الأربعاء، 20 نوفمبر 2019

هل عاصفة التلوث الهندية ستصل إلينا؟



أيام وأسابيع عصيبة وطويلة مرَّت على بعض المدن الهندية، وبخاصة العاصمة نيودلهي، فقد نزل عليها ضيف ثقيل لا يريد أن يغادرها، وحلَّت عليها غمامة مرضية قاتلة مشبعة بخليطٍ معقد وسام من الملوثات فغطتها من فوقها إلى أسفلها، ومثل هذه السحابة العصيبة إذا نزلت على الإنسان فستُسبب له الوقوع في فك السرطان والأمراض المستعصية الأخرى، فإما أن تلقيه فوراً صريعاً ميتاً فيُنقل إلى مثواه الأخير، وإما أن تنقله سريعاً إلى قسم الطوارئ في المستشفيات وهو يعاني من ضيق في التنفس وآلام حادة في الصدر، أو مشكلات وأزمات في القلب، حتى أن المستوصفات والمستشفيات عند وقوع مثل هذه الحالات في الكثير من مدن العالم تمتلأ بهؤلاء الضحايا الذين يسقطون فريسة لهذا التلوث العقيم.

ففي مدينة نيودلهي في عدة أسابيع من شهر نوفمبر، زحفتْ هذه الغمامة الكثيفة الرصاصية اللون والملبدة بالدخان والجسيمات الدقيقة والملوثات الأخرى إلى قلب المدينة، فأحدثتْ شللاً تاماً في الحياة، وتحولت إلى مدينة أشباح لا حياة فيها، فكافة أنواع وسائل المواصلات لم تغادر مواقعها وبقت في تلك الأيام في أماكنها، فالطائرات القادمة من المدن والدول الأخرى لم تستطع الهبوط بسبب انعدام الرؤية وتم تحويلها إلى مطارات أخرى، والطائرات القابعة في المطار لم تتمكن من التحرك والمغادرة والإقلاع، كما تم إغلاق المدارس وتغيب الناس عن أعمالهم لعدة أيام حفاظاً على صحة الصغار والكبار، كذلك فإن السيارات لم تتمكن من الحركة لضعف الرؤية في الطرقات، وخَلتْ الشوارع من الناس لاضطرارهم إلى المكوث في منازلهم خوفاً من التعرض لهذا التلوث العقيم الذي لم يأت على شيء إلا جعله كالرَّميم، ونتيجة لهذه الحالة البيئية والصحية الكارثية أُجبرت الحكومة الهندية إلى إعلان حالة الطوارئ الصحية في العاصمة.

وهذا الوضع المأساوي الذي نزل في تلك الأيام والأسابيع العصيبة على العاصمة الهندية لم يكن يحدث لأول مرة، وإنما تحول إلى ظاهرة عامة تقع على هذه المدينة ومدن هندية أخرى كثيرة، حتى أن مدينة نيودلهي، حسب تقرير منظمة الصحة العالمية الصادر في عام 2018، استحقتْ وبكل جدارة لقب المدينة الأشد تلوثاً وفساداً للهواء الجوي في العالم، حيث صُنِّفت العاصمة الهندية بأنها أكثر مدينة في العالم معاناة من داء تلوث الهواء، كما أن هناك عشر مدن هندية أيضاً تصدرت قائمة مدن العالم الأكثر تدهوراً وفساداً لنوعية الهواء الجوي.

فما هي الأسباب والمصادر التي تؤدي إلى انكشاف مثل هذه الظاهرة البيئية الصحية الخطيرة في هذه المدن الهندية، وبخاصة في العاصمة؟

فبعد دراستي لهذه الحالة الهندية المستمرة منذ سنوات والتي تنزل على الكثير من مدنها في مواسم معينة، تبين لي بأن هناك مجموعة من المصادر والأسباب تتجمع كلها مع بعض وتعمل بشكلٍ تعاوني تراكمي، وتحت ظروفٍ طبيعية مناخية محددة فتُوقع هذه الكارثة الصحية البيئية. فهناك المصادر البشرية لتلوث الهواء وعلى رأسها أكثر من تسعة ملايين سيارة يعملون بوقود الجازولين أو الديزل ويجوبون ليلاً ونهاراً شوارع نيودلهي، وهذه السيارات والتي أُطلق عليها المصانع الصغيرة المتحركة تبث سمومها وبخاصة الدخان أو الجسيمات الدقيقة في كل أرجاء المدينة، كما أن هناك مصادر أخرى تُسمم الهواء الجوي كالمصانع، وعمليات البناء والإنشاء، وحرق المزارعين للمحاصيل التي انتهى موسم جنيها وحصادها لتسوية الأرض وإعدادها للموسم والمحصول الزراعي الجديد، إضافة إلى الألعاب النارية التي تُطلق إلى السماء أحجاماً كبيرة من الملوثات أثناء أعياد الهندوس. وفي الوقت نفسه هناك الظروف المناخية الطبيعية التي لا دخل لأيدي البشر فيها والتي تُسهم بدرجة فاعلة في تراكم الملوثات وتجمعها ومنع انتشارها وتخفيف تركيزها في الهواء الجوي، مثل ضعف حركة الرياح وانخفاض سرعتها، ونزول الهواء الضبابي البارد، إضافة إلى ظاهرة الانقلاب الحراري التي تُكوِّن طبقة فوقية تمنع انتشار وحركة الملوثات إلى الطبقات العليا فتَحْبِسها في الطبقات السفلى التي يتعرض لها الناس مباشرة، فتَكُون عندئذٍ نسبة الملوثات في تلك الحالة مرتفعة جداً وتؤدي إلى وقوع الأضرار الصحية البشرية الحادة والمزمنة.

وجدير بالذكر فإن هذه الحالة الهندية ليست مقتصرة على المدن الهندية وحدها، وإنما هي ظاهرة دولية عامة تنزل على الكثير من مدن العالم الحضرية المكتظة بالسيارات والمصانع، كما أن هذه الحالة البيئية الصحية القاتلة ليست وليدة اليوم وإنما هي مشكلة مزمنة وظاهرة مرضية يعاني من وجودها المجتمع البشري لأكثر من قرنٍ من الزمان ولم ينجح الإنسان حتى يومنا هذا بالرغم من تطوره العلمي وتقدمه التقني والفني في التخلص منها كلياً، والتاريخ شاهد على هذه الحقيقة.

فهناك كوارث بيئية صحية لها علاقة بتلوث الهواء وقعت خلال المائة سنة الماضية، واحْتلتْ مكانه بارزة ضمن الحوادث التاريخية الخالدة التي نُقشت وحُفرت في كتب التاريخ، وأَذكرُ هنا أمثلة على الكوارث الأشد بأساً والأكثر تنكيلاً بصحة الإنسان. ففي الفترة من 27 إلى 31 أكتوبر عام 1948 في مدينة دونورا بالقرب من مدينة بتسبرج بولاية بنسلفانيا الأمريكية، حلَّ على المدينة دخان كثيف وضباب أسود قاتم، فحول النهار ليلاً، وانعدمت الرؤية طوال هذه الأيام العصيبة، وأُعلنت حالة الطوارئ الصحية البيئية وبخاصة عندما سقط الناس صرعى يعانون من ضيق التنفس وآلام في الصدر ومتاعب في القلب، فمات أكثر من 26 على الفور ومرض أكثر من نصف سكان المدينة. وفي الأسبوع الأخير من ديسمبر عام 1952 وقعتْ في قلب العاصمة البريطانية لندن مجزرة جماعية بسبب تلوث الهواء الجوي فسقط عشرات الآلاف من الناس، فمنهم من قضى نحبه فوراً، وبلغ عددهم نحو أربعة آلاف شخص خلال أسبوع واحد فقط، ومنهم من أُدخل إلى الطوارئ ليتلقى العلاج من السموم التي استنشقها في الهواء الجوي. ومنذ الأربعينيات من القرن المنصرم وحتى يومنا هذا، ومدينة لوس أنجلوس الأمريكية تعاني من الضباب الضوئي الكيميائي المشبع بسموم عوادم السيارات والذي ينزل عليها بين الحين والآخر، والعاصمة الصينية يُضرب بها المثل منذ عقود من شدة تلوث الهواء الجوي.

فمشكلة تلوث الهواء قديمة جداً ومستمرة في الكثير من مدن العالم والإنسان يقف عاجزاً أمامها، ونحن في البحرين سائرون في الطريق نفسه، فأعداد السيارات تزيد بنسبة أكثر من 10% سنوياً وتتحرك في مساحة جغرافية ضيقة، والمصانع ومحطات توليد الكهرباء تزيد يوماً بعد يوم، فماذا أعددنا لمواجهة ذلك اليوم العصيب؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق