الثلاثاء، 5 نوفمبر 2019

قضية خطيرة تُحال إلى الأجيال اللاحقة


لفت انتباهي الخبر المنشور في كافة وسائل الإعلام في الشرق والغرب في 16 أكتوبر من العام الجاري تحت عنوان:" علماء الآثار يكتشفون أكثر من ثلاثين تابوتاً مغلقاً كما تركه المصريون القدماء"، وقد جاء في الخبر بأن الحكومة المصرية ممثلة في وزارة الآثار تعلن عن اكتشاف أكثر من ثلاثين تابوتاً فرعونياً خشبياً محكم الإغلاق في مقبرة العساسيف في مدينة الأقصر جنوب مصر، ومازالت هذه التوابيت عليها النقوش والرسوم القديمة الملونة. ويُعد هذا الاكتشاف الأهم والأكبر خلال سنوات من البحث والتنقيب والحفر تحت الأرض عن الآثار الفرعونية القديمة، علماً بأن تاريخها يرجع إلى آلاف السنين ما بين 1994 قبل الميلاد إلى 332 قبل الميلاد.

فاليوم العلماء يبحثون فوق الأرض وتحتها، وفي أعماق مختلفة من بطن الأرض في كل المواقع المحتملة في كل بقعة من كوكبنا عن الآثار القديمة وحضارات الأمم والشعوب الغابرة قبل آلاف السنين والأدوات التي كانوا يستخدمونها والمستوى العلمي الذي وصلوا إليه، وهذا ما سيحدث بالضبط بعد سنواتٍ طويلة جداً تمرُ علينا، فيقوم علماء ذلك الزمان الذين يأتون من بعدنا بقرونٍ طويلة للكشف عن تاريخنا، والتنقيب والحفر في أعماق الأرض عن حضارتنا، والبحث عن ثقافتنا وعاداتنا وتقاليدنا.

فماذا يا تُرى سيجدون من بقايا حضارتنا؟
وما هي المفاجآت التي تنتظرهم بعد الحفر والتنقيب تحت الأرض، أو في أعماق البحار؟

أما نحن فبعض ما سنوَّرثه ونتركه للأجيال اللاحقة هو "كوكتيل" من كافة أنواع المخلفات الصلبة السامة، والمسرطنة، والمشعة، والقابلة للانفجار، فجيلُنا الحالي بدأ يكتشف ويعثر بالصدفة على بعض مخلفات الحروب قبل نحو تسعة عقود من الزمن، سواء في أعماق التربة أو على السطح، أو في أعماق البحار، والأجيال بعد آلاف السنين فستعثر على مخلفات في باطن الأرض تم تخزينها ودفنها لقلة حيلتنا وضعف قدراتنا العلمية والتقنية في معالجتها والتخلص منها، فقرَّرنا إحالتها إلى الأجيال اللاحقة وتوريثها لمن يأتي بعدنا آلاف السنين.
 
أما على المدى القريب وخلال أقل من مائة سنة فإننا نجد الآن في مواقع مختلفة على اليابسة وفي البحر مخلفات الحروب التي أهملناها وتركناها لكي تكتشفها الظروف والصدف، وقد تكون في بعض الأوقات مهلكة وقاتلة لأنها قنابل لم تنفجر، أو صواريخ حاملة للمواد الكيميائية السامة والمتفجرة، أو ذخائر حية لم تنفجر عند إلقائها في البر أو في البحر. فهناك مخلفات الحربين العالميتين الأولى والثانية، أي مخلفات جاثمة في بيئتنا منذ نحو مائة عام، وهي بين الحين والآخر تَكْشفُ عن نفسها فتُذكرنا بهذه الحروب المؤلمة والدمار الشامل الذي وقع لبعض الشعوب ودولهم. وآخر هذه المخلفات التي تم العثور عليها، وحتماً لن تكون الأخيرة، كان في 17 أكتوبر من العام الجاري في مدينة هامبورج الألمانية، مما أدى إلى توقف الحياة كلياً وحدوث شلل تام في وسائل النقل ومن بينها إغلاق المطار، إلى أن تم تأمين المنطقة كلياً والتخلص من هذه القنبلة. كما تم الاكتشاف في العشرين من أكتوبر من العام الجاري على حاملتين يابانيتين للطائرات جاثمتين في الأعماق السحيقة المظلمة للمحيط الهادئ تبلغ أكثر من خمسة كيلومترات، حيث أُغرقتا من القوات الأمريكية أثناء الحرب العالمية الثانية في معركة ميد واي(Midway) في يونيو 1942، ولا أحد يعلم عن المخلفات الخطرة الموجودة في الحاملتين من قنابل وطوربيدات وذخائر، وأخيراً وليس آخراً تم اكتشاف غواصة بريطانية في مياه مالطا في الأول من نوفمبر من العام الجاري كانت مفقودة منذ الحرب العالمية الثانية، أي منذ أكثر من سبعين عاماً.

وأما على المدى البعيد جداً وبعد آلاف السنين فهناك مفاجآت غير سارة، ومخلفات دمار شامل تنتظر المستكشفين والعلماء الذين يبحثون عن آثار ومقتنيات القرن الحالي. فجميع الدول النووية التي طوَّرت الطاقة الذرية، سواء لأغراض عسكرية تتمثل في القنابل الذرية والصواريخ ذات الرؤوس النووية، أو لأغراض غير عسكرية كتوليد الطاقة في محطات توليد الكهرباء أو الغواصات والسفن التي تعمل بالطاقة النووية، فجميع هذه الدول لديها مخزون ضخم من مخلفات الدمار الشامل، وهذه الدول كلها عجزتْ واستسلمت ورفعت الأعلام البيضاء في إيجاد حلٍ جذري مستدام لهذه القضية التي بلغ عمرها أكثر من ثمانين عاماً، وكان الحل الأسهل والأقل كلفة إحالة هذه القضية برمتها إلى الأجيال المستقبلية اللاحقة من خلال دفنها في مقابر جماعية تحت الأرض أو فوقها وفي مواقع تكون بعضها سرية لا يعلم عنها أحد، فحمَّلتها عبئاً ضخماً عصيباً، سيرهق كاهلهم، وربما أيضاً لن يجدوا لها الحل الناجع والسليم والدائم.

فعلى سبيل المثال، تقوم فرنسا بتطوير مقبرة جماعية ستكون المثوى الأخير لمخلفاتها النووية في موقع في شمال فرنسا أُطلقَ عليه سيجو(Cigéo)، وهذه المخلفات منها بقايا الوقود المستنفد غير الصالح لتوليد الكهرباء، ومنها المخلفات المشعة الناجمة عن معالجة هذا الوقود وبعض المخلفات المشعة الأخرى، ومنها المخلفات الأقل إشعاعاً وهي مكونات المفاعل النووية القديمة التي تمت إحالتها على التقاعد، علماً بأن الجزء الأكبر من هذه المخلفات مخزن الآن في مواقع محددة فوق سطح الأرض، أو في الطبقات السفلى القريبة جداً من السطح. وفنلندا أنشئت مرافق لتخزين المخلفات المشعة في الأعماق السحيقة تحت الأرض وأُطلق عليها أونكالو(Onkalo)، حيث سيتم إغلاقها إلى الأبد حتى يكتشفها من يأتي بعدنا بآلاف السنين. وفي الولايات المتحدة الأمريكية فهناك مئات المواقع التي تحتوي على مخلفات الدمار الشامل منها فوق الأرض ومنها مخزنة تحت الأرض، ومن أكبر هذه المواقع وأكثرها تهديداً للبشرية في هذا الجيل والأجيال اللاحقة هي مدينة هانفورد بولاية واشنطن والتي كانت مقراً لمشروع منهاتن أثناء الحرب العالمية الثانية لتطوير القنبلة الذرية. وفي المقابل هناك المخلفات المشعة المدفونة في جزر المارشال في المحيط الهادئ، وفي روسيا، والهند، وباكستان، وبريطانيا، وألمانيا، وكوريا الشمالية والجنوبية، واليابان، وإيطاليا، وأستراليا، والصين، والكيان الصهيوني، ودولة جنوب أفريقيا، وقريباً ستكون بعض دول الخليج من ضمن هذه القائمة الطويلة.  

فكيف نُحذر وننبه الأجيال القادمة بعد سنواتٍ طويلة من التهديدات التي تُشكلها مقابر المخلفات على حياتهم وعلى الكرة الأرضية برمتها، سواء عند عمليات الاستكشاف والتنقيب، أو عند وقوع الزلازل، أو عند نزول الأعاصير والفيضانات المدمرة؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق