي غير سرية ويمكن للجميع الاطلاع عليها، فقد كنتُ أُرسل نسخة منها كل شهر إلى مجلس الوزراء، والصحافة والإعلام، والمجلس الوطني بشقيه النواب والشورى، والجامعات، إضافة إلى كل من يرغب في الحصول عليها.

واليوم أسعدني كثيراً الخبر الذي قرأتُه في وسائل الإعلام بأن الحكومة من خلال مجلس الوزراء وجهتْ في الاجتماع المنعقد في 25 نوفمبر إلى رصد ومتابعة جودة الهواء والتأكد باستمرار من مطابقتها للمعايير العالمية عبر قياس مؤشرات تلوث الهواء وضمان أن تكون في مستوى المعدلات الآمنة دولياً وأن يتم تحديد مصادر تلوث الهواء ومعالجة مسبباتها ووضع السياسات والإجراءات للحد منها.

وتأتي أهمية هذا الخبر في التأكد من ضمان استدامة برنامج مراقبة جودة الهواء والعمل على تطويره وجعله في خدمة المواطنين، والاستفادة منه لرسم السياسات العامة في مجال حماية نوعية الهواء الجوي والعمل على مواجهة مصادر إفساد جودته، حيث إن بعض الأجهزة في السنوات الماضية قد تعطلتْ عن العمل لفترة طويلة من الزمن، وهذا أدى إلى توقف عملية قياس ومراقبة نسبة التلوث بشكلٍ دائم في هواء محافظات مملكة البحرين، مما قد تكون لها انعكاسات ضارة على الصحة العامة للمواطنين.

وهناك نقطة مهمة لا بد لي من ذكرها والتعليق عليها وهي أن تكون من ضمن سياسة الحكومة نشر المعلومات الخاصة بجودة الهواء للجميع، وإعطاء صبغة الشفافية والمصداقية الكاملة في التعامل مع تركيز الملوثات في الهواء الجوي. كما أتمنى من الحكومة توجيه المعنيين إلى تبني ثقافة التعاون مع المواطن وتقديم كافة المعلومات البيئية التي يطلبها، فالتلوث وارتفاع تركيز الملوثات في الهواء الجوي ليس صناعة حكومية بحتة، ولا تتحمل الحكومة المسؤولية الكاملة عن وجود تلوث الهواء وارتفاع درجته.

فحماية البيئة بشكلٍ عام، ورعاية وصيانة الهواء الجوي بشكلٍ خاص مسؤولية جماعية مشتركة تقع على عاتق كل مواطن ومقيم يعيش على هذه الأرض الطيبة، والجميع يتحمل مسؤولية حماية الهواء من الملوثات، والجميع عليه الإسهام في المحافظة على بيئة الهواء الجوي. فالمجلس الوطني يتحمل مسؤولية سن التشريعات الخاصة بالبيئة وبحماية جودة الهواء الجوي ومراقبة واستجواب الجهات الحكومية المعنية عند تقصيرها، والحكومة دورها تنفيذ هذه التشريعات على الجميع بدون استثناء، سواء أكان مصدر التلوث جهة حكومية، أو القطاع الخاص، ثم على الأفراد والجمعيات والمنظمات الأهلية تحمل مسؤولياتها في خفض نسبة الملوثات من المصادر التي تقع تحت يدها. فالسيارات من أخطر المصادر التي تفسد الهواء وتُعرِّض الناس للأمراض الحادة والمزمنة، وكل مواطن ومقيم يمتلك هذه السيارة ويجب أن يعمل على الحد من تلويثها للبيئة، كما أن المواطن عندما يقوم بترشيد استهلاك الكهرباء في منزله أو في مكتبه فإنه يخفض من حرق الوقود في محطات توليد الكهرباء، وبالتالي يقلل من انبعاث الملوثات التي تدمر الهواء.

وهكذا فالجميع يشترك في علاج هذه القضية البيئية الصحية المعقدة والمتشابكة، وعلى الجميع تبني سلوكيات بيئية تؤدي في نهاية المطاف إلى حماية الهواء والمحافظة على جودته. 

الأربعاء، 20 نوفمبر 2019

هل عاصفة التلوث الهندية ستصل إلينا؟



أيام وأسابيع عصيبة وطويلة مرَّت على بعض المدن الهندية، وبخاصة العاصمة نيودلهي، فقد نزل عليها ضيف ثقيل لا يريد أن يغادرها، وحلَّت عليها غمامة مرضية قاتلة مشبعة بخليطٍ معقد وسام من الملوثات فغطتها من فوقها إلى أسفلها، ومثل هذه السحابة العصيبة إذا نزلت على الإنسان فستُسبب له الوقوع في فك السرطان والأمراض المستعصية الأخرى، فإما أن تلقيه فوراً صريعاً ميتاً فيُنقل إلى مثواه الأخير، وإما أن تنقله سريعاً إلى قسم الطوارئ في المستشفيات وهو يعاني من ضيق في التنفس وآلام حادة في الصدر، أو مشكلات وأزمات في القلب، حتى أن المستوصفات والمستشفيات عند وقوع مثل هذه الحالات في الكثير من مدن العالم تمتلأ بهؤلاء الضحايا الذين يسقطون فريسة لهذا التلوث العقيم.

ففي مدينة نيودلهي في عدة أسابيع من شهر نوفمبر، زحفتْ هذه الغمامة الكثيفة الرصاصية اللون والملبدة بالدخان والجسيمات الدقيقة والملوثات الأخرى إلى قلب المدينة، فأحدثتْ شللاً تاماً في الحياة، وتحولت إلى مدينة أشباح لا حياة فيها، فكافة أنواع وسائل المواصلات لم تغادر مواقعها وبقت في تلك الأيام في أماكنها، فالطائرات القادمة من المدن والدول الأخرى لم تستطع الهبوط بسبب انعدام الرؤية وتم تحويلها إلى مطارات أخرى، والطائرات القابعة في المطار لم تتمكن من التحرك والمغادرة والإقلاع، كما تم إغلاق المدارس وتغيب الناس عن أعمالهم لعدة أيام حفاظاً على صحة الصغار والكبار، كذلك فإن السيارات لم تتمكن من الحركة لضعف الرؤية في الطرقات، وخَلتْ الشوارع من الناس لاضطرارهم إلى المكوث في منازلهم خوفاً من التعرض لهذا التلوث العقيم الذي لم يأت على شيء إلا جعله كالرَّميم، ونتيجة لهذه الحالة البيئية والصحية الكارثية أُجبرت الحكومة الهندية إلى إعلان حالة الطوارئ الصحية في العاصمة.

وهذا الوضع المأساوي الذي نزل في تلك الأيام والأسابيع العصيبة على العاصمة الهندية لم يكن يحدث لأول مرة، وإنما تحول إلى ظاهرة عامة تقع على هذه المدينة ومدن هندية أخرى كثيرة، حتى أن مدينة نيودلهي، حسب تقرير منظمة الصحة العالمية الصادر في عام 2018، استحقتْ وبكل جدارة لقب المدينة الأشد تلوثاً وفساداً للهواء الجوي في العالم، حيث صُنِّفت العاصمة الهندية بأنها أكثر مدينة في العالم معاناة من داء تلوث الهواء، كما أن هناك عشر مدن هندية أيضاً تصدرت قائمة مدن العالم الأكثر تدهوراً وفساداً لنوعية الهواء الجوي.

فما هي الأسباب والمصادر التي تؤدي إلى انكشاف مثل هذه الظاهرة البيئية الصحية الخطيرة في هذه المدن الهندية، وبخاصة في العاصمة؟

فبعد دراستي لهذه الحالة الهندية المستمرة منذ سنوات والتي تنزل على الكثير من مدنها في مواسم معينة، تبين لي بأن هناك مجموعة من المصادر والأسباب تتجمع كلها مع بعض وتعمل بشكلٍ تعاوني تراكمي، وتحت ظروفٍ طبيعية مناخية محددة فتُوقع هذه الكارثة الصحية البيئية. فهناك المصادر البشرية لتلوث الهواء وعلى رأسها أكثر من تسعة ملايين سيارة يعملون بوقود الجازولين أو الديزل ويجوبون ليلاً ونهاراً شوارع نيودلهي، وهذه السيارات والتي أُطلق عليها المصانع الصغيرة المتحركة تبث سمومها وبخاصة الدخان أو الجسيمات الدقيقة في كل أرجاء المدينة، كما أن هناك مصادر أخرى تُسمم الهواء الجوي كالمصانع، وعمليات البناء والإنشاء، وحرق المزارعين للمحاصيل التي انتهى موسم جنيها وحصادها لتسوية الأرض وإعدادها للموسم والمحصول الزراعي الجديد، إضافة إلى الألعاب النارية التي تُطلق إلى السماء أحجاماً كبيرة من الملوثات أثناء أعياد الهندوس. وفي الوقت نفسه هناك الظروف المناخية الطبيعية التي لا دخل لأيدي البشر فيها والتي تُسهم بدرجة فاعلة في تراكم الملوثات وتجمعها ومنع انتشارها وتخفيف تركيزها في الهواء الجوي، مثل ضعف حركة الرياح وانخفاض سرعتها، ونزول الهواء الضبابي البارد، إضافة إلى ظاهرة الانقلاب الحراري التي تُكوِّن طبقة فوقية تمنع انتشار وحركة الملوثات إلى الطبقات العليا فتَحْبِسها في الطبقات السفلى التي يتعرض لها الناس مباشرة، فتَكُون عندئذٍ نسبة الملوثات في تلك الحالة مرتفعة جداً وتؤدي إلى وقوع الأضرار الصحية البشرية الحادة والمزمنة.

وجدير بالذكر فإن هذه الحالة الهندية ليست مقتصرة على المدن الهندية وحدها، وإنما هي ظاهرة دولية عامة تنزل على الكثير من مدن العالم الحضرية المكتظة بالسيارات والمصانع، كما أن هذه الحالة البيئية الصحية القاتلة ليست وليدة اليوم وإنما هي مشكلة مزمنة وظاهرة مرضية يعاني من وجودها المجتمع البشري لأكثر من قرنٍ من الزمان ولم ينجح الإنسان حتى يومنا هذا بالرغم من تطوره العلمي وتقدمه التقني والفني في التخلص منها كلياً، والتاريخ شاهد على هذه الحقيقة.

فهناك كوارث بيئية صحية لها علاقة بتلوث الهواء وقعت خلال المائة سنة الماضية، واحْتلتْ مكانه بارزة ضمن الحوادث التاريخية الخالدة التي نُقشت وحُفرت في كتب التاريخ، وأَذكرُ هنا أمثلة على الكوارث الأشد بأساً والأكثر تنكيلاً بصحة الإنسان. ففي الفترة من 27 إلى 31 أكتوبر عام 1948 في مدينة دونورا بالقرب من مدينة بتسبرج بولاية بنسلفانيا الأمريكية، حلَّ على المدينة دخان كثيف وضباب أسود قاتم، فحول النهار ليلاً، وانعدمت الرؤية طوال هذه الأيام العصيبة، وأُعلنت حالة الطوارئ الصحية البيئية وبخاصة عندما سقط الناس صرعى يعانون من ضيق التنفس وآلام في الصدر ومتاعب في القلب، فمات أكثر من 26 على الفور ومرض أكثر من نصف سكان المدينة. وفي الأسبوع الأخير من ديسمبر عام 1952 وقعتْ في قلب العاصمة البريطانية لندن مجزرة جماعية بسبب تلوث الهواء الجوي فسقط عشرات الآلاف من الناس، فمنهم من قضى نحبه فوراً، وبلغ عددهم نحو أربعة آلاف شخص خلال أسبوع واحد فقط، ومنهم من أُدخل إلى الطوارئ ليتلقى العلاج من السموم التي استنشقها في الهواء الجوي. ومنذ الأربعينيات من القرن المنصرم وحتى يومنا هذا، ومدينة لوس أنجلوس الأمريكية تعاني من الضباب الضوئي الكيميائي المشبع بسموم عوادم السيارات والذي ينزل عليها بين الحين والآخر، والعاصمة الصينية يُضرب بها المثل منذ عقود من شدة تلوث الهواء الجوي.

فمشكلة تلوث الهواء قديمة جداً ومستمرة في الكثير من مدن العالم والإنسان يقف عاجزاً أمامها، ونحن في البحرين سائرون في الطريق نفسه، فأعداد السيارات تزيد بنسبة أكثر من 10% سنوياً وتتحرك في مساحة جغرافية ضيقة، والمصانع ومحطات توليد الكهرباء تزيد يوماً بعد يوم، فماذا أعددنا لمواجهة ذلك اليوم العصيب؟

الاثنين، 18 نوفمبر 2019

إحصاءات مُقلقة حول السيارات في البحرين


إحصائيات مقلقة جداً نشرتها الجهات الرسمية المعنية حول الزيادة المطردة والمتعاظمة غير المسبوقة لأعداد السيارات في شوارع البحرين، بحيث إننا إذا لم نتخذ وبسرعة وحزم جميع الإجراءات والاحتياطات المناسبة والفاعلة لوقف هذا الزحف والتيار الجارف من أسطول السيارات فإن برامجنا التنموية التي نحن في أشد الحرص على رعايتها واستدامتها حتماً ستتأثر على المدى البعيد وسيصيبها الشلل التام، ناهيك عن التدهور الذي سيصيب هواءنا من عوادم السيارات السامة والمسرطنة، والفساد الشديد الذي سيلحق بصحتنا.

فالأرقام حول ارتفاع أعداد السيارات تُنذر بمستقبل عصيب سنضطر إلى مواجهته عاجلاً أم آجلاً، وبخاصة إذا استمر الوضع على ما نحن عليه من عدم الاكتراث والتجاهل لهذه الظاهرة، وعدم وضع استراتيجية واضحة وخطة تنفيذية فاعلة ومؤثرة للحد من انتشارها وتفاقمها بشكلٍ أكبر وعلى نطاقٍ أوسع.

ودعوني أُقدم لكم بعض المعلومات حول ظاهرة الزيادة المفرطة غير المقبولة للسيارات مقارنة بمساحة البحرين وصغر حجمها، وشح شوارعها، وضيق طرقاتها، وبطء أعمال بنائها وتوسيعها. ففي عام 2015 كان عدد السيارات المسجلة 545 ألف، ثم قفز إلى 653 ألف في عام 2016، وفي عام 2017 زاد مرة أخرى فبلغ 686150، واليوم وصلت السيارات إلى أكثر من 711 ألف، أي بزيادة سنوية أعلى من 10%، وهذه الزيادة مستمرة وبمستويات عالية، ولن تتوقف إذا تركنا كما يقول المثل "الحبل على الغارب" وكأن شيئاً لم يكن، وبالتالي تُعد البحرين مقارنة بدول العالم من أشدها كثافة مرورية!

وهذه الظاهرة غير الطبيعية بدأ كل الناس الاكتواء بتداعياتها والمعاناة اليومية من شدتها، وبالتحديد المتمثلة في الازدحام المروري العقيم في كل شوارع البحرين وفي جميع الأوقات من اليوم. فقبل عقد من الزمن كانت فترات الازدحام والاكتظاظ المروري، أو ما يُطلق عليه بفترات الذروة، محدودة في فترتين زمنيتين، هما في الصباح أثناء الذهاب إلى العمل وبعد الانتهاء من الدوام الرسمي ولمدة سويعات قليلة وفي شوارع معروفة، ولكن اليوم تحول الازدحام إلى ظاهرة عامة مقلقة يشاهدها كل الناس وفي جميع الساعات، حتى أن أخلاقيات الناس وسلوكياتهم وتصرفاتهم أثناء السياقة قد تغيرت وأصبحت أكثر حدة وأنانية وغضب نتيجة لطول الانتظار في الشوارع، وبطء الحركة المرورية.

فشدة الازدحام هي واحدة فقط من التداعيات والانعكاسات التي تنتج عن ظاهرة الازدياد المتعاظم في أعداد السيارات، وهي من أكثرها وطأة على الناس لأنهم يشاهدونها أمامهم كل ساعة من اليوم والليلة ويعانون منها بشكلٍ مباشر.

ولكن في الوقت نفسه يجب أن لا نحصر ونختزل مردودات ارتفاع أعداد السيارات في قضية الازدحام المروري فقط والحوادث المؤلمة التي نراها أمامنا في كل يوم، فهناك تداعيات أخرى كثيرة ومتشعبة لا تقل تأثيراً علينا وعلى صحتنا وبيئتنا وتنميتنا وأمن الطاقة في بلادنا من الازدحام.

فهناك أولاً الجانب البيئي الصحي المتمثل في ارتفاع نسبة الملوثات التي تنبعث من عوادم أكثر من 711 ألف سيارة، أو كما أُطلق عليها مصانع صغيرة متحركة، ومن الملوثات الشديدة التأثير على جودة الهواء الجوي الدخان، أو الجسيمات الدقيقة وبالتحديد الصغيرة في الحجم التي لها القدرة على اختراق أعماق الجهاز التنفسي في الشعاب الهوائية في الرئتين والتراكم فيهما، كما أنها في الوقت نفسه قادرة على الانتقال من الرئتين إلى مجرى الدم والوصول إلى كل خلية من خلايا جسم الإنسان مهما كانت بعيدة، فالدراسات اكتشفت هذه الجسيمات الكربونية السوداء في مخ الإنسان، وفي خلايا القلب، وفي مشيمة الأم الحامل. كما أن هناك ملوثات معروفة بأنها تسبب السرطان وتنطلق من جميع السيارات، مثل البنزين، والمركبات العطرية متعددة الحلقات، والعناصر الثقيلة، وغيرها من آلاف الملوثات الأخرى. ولا شك بأن هذا الخليط السام والمسرطن من ملوثات عوادم السيارات التي تدخل الهواء الجوي في كل ثانية تمثل تهديداً خطيراً للأمن الصحي للناس على المدى البعيد.

كما أن مشكلة السيارات البيئية تتمثل أيضاً في آلاف الأطنان من المخلفات السائلة والصلبة التي تنتج يومياً من الصيانة الدورية للسيارات، إضافة إلى مخلفات السيارات القديمة نفسها بعد أن ينتهي عمرها الافتراضي، فكل هذه المخلفات تشكل تحدياً كبيراً للمسؤولين عنها، وبحاجة إلى إدارة سليمة من الناحيتين البيئية والصحية. 

كذلك فإن ظاهرة الازدياد في السيارات تمثل عبئاً كبيراً على أمن الطاقة في البحرين، وبخاصة الجهات المعنية عن تكرير النفط وتوفير وقود السيارات من جازولين وديزل بشكلٍ يومي لهذه الأعداد المهولة التي تستنزف مع الوقت هذا المصدر غير المتجدد والناضب للطاقة وبالتحديد لوقود السيارات، فهل تستطيع هذه الجهات تلبية هذه الاحتياجات المتزايدة من الوقود؟ وهل ستنجح في السنوات القادمة من مواكبة متطلبات الوقود لهذه السيارات؟

إن ما ذكرتُه لكم هو غيض من فيض من المردودات الكبيرة والمعقدة التي لها علاقة بارتفاع أعداد السيارات في البحرين، وكل هذه المردودات المتشعبة البيئية، والصحية، والاجتماعية، والاقتصادية، والتنموية تؤكد ضرورة إيجاد حلٍ متكامل وشامل لا يقتصر فقط على تشييد الشوارع، ولا يلقي عبء الحل على كاهل وزارة بعينها، وإنما يجب أن يشترك الجميع ويسهم في الحل، من جهات تشريعية، وتنفيذية، وأهلية، كل حسب تخصصها ومسؤولياتها.