الاثنين، 30 يناير 2023

تعاظم واتساع دائرة التلوث الضوئي

من الممارسات التلقائية الروتينية والفطرية التي يقوم بها كل إنسان يومياً قبل أن ينام هو إطفاء المصابيح والأنوار كلياً، أو جعل الأضواء في غرفة النوم خافتة وخفيفة جداً لكي ينام نومة هانئة ومطمئنة ومريحة.

 

فهل جربتَ يوماً أن تخلد إلى النوم ولكن مع فتح الأنوار دون إطفائها؟

 

لا شك بأنك إذا جعلتَ الأنوار والمصابيح مفتوحة في الغرفة التي تنام فيها ستَبقى مُضطرباً ومنزعجاً طوال الليل، وستتقلب يميناً ويساراً محاولاً أن تغمض عينيك فتنام، ولكن في أغلب الأحيان لن تنجح في أخذ قسط من الراحة والنوم، ولن تنعم مهما فعلت بنومٍ هادئ ومريح في تلك الليلة الطويلة، وهذا بالطبع سينعكس على أدائك وإنتاجك ونفسيتك ومزاجك في اليوم التالي أثناء النهار عند ذهابك لعملك.

 

فالله سبحانه وتعالى قد جعل الليل لباساً والنهار معاشاً، ففي الليل الدامس، وفي الظلام الحالك، وعندما تغيب أشعة الشمس ويذهب النهار ويختفي، يخيم ظلام الليل علينا جميعاً، وعندها فقط يرتاح الجسد ويسترخي، ويأخذ قسطاً من الراحة من عناء وتعب اليوم كله، وتنعم أعضاء الجسد برمتها من الخلايا البسيطة التي لا تُرى بالعين المجردة إلى باقي الأعضاء الكبيرة بالأمن والسلامة، ويقوم كل منها من الخلايا والغدد والهرمونات والعمليات الحيوية فيؤدي كل منها وظيفته المحددة لها أثناء الليل لكي يكون الجسد والنفس والعقل في حالة الاستعداد والجهوزية التامة بعد ذلك لمواجهة يومٍ طويل آخر.

 

فما يحدث الآن للكرة الأرضية من تحول الليل نهاراً في البر وفي أعماق البحار بسبب الأضواء الشديدة والمرتفعة، والأنوار العالية القادمة من أعالي السماء ومن فوق رؤوسنا من عشرات الآلاف من الأقمار الصناعية وغيرها التي تسبح في الفضاء وتسير حول الأرض في مدارات منخفضة، ومن سطح الأرض من أنوار المصابيح في الأسواق والمجمعات التي لا تنام، ومن السيارات التي لا تتوقف عن الحركة، ومن أعمدة الإنارة في الشوارع، فكل هذه المصادر المتزايدة والمتعاظمة سنوياً تُقلب موازين الحياة ومعادلاتها المتزنة والدقيقة، وتُحدث اضطراباً وشرخاً في النظام البيئي المتمثل في دور الليل ووظيفة النهار، وتنعكس على ما تعود عليه الإنسان والحياة الفطرية التي تعيش معنا من سلوك وتصرفات ومهمات، وتؤدي كل هذه المصادر الضوئية إلى ما يُطلق عليه الآن بالتلوث الضوئي، أو التلوث الناجم عن شدة الإضاءة أثناء الليل، فيصبح الليل نهاراً.

 

فهذه الظاهرة الجديدة لفتت أنظار العلماء، وشدَّت انتباههم إلى الدخول فيها من عدة أبواب، منها الباب المتعلق بواقعية الظاهرة ومدى اتساعها على مستوى كوكبنا، والثاني تأثيراتها وانعكاساتها على الصحة العامة للبشر، والثالث فهو مردودات هذا التلوث الضوئي وشدة الأنوار والأضواء الساطعة طوال الليل على الكائنات الفطرية من نباتات وحيوانات وطيور التي تعيش معنا على كوكبنا، سواء التي تنام عند حلول الظلام، أو التي تنشط وتبحث عن غذائها وتنتقل من منطقة إلى أخرى فتهاجر بعد غياب الشمس ونزول الظلام. وهذا الباب في تقديري هو المهم والذي يجب معرفة تفاصيله، فالإنسان يستطيع أن يتكلم ويتصرف عندما يعاني، وبقدرته أن يتكيف فيغير الظروف التي يمر بها ويحسن من نمط حياته، ولكن الكائنات الفطرية النباتية والحيوانية في البر والبحر والجو التي هي القاعدة الأساسية التي تستند عليها استدامة حياة الإنسان على الأرض إلى من تشتكي، وكيف تتصرف؟ وكيف لنا أن نعرف معاناتها والأضرار التي تلحق بها بسبب التلوث الضوضائي؟ وكيف لنا أن نُحدد نوعية وحجم تأثير وانعكاس هذه الأضرار التي تُصيب الحياة الفطرية على الإنسان نفسه بشكلٍ مباشر أو غير مباشر وعلى المدى البعيد؟  

 

أما المجال البحثي الأول فيؤكد اتساع رقعة المساحة التي تتعرض للتلوث الضوئي على كوكبنا وزيادتها بشكلٍ سنوي، حيث قدَّرت بعض الدراسات إلى أن قرابة 80% من الأرض تعاني بدرجة أو بأخرى من هذا النوع من التلوث العقيم، كما أفاد البحث المنشور في مجلة "العلوم"( Science) في 19 يناير 2023 تحت عنوان:" "تقارير العلماء حول الانخفاض السريع لرؤية النجوم من 2011 إلى 2022"، إلى أن السماء تزيد فيها نسبة الإنارة أثناء الليل بشكلٍ متسارع بسبب المصابيح على الأرض، فالإنارة ارتفعت بنسبة 9.6% سنوياً من 2011 إلى 2022، كذلك فإن عدد النجوم التي تُرى بالعين المجردة انخفض بنسبة مرتفعة تتوافق مع الزيادة السنوية لنسبة الإضاءة للسماء نتيجة للنمو السكاني المطرد، وتوسع وازدياد المدن الحضرية، واستخدام مصابيح حديثة، وبالتحديد الـ إل إي دي(LED).

 

والمجال البحثي الثاني فيركز على تغير نماط وسلوكيات الحياة الفطرية من نباتات وحيوانات وطيور نتيجة لتغير معادلة نسبة الضوء في الليل والنهار وارتفاع الأنوار أثناء الليلة خاصة. فعلى سبيل المثال، نُشرت دراسة في العاشر من يوليو 2019 في مجلة "رسائل علم الأحياء"(Biology Letters) تحت عنوان: "الضوء الصناعي في الليل يسبب فشل التكاثر في نوع من الأسماك"، حيث يقوم هذا البحث بدراسة تأثير الضوء الليلي على تكاثر سمك المهرج(clownfish)، وأفادت النتيجة إلى أن بيض هذه السمكة لم يفقس عند التعرض للضوء في فترة الليل، مما يعني على المدى البعيد انقراض هذه السمكة المرجانية من بحار العالم. كذلك من المعروف علمياً أن السلاحف البحرية تتجنب وضع البيض في مناطق ساحلية شديدة الأنوار والإضاءة أثناء الليل، إضافة إلى حدوث تغيرٍ في سلوك وخط سير وتحليق الطيور المهاجرة التي فُطرت عليها جيلاً بعد جيل أثناء الليل استناداً إلى نتائج الدراسة المنشورة في 14 مارس 2018 في مجلة "تقارير علمية" تحت عنوان: "التلوث الضوئي في طريق هجرة الطيور الليلية حول العالم"، إضافة إلى الدراسة المنشورة في مجلة "الطبيعية" في 30 مارس 2021 تحت عنوان: "التلوث الضوئي للأقمار الصناعية في كل مكان".

 

ومن جانب آخر فإن أنماط حياة النباتات تغيرت بسبب التلوث الضوئي والتغير المناخي وارتفاع حرارة الأرض، فالربيع يحل عليناً مبكراً الآن، وعلامات ومؤشرات هذه الظاهرة الجديدة هي أن النباتات تفتح ورودها في أوقات أبكر من الوقت الطبيعي المعروف منذ آلاف السنين، والطيور تغرد في ساعات أبكر، حسب نتائج الدراسة تحت عنوان: "التلوث الضوئي له علاقة بظهور البراعم أبكر في الأشجار في المملكة المتحدة"، والمنشورة في 29 يونيو 2016 في مجلة "وقائع الجمعية الملكية"( Proceedings of the Royal Society B)، إضافة إلى الدراسة تحت عنوان: "التلوث الضوئي يجعل الطيور تبني عشها في وقت أبكر"، والمنشورة في 15 ديسمبر 2020 في مجلة "الطبيعة"، مما يعني حدوث تغيرٍ في موعد تكاثر الطيور. وعلاوة على ذلك فإن الخنفساء البرية من نوع (dung beetles)في دولة جنوب أفريقيا تتحرك فطرياً أثناء الليل بمساعدة أجرام السماء، وبالتحديد "درب التبانة"(Milky Way)، ولكن مع شدة الأنوار الآن يصعب عليها رؤيتها، فتضيع طريقها وتنحرف عن مسارها الفطري الطبيعي، مما يسبب لها اضطراباً وتشوشاً كبيراً في حياتها الليلية، وربما يؤدي مع الوقت إلى فنائها وانقراضها.

 

وأما المجال البحثي الثالث وهو تأثير هذا الخلل والاضطراب الذي نزل على الحياة الفطرية من حيوانات ونباتات وطيور في البر والبحر والجو بسبب التلوث الضوئي على حياة الإنسان نفسه، فهو مازال في بداياته، ولم تتضح الصورة كلياً بعد، ولكنني على يقين بأن الأبحاث العلمية المستقبلية ستؤكد الجوانب السلبية التي ستقع على البشر نتيجة لهذه الظاهرة الحديثة والمتعاظمة سنوياً، فهناك علاقة وثيقة مباشرة وغير مباشرة تربط الإنسان بهذه الكائنات الحية التي تعيش معنا.

 

وختاماً من المهم ذكره والاهتمام به هو أننا كبشر والحياة الفطرية، لا نعيش فقط تحت وطأة مشكلة واحدة فقط هي التلوث الضوئي بعيداً عن المشكلات الأخرى، ولكننا نعاني من الكثير من المشكلات القديمة والمتجددة والمستحدثة في الوقت نفسه، والتي نتعرض لها كل ساعة من حياتنا، مثل التغير المناخي وتدهور التنوع الحيوي والتلوث الكيميائي، وهذه المشكلات مجتمعة قد تعمل كلها مع بعض بصورة جماعية تعاونية ومتراكمة مع الزمن، فتؤثر على استدامة الحياة الفطرية وبالتالي استدامة بقاء الإنسان على وجه الأرض. 

الثلاثاء، 24 يناير 2023

التحدي الأكبر أمام الإنسان

التحديات التي يواجهها الإنسان كثيرة ومختلفة في نوعيتها وحجمها، ولكن هذه التحديات التي يعاني منها الإنسان مهما كانت معقدة وكبيرة فهي موجودة على سطح الأرض، وفي متناول يده وبين ظهرانيه، ويستطيع عقله وتتمكن خبرته، ولو بعد حين من إيجاد العلاج المناسب.

 

ولكن ماذا لو كان هذا التحدي فوق سطح الأرض، وعلى رؤوسنا وفي أعالي السماء البعيدة على ارتفاعات تزيد عن آلاف الكيلومترات، فكيف ينجح الإنسان أمام هذه التحدي، وهو بعيد كل البعد عن متناول يديه، وعن جميع الوسائل التقليدية المتاحة لديه حالياً؟

 

فهذا التحدي الجديد فريد في نوعه وحجمه، فلم يشهد له التاريخ البشري مثيلاً من قبل، وهذا التحدي يتعاظم ويتفاقم سنة بعد سنة، وقد يخرج كلياً عن سيطرة وتحكم الإنسان عليه، فيدمر كل ما بناه وسهر عليه وبذل الجهد والمال طوال القرون الماضية.

 

هذا التحدي هو مئات الملايين من مخلفات الإنسان الصغيرة جداً بحجم فاكهة الكرز وأصغر منها، أو بحجم الليمون، والكبيرة بحجم سيارة أو حافلة، والتي هجرها وتركها الإنسان تسبح في الفضاء فتلقى مصيرها المجهول في ذلك المكان المجهول على ارتفاع أكثر من عشرة كيلومترات فوق سطح الأرض، فتسير في مدارات منخفضة حول الأرض، وبسرعة فائقة جداً تبلغ أكثر من 20 ألف كيلومتر في الساعة، ويُطلق عليها العلماء "مخلفات الفضاء"(space debris).

 

وحسب تعريف "ناسا" أو "الإدارة القومية للملاحة الجوية والفضاء" ، فهناك مصدران لهذه المخلفات الفضائية، الأول مصادر طبيعية موجودة في الكون مثل النيازك(meteoroid)وهي تسبح في الفضاء في مدارات حول الشمس، والثاني، وهو الأهم والأخطر والأشد تهديداً على المدى البعيد، فهو المصدر "الصناعي"، أي الذي من صُنع أيدينا، ونحن الذين تسببنا في وجودها لقصر نظرنا، وقلة خبرتنا وعلمنا، وعدم التفكير والتخطيط مسبقاً لتداعيات كل عمل تنموي نقوم به، أو منتج استهلاكي نقوم بصناعته وإدخاله في بيئتنا. فهذه المخلفات التي نتحمل مسؤولية مكوثها في الفضاء من أهمها وأخطرها وأكثرها شيوعاً هي الأقمار الصناعية المهجورة نتيجة لانتهاء صلاحياتها ومهماتها، ولذلك فإنها تُركت هناك في المدار الأرضي المنخفض لمصير لا يعلم عنه إلا الله، ولتداعيات لا تُحمد عقباها، ولا يستطيع أحد أن يتكهن بنوع التهديدات التي ستسببها للكرة الأرضية والإنسان. كما أن هذه الأقمار المجهولة قد تصطدم مع بعض فتُكون الآلاف من المخلفات الأصغر حجماً، والتي قد تصطدم بالسفن الفضائية المأهولة فتُحدث ثقباً بها، وقد تهدد حياة رواد الفضاء بالخطر، كما هو الحال بالنسبة لـ"محطة الفضاء الدولية"(International Space Station)و(SpaceX's Crew Dragon).

 

ومن المهم ذكره أن هذا التحدي يتنامى مع الوقت، ويتعاظم تأثيره، وتتعقد انعكاساته على الأجسام والمَرْكبات الموجودة في الفضاء وعلى الإنسان والحياة فوق سطح الأرض. فأعداد الأقمار الصناعية التي تُطلق في الفضاء في تزايد مطرد مع الوقت، وخاصة بعد إنتاج الأقمار الصناعية الصغيرة الحجم. فعلى سبيل المثال، الأقمار الصناعية التي كانت تُدشن سابقاً إلى الفضاء من الحكومات والشركات الخاصة كانت تتراوح بين 80 إلى 100 قمر صناعي سنوياً، ثم زاد العدد إلى 1000 قمر صناعي في عام 2020، و 2000 في عام 2022. وأما عن الأقمار الصناعية التي تدور حول الأرض، ومعظمها على ارتفاع منخفض نحو 1000 كيلومتر فوق سطح الأرض، وحسب تقرير(Union of Concerned Scientists)، كان هناك 1700 قمر صناعي في المدار الأرضي المنخفض في عام 2016، وفي عام 2023 وصل إلى 54 ألف، ومن المتوقع أن يرتفع إلى نسبة غير مسبوقة فيصل إلى 57 ألف بحلول 2030.

 

وقد صنَّف العلماء المختصون هذه الأقمار الصناعية حسب حجمها وقطرها. فهناك الأقمار الصناعية التقليدية القديمة الكبيرة، التي وزنها أكبر من ألف كيلوجرام، وموجودة في مدار يُطلق عليه(geostationary orbit (GEO)) على ارتفاع نحو 35 ألف كيلومتر فوق سطح الأرض، وهي الأعلى ارتفاعاً، ثم الحجم الوسط، ووزنها يتراوح من 500 إلى ألف كيلوجرام، والحجم الصغير من 100 إلى 500 كيلوجرام، ثم الميكرو من 10 إلى 100 كيلوجرام في المدار الأرضي المنخفض(low-Earth orbit)، وبعد ذلك في الحجم يأتي النانو الذي يتراوح وزنه من 1 إلى 10 كيلوجرامات، وأخيراً البيكو الذي يمكن حمله باليد، ووزنه أقل من كيلوجرام واحد.

 

فكل هذه الأعداد الهائلة والمتعاظمة من الأقمار الصناعية الموجودة حالياً فوق سطح الأرض وفي مدارات حول الأرض، إضافة إلى الأقمار التي تُطلق سنوياً، تمثل تهديداً واقعياً يتمثل في تصادمها مع بعض بعد انتهاء وظيفتها، ثم تناثرها وتفتتها إلى عشرات الآلاف من القطع الصغيرة التي تصطدم بعضها ببعض، أو تصطدم بالسفن الفضائية المأهولة برواد الفضاء، فكل قطعة من هذه المخلفات الفائقة السرعة تعمل كقنبلة فضائية تُفجر أجساماً سماوية صناعية قد تسقط كالمطر على الأرض مع الوقت، وتمثل تهديداً لسكان الأرض والبنية التحتية. وقد اختلفت التقديرات حول حجم وعدد هذه المخلفات الفضائية. فعلى سبيل المثال، نَشرتْ "ناسا" تقريراً في 26 مايو 2021 تحت عنوان: "مخلفات الفضاء والسفن الفضائية"، وفي هذا التقرير قدَّرت بأن هناك قرابة 23 ألف قطعة مخلفات في المدارات أكبر من كرة التنس الأرضي، أو أكبر من الليمون، ونحو نصف مليون كقطع الرخام الصغيرة أو الكرز وبحجم أكبر من سنتيمتر واحد، ومائة مليون بقطر نحو مليميتر واحد فقط، أو أصغر من ذلك. كما حصرت شبكة الفضاء الدولية التابعة لوزارة الدفاع الأمريكية(Global Space Surveillance Network)، ومكتب الأمم المتحدة لشؤون الفضاء الخارجي(United Nations Office for Outer Space Affairs) العدد الذي قطره نحو 20 سنتيمتراً أو أكبر بنحو 27 ألف قطعة صغيرة.

 

ونظراً لأن بيئة الفضاء الخارجي تعد ملكية عامة للبشرية، وبيئة جماعية مشتركة تخص كل دول العالم، فقد دخلت الأمم المتحدة لمواجهة التحديات التي يواجهها الإنسان والمشكلات التي يعاني منها. فأول آلية دولية اهتمت بتحديات الفضاء الخارجي كانت معاهدة الفضاء الخارجي(Outer Space Treaty)، أو ما يعرف رسمياً بمعاهدة المبادئ التي تَحْكم أنشطة الدول في استكشاف واستخدام الفضاء الخارجي، والتي دخلت حيز التنفيذ في 10 أكتوبر 1967. وهذه الاتفاقية من أهدافها تقنين استخدام الصواريخ بعيدة المدى التي تصل إلى الفضاء، كتجارب التدمير المتعمد للأقمار باستخدام الصواريخ طويلة المدى(anti-satellite missile system (ASAT)) والتي تنجم عنها عشرات الآلاف من المخلفات، وحظر استخدام أسلحة الدمار الشامل كالأسلحة النووية في الفضاء الخارجي، إضافة إلى الاستخدام السلمي للفضاء ومنع سيطرة وهيمنة دولة أو مجموعة من الدول على الفضاء.

 

ولكن كباقي معاهدات وقرارات الأمم المتحدة فإن الدول العظمى لا تعترف بها إذا تعارضت مع مصالحها القومية، مثل البند المتعلق بمنع استخدام الصواريخ طويلة المدى للتدمير المباشر للأقمار الصناعية وتَوَّلد المخلفات الفضائية عنها، فأمريكا بعد أن تعبت من إجراء هذه التجارب وانتهت صلاحيتها والأهداف من إجرائها، قامت بمنعها في 18 أبريل 2022، ولكن دولاً أخرى كالصين وروسيا مازالتا تجريان هذه التجارب.

 

وهذا ينطبق أيضاً على كيفية إدارة المخلفات الفضائية، ومن يتحمل مسؤولية إزالتها والتخلص منها. وهناك مقترحات كثيرة لعلاج ظاهرة المخلفات الفضائية المتزايدة ومواجهة هذا التحدي الأكبر، منها إنتاج قمر صناعي يسحب هذه المخلفات من الفضاء، ومنها إنتاج قمر صناعي يدمر نفسه بنفسه بعد الانتهاء من مهمته، ويُطلق عليه "قمر صناعي كروي مداري"(spherical orbital satellite)، كذلك هناك فكرة تدوير هذه الأقمار الصناعية بعد الانتهاء من عملها، ونشرت الولايات المتحدة الأمريكية دليلاً حول فكرة الصيانة والتدوير للقمر الصناعي(In-space Servicing Assembly and Manufacturing (ISAM) strategy).

 

وفي الواقع فإنني أرى بأن الدول الصناعية المتقدمة الكبرى التي ولجت منذ عقود في غزو الفضاء، وأَطلقتْ الأقمار الصناعية بكل أنواعها وأحجامها، وتسببت في تشبع مدارات الأرض بالمخلفات منذ أكثر من ثمانين عاماً، هي التي وحدها تتحمل المسؤولية الكاملة في التخلص منها، فالدول النامية لا ناقة لها ولا جمل ولا دور لمواجهة هذا التحدي العظيم، كما إنه يفوق قدراتها العملية والعلمية وخبراتها التقنية في هذا المجال المتطور والمعقد.

 

الخميس، 19 يناير 2023

متى سيصعد تلوث الهواء على رأس جدول أعمال الحكومة


ماذا ننتظر حتى نضع قضية تلوث الهواء ضمن أولويات برنامج الحكومة؟

 

وحتى متى ننتظر حتى يصعد تلوث الهواء إلى قمة جدول أعمال الحكومة؟

 

فهل ننتظر أن تنزل علينا كارثة بيئية وصحية كالتي نزلت على عدة دول من قبلنا، حتى نتحرك فنعطي الأهمية المطلوبة التي تستحق للتصدي لهذه القضية المهلكة للحرث والنسل والتي تُطلق عليها منظمة الصحة العالمية بالقاتل الصامت؟

 

وهل ننتظر حتى نعاني من طامة تلوث الهواء الجوي وتداعياتها المتعددة والعقيمة، كما هو الحال الآن في بعض المدن الحضرية المكتظة بالسكان ووسائل المواصلات؟

 

فإذا كُنا لا نريد أن نتعظ بقصص التاريخ قبل عقودٍ بسيطة من الزمن، فعلينا أن نستفيد ونتعلم من زلات الآخرين ومعاناتهم البيئية والصحية والاقتصادية والتنموية من تلوث الهواء اليوم، حسب ما نراه أمامنا، ونشاهده في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي الجماعي، فنَعْتبر من خبراتهم وهفواتهم وتقصيرهم في الاهتمام بجودة الهواء.

 

فهناك كوارث بيئية صحية وقعت في الماضي القريب في بعض مدن العالم تؤكد بأن تلوث الهواء قاتل، ويجعل الإنسان يلقى نحبه في سنٍ مبكرة، وهناك في الوقت نفسه حوادث متكررة حالياً تنزل على الكثير من المدن الصناعية العريقة وتبين الأضرار الصحية المستدامة التي يتعرض لها سكان هذه المدن سواء أكانت بصورة حادة أثناء زيارة السحب الملوثة والضباب السام لهذه المدن، أو بصورة أمراضٍ مزمنة نفسية، وعقلية، وفسيولوجية يعاني منها هؤلاء السكان، فتعكر عليهم صفاء حياتهم، وتصيبهم بأمراض "مركبة" ومتعددة في الوقت نفسه.

 

فلعل هذه النكبات البيئية الصحية توقظنا للمزيد من العمل نحو صيانة بيئتنا، وبخاصة الهواء الجوي، والتخطيط من الآن والعمل على منع مصادرها، أو الحد من انبعاثاتها إلى الهواء، قبل أن يفوت الأوان وتسقط الضحايا البشرية بين مريض وصريع. فالقارعة الأولى التي وثقتها كتب التاريخ البيئي بدأت صباح يوم الاثنين 25 اكتوبر 1948 في منطقة دونورا(Donora)القريبة من مدينة بتسبرج (Pittsburgh)بولاية بنسلفانيا( Pennsylvania) في الولايات المتحدة الامريكية، واستمرت المأساة التي حلَّت بالمدينة ستة أيام عجاف لا تكاد تنتهي، حتى 31 أكتوبر 1948. ففي تلك الفترة المظلمة بدأ الضباب في التراكم والتكثف فوق رؤوس المواطنين، وأبى أن ينقشع ويزول حتى وصل الى درجة انعدام الرؤية بحيث أصبحت السياقة مستحيلة في شوارع المدينة، وشلت الحركة فيها، وقد تحول بياض الضباب الناصع إلى اللون الأسود الداكن، وتعكرت رائحته، فالهواء الذى لا طعم له ولا رائحة تحول الى هواءٍ فاسد له رائحة كريهة، وطعم فاسد ومميز غريب نتيجة للملوثات التي تشبعت به من السيارات والمصانع ومحطات توليد الكهرباء، فأُصيب قرابة 14 ألف مواطن بالسعال الشديد والصداع المزمن وحمى شديدة، وتهيج الأنف والعينين، وضيق التنفس، وتدهور في الجهاز التنفسي وأداء القلب، وسقط منهم أكثر من 30 ضحية لتلوث الهواء.

 

ومن الولايات المتحدة الأمريكية ننتقل إلى القارة الأوروبية وإلى عاصمة الضباب اللندنية، حيث يعيد التاريخ نفسه وبمشاهد أشد وطأة وأكثر ضراوة على الإنسان. ففي الفترة من 4 ديسمبر إلى 11 ديسمبر 1952 نزل الضباب الأسود الملوث فوق رؤوس الناس فلقي أكثر من 4000 لندني حتفهم في أسبوع واحد فقط واكتظت جميع المستشفيات بعشرات الآلاف من المرضى من هذا الضباب السام العقيم، علماً بأن مثل هذه الحالة المأساوية تكررت من قبل في ديسمبر 1873، وفبراير 1882، ويناير 1948، ولكنها كانت أقل ضراوة من هذه المذبحة الجماعية، ولذلك لم يتعلم الإنسان من تلك التحذيرات والإنذارات السابقة، فوقعت الطامة الكبرى واضطرت الإنسان للتحرك، فاجتمع البرلمان الإنجليزي كردة فعل على هذه الكارثة، وشكل لجنة تاريخية تسمى "لجنة بيفر" (Beaver Committee )، ثم سن قانون الهواء النظيف في عام 1956.

 

والدول الشرقية، وعلى رأسها اليابان لم تكن بمنأى عن أزمة تلوث الهواء وتداعياتها على صحة المجتمع، فمدينة يوكاياشي (Yokkaichi) التي انكشف فيها مرض يوكاياشي المزمن الذي أصاب عشرات الآلاف من سكان المدينة، والمعروف الآن بمرض الربو والأمراض الأخرى التي تصيب الجهاز التنفسي، هو أفضل مثال أُقدمه لكم على تفشي الأمراض المتعلقة بتلوث الهواء. ففي مطلع الستينيات من القرن المنصرم، وبعد افتتاح مجمع للبتروكيماويات، بدأت جودة الهواء تتدهور شيئاً فشيئاً حتى تحول الهواء الذي يقي صحة الإنسان إلى هواءٍ حمضي يقتل الإنسان، كما أن الأمطار التي كانت تنزل على المدينة أصبحت سماً قاتلاً يهلك البشر والحجر والشجر. ونظراً لهول هذه الكارثة على المجتمع الياباني، فإنها كُتبت في تاريخ اليابان ضمن الحوادث السياسية الكبيرة التي وقعت كالحرب العالمية الثانية وغيرها.

 

واليوم نرى أمامنا أمراضاً مزمنة تصيب البشر نتيجة لتلوث الهواء من خلال انكشاف ظاهرة تهدد حياة البشر منذ الأربعينيات من القرن المنصرم، ومازالت مستمرة وتنزل على الكثير من مدن العالم التي تعاني من كثرة مصادر التلوث وفساد الهواء الجوي. وتتمثل هذه الظاهرة الأليمة في تكون سحبٍ صفراء بنية اللون تُعرف بالضباب الضوئي الكيميائي(photochemical smog)، وينتج هذا الضباب نتيجة للملوثات التي تنبعث من السيارات، والمصانع، ومحطات توليد الكهرباء، وهذه الملوثات تتفاعل مع بعض وبوجود أشعة الشمس لتكون خليطاً ساماً من مجموعة من الملوثات المؤكسدة الشديدة الخطورة مثل غاز الأوزون. وهذه السحب المَرَضية عندما تظهر في السماء تُوقف عجلة التنمية كلياً في المدينة، وتشل حركة البشر ووسائل المواصلات، كما تُحذر وسائل الإعلام الرسمية الناس، وبخاصة الأطفال وكبار السن من الخروج من منازلهم، وتحثهم على تجنب الأنشطة خارج المنزل، كذلك تعلن المدينة حالة الطوارئ الصحية.

 

ومنذ أكثر من ثمانين عاماً والإنسان يعاني من هذه الظاهرة القاتلة، ولم يتمكن من القضاء عليها كلياً، فنسمع عنها في معظم المدن العريقة، مثل لوس أنجلوس ونيويورك في الولايات المتحدة الأمريكية، ولندن وباريس في القارة الأوروبية، وريو دي جانيرو والمكسيك في قارة أمريكا الجنوبية، وبكين وشنغهاي وطهران ونيودلهي في آسيا، وسيدني في أستراليا، ومدن كثيرة أخرى حول العالم.

 

ومؤشرات وقوع هذه الظاهرة حاضرة أمامنا في البحرين، ونحن سائرون في الطريق نفسه المؤدي إلى وقوعها ونزولها على رؤوسنا، وتتمثل هذه المؤشرات في الزيادة المطردة والمتسارعة والكبيرة في المصانع المتحركة، وهي السيارات، إضافة إلى المصادر الثابتة للتلوث التي تتعاظم أيضاً كالمصانع، ومحطات توليد الكهرباء وتحلية المياه، ومحارق المخلفات، كما أن مؤشراتها الواقعية التي نراها هي مشاهدة السحب الصفراء من وقت إلى آخر في الأفق في سماء البحرين.

 

ولذلك أتمنى من رؤية البحرين 2030 وبرامج الحكومة أن تُدمِج تلوث الهواء في كافة أنشطة الوزارات والهيئات كقضية مستقبلية من المحتمل كثيراً أن تقع، فنُخطط استباقياً من الآن لتجنبها، ونضع استراتيجية وقائية واضحة لمنع وقوعها من خلال اتخاذ جميع الإجراءات وبحزم وصرامة، لمنع مصادر تلوث الهواء، أو في الأقل خفض انبعاث الملوثات منها.

 

فلا نريد أن ننتظر أن تنزل علينا الكارثة البيئية الصحية التي نزلت على الشعوب الأخرى، ومازالت تنزل عليهم، حتى نتحرك ونعمل، فعندها يكون الضرر قد وقع وعمَّ الشعب كله، وستكون أعمالنا ردود فعل سريعة ومتعجلة لا تقضي على الكارثة من جذورها.    

 

الاثنين، 16 يناير 2023

لماذا نضطر إلى تغيير مواصفاتنا البيئية؟

أعلنتْ الحكومة الأمريكية ممثلة في وكالة حماية البيئة في السادس من يناير 2023 عن عزمها تغيير وتحديث المواصفة الخاصة بتركيز الدخان، أو الجسيمات الدقيقة في الهواء الجوي، والتي تنبعث من مصادر كثيرة منها ما هو في داخل المنزل في البيئات الداخلية، ومنها في البيئة الخارجية، مثل السيارات، ومحطات توليد الكهرباء، والمصانع، والتدخين، وحرق البخور والعود، والفرن المنزلي.

 

وهذا التحديث جاء استناداً إلى قانون "الهواء النظيف" الذي تمخض عنه النظام الخاص بـ"المواصفات القومية لجودة الهواء"( National Ambient Air Quality Standards)، والذي يفرض على وكالة حماية البيئة مراجعة وتقييم المعايير البيئية المتعلقة بجودة الهواء الجوي مرة كل خمس سنوات اعتماداً على المستجدات العلمية الخاصة بتأثير الملوثات الموجودة في الهواء الجوي على الصحة العامة، وبالتحديد هنا بالنسبة للدخان، أو المعروف علمياً بالجسيمات الدقيقة التي يقل قطرها عن 2.5 ميكروميتر.

 

فالمواصفة المقترحة حالياً والمعروضة على الشعب الأمريكي لإبداء الرأي وتقديم المقترحات خلال ستين يوماً، هي للحد من تلوث الهواء بالدخان والجسيمات الدقيقة من المصادر الصناعية وغير الصناعية، بحيث تكون هذه المواصفة الجديدة أكثر حزماً وفاعلية في خفض تلوث الهواء وحماية الصحة العامة، فيكون معدل المستوى السنوي للدخان يتراوح بين 9 أو 10 ميكروجرامات من الجسيمات الدقيقة في المتر المكعب من الهواء الجوي، علماً بأن المستوى الحالي والذي وُضع في عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما في عام 2012 هو 12 ميكروجراماً من الجسيمات الدقيقة في المتر المكعب من الهواء الجوي.

 

 والحقيقة فإن مثل هذا الإجراء المتمثل في تحديث وتغيير المواصفات والمعايير البيئية في الولايات المتحدة، أو في أية دولة في العالم له أهمية كبيرة وصب في تقديم مغانم كثيرة للناس، سواء أكانت بيئية، أو صحية، ويهدف إلى تحقيق وضرب عشرات العصافير بحجرٍ واحد فقط.

 

وهناك العديد من النقاط المتعلقة بتحديث وتغيير المواصفات البيئية بعد مرور فترة زمنية على وضعها، وهي كما يلي:

أولاً: المواصفات التي نضعها هي من اجتهاداتنا وبناءً على المعلومات العلمية البيئية والصحية المتوافرة لدينا في ذلك الوقت، فهي ليست كتباً سماوية لا تقبل التغيير والتطوير، وليست آيات قرآنية مُنزلة من رب العالمين فلا يُسمح لنا بإعادة النظر فيها وتعديلها مواكبة للمستجدات العلمية والأبحاث الحديثة. فوضع المعايير عملية ليست ثابتة وجامدة مع الزمن، وإنما هي عملية ديناميكية متجددة بعد كل حقبة زمنية، حيث إن نتائج الدراسات العلمية اليوم قد تختلف عن نتائج الدراسات قبل عشرات السنين، فاكتشافات الإنسان كثيرة في كل سنة، والمعلومات تتطور وتتجدد بين الحين والآخر. فقبل أكثر من عقد من الزمن المواصفة الخاصة بتركيز الجسيمات الدقيقة في الهواء كانت مقبولة وتفي بالغرض والهدف من وضعها، واليوم وبعد الاكتشافات الحديثة والدراسات المتقدمة تبين بأن هذه المواصفة القديمة لا تؤدي إلى حماية صحة الإنسان ولا تقيه من شر الأمراض الناجمة عن التعرض للدخان، ولو كان بنسب صغيرة جداً.

 

ثانياً: عملية وضع المعايير لا تعتمد كلياً على الجانبين البيئي والصحي ولا على اكتشافات ودراسات العلماء، وإنما تدخل عوامل أخرى عند تحديدها ووضعها، مثل العامل الاقتصادي، والسياسي، والتقني. فعلى سبيل المثال وبالنسبة للمواصفة الحالية المتعلقة بالدخان، فإن "اللجنة الاستشارية العلمية حول الهواء النظيف" في عهد الرئيس السابق ترمب أوصت بتغيير هذه المواصفة التي كانت 12 ميكروجراماً من الجسيمات الدقيقة في المتر المكعب من الهواء لعدم فاعليتها وفشلها في حماية صحة الناس، ولكن إدارة ترمب، ممثلة في وكالة حماية البيئة رفضت في 17 أبريل 2020 هذه التوصية بالرغم من تحذيرات العلماء الكثيرة والمتكررة. وهذا الرفض من إدارة ترمب جاء بعد أن تحرك "لوبي" وجماعات الضغط لشركات النفط والفحم ومحطات توليد الكهرباء لأسباب اقتصادية، فتغيير المواصفة يعني بأن على هذه المصانع وضع أجهزة للتحكم في الجسيمات الدقيقة من خلال معالجتها ومنع انطلاقها إلى الهواء الجوي، وهذه الأجهزة مكلفة وغالية الثمن، وتؤدي إلى زيادة نفقات هذه الشركات وخفض أرباحها السنوية.

ولذلك جاءت إدارة بايدن فاقترحت الآن حلاً وسطاً وتوافقياً، وليس حلاً علمياً وصحياً خالصاً، وهذا الاقتراح لمواصفة جديدة للدخان يقع بين المتطلبات العلمية وتوصية اللجان الاستشارية، وبين متطلبات اللوبي الضاغط من شركات الفحم والنفط والغاز الطبيعي ومن المصانع التي تشتغل بالوقود الأحفوري. فتوصية اللجنة الاستشارية العلمية الحكومية وتوصية جمعية الرئة الأمريكية هي أن تكون المواصفة 8 ميكروجرامات من الجسيمات في المتر المكعب من الهواء على المستوى السنوي، وهي حسب الأدلة العلمية التي تقي صحة الناس من أضرار وتأثيرات الدخان، في حين أن توصية وكالة حماية البيئة الأمريكية كانت توافقية وسياسية وهي أن تكون المواصفة 9 أو 10 ميكروجرامات من الجسيمات في المتر المكعب من الهواء.

ثالثاً: علاوة على المصالح والمنافع الصحية الكثيرة التي تنعكس على البشر، فإن هناك المصالح المتعلقة بحقوق الإنسان كالصحة والتعليم وحرية التعبير، والمتمثلة هنا في حق الإنسان في العيش في بيئة نظيفة وسليمة تُقوي وتعزز صحة الإنسان وتمنع عنه الموت المبكر والأمراض المستعصية، وذلك من خلال استنشاق هواء عليل وصحي، وشرب ماء نظيف خالي من الشوائب والملوثات. فهذه المواصفات المتعلقة بالهواء الجوي تُعد أحد استحقاقات حقوق الإنسان الأساسية والضرورية لاستدامة الحياة الكريمة والصحية للبشر.

رابعاً: ومن جانب آخر فإن هذه المواصفات البيئية المتعلقة بجودة الهواء الجوي تعمل على تحقيق العدالة البيئية بين الناس، وتمنع ظهور ما يُعرف بالعنصرية البيئية أو التمييز العنصري البيئي. فقد أجمعتْ الكثير من الدراسات التي أُجريت في الولايات المتحدة الأمريكية أن المناطق الفقيرة أشد تدهوراً من الناحية البيئية من مناطق الأغنياء والمتنفذين بسبب وجود المصانع ومواقع دفن المخلفات والشوارع السريعة في مناطق المهمشين والمستضعفين، والتي تؤدي إلى تدهور عناصر البيئة، وفي مقدمتها الهواء الجوي وتسبب لهؤلاء الفقراء الأمراض المزمنة. ولذلك وضع موصفات جودة الهواء وتحديثها في كل فترة زمنية يقلل من هذا التمييز وعدم المساواة بين بيئة الفقراء وبيئة الأثرياء، ويحقق العدالة البيئية بين البشر في البلد الواحد.

ولذلك على كل دول العالم إعادة النظر بين الحين والآخر في مواصفاتها البيئية وجعلها تواكب وتتماشى مع آخر الدراسات العلمية والتطورات الحديثة حول أضرار الملوثات الموجودة في جميع مكونات البيئة، حتى نحمي الإنسان من شرورها وتداعياتها.