الثلاثاء، 24 يناير 2023

التحدي الأكبر أمام الإنسان

التحديات التي يواجهها الإنسان كثيرة ومختلفة في نوعيتها وحجمها، ولكن هذه التحديات التي يعاني منها الإنسان مهما كانت معقدة وكبيرة فهي موجودة على سطح الأرض، وفي متناول يده وبين ظهرانيه، ويستطيع عقله وتتمكن خبرته، ولو بعد حين من إيجاد العلاج المناسب.

 

ولكن ماذا لو كان هذا التحدي فوق سطح الأرض، وعلى رؤوسنا وفي أعالي السماء البعيدة على ارتفاعات تزيد عن آلاف الكيلومترات، فكيف ينجح الإنسان أمام هذه التحدي، وهو بعيد كل البعد عن متناول يديه، وعن جميع الوسائل التقليدية المتاحة لديه حالياً؟

 

فهذا التحدي الجديد فريد في نوعه وحجمه، فلم يشهد له التاريخ البشري مثيلاً من قبل، وهذا التحدي يتعاظم ويتفاقم سنة بعد سنة، وقد يخرج كلياً عن سيطرة وتحكم الإنسان عليه، فيدمر كل ما بناه وسهر عليه وبذل الجهد والمال طوال القرون الماضية.

 

هذا التحدي هو مئات الملايين من مخلفات الإنسان الصغيرة جداً بحجم فاكهة الكرز وأصغر منها، أو بحجم الليمون، والكبيرة بحجم سيارة أو حافلة، والتي هجرها وتركها الإنسان تسبح في الفضاء فتلقى مصيرها المجهول في ذلك المكان المجهول على ارتفاع أكثر من عشرة كيلومترات فوق سطح الأرض، فتسير في مدارات منخفضة حول الأرض، وبسرعة فائقة جداً تبلغ أكثر من 20 ألف كيلومتر في الساعة، ويُطلق عليها العلماء "مخلفات الفضاء"(space debris).

 

وحسب تعريف "ناسا" أو "الإدارة القومية للملاحة الجوية والفضاء" ، فهناك مصدران لهذه المخلفات الفضائية، الأول مصادر طبيعية موجودة في الكون مثل النيازك(meteoroid)وهي تسبح في الفضاء في مدارات حول الشمس، والثاني، وهو الأهم والأخطر والأشد تهديداً على المدى البعيد، فهو المصدر "الصناعي"، أي الذي من صُنع أيدينا، ونحن الذين تسببنا في وجودها لقصر نظرنا، وقلة خبرتنا وعلمنا، وعدم التفكير والتخطيط مسبقاً لتداعيات كل عمل تنموي نقوم به، أو منتج استهلاكي نقوم بصناعته وإدخاله في بيئتنا. فهذه المخلفات التي نتحمل مسؤولية مكوثها في الفضاء من أهمها وأخطرها وأكثرها شيوعاً هي الأقمار الصناعية المهجورة نتيجة لانتهاء صلاحياتها ومهماتها، ولذلك فإنها تُركت هناك في المدار الأرضي المنخفض لمصير لا يعلم عنه إلا الله، ولتداعيات لا تُحمد عقباها، ولا يستطيع أحد أن يتكهن بنوع التهديدات التي ستسببها للكرة الأرضية والإنسان. كما أن هذه الأقمار المجهولة قد تصطدم مع بعض فتُكون الآلاف من المخلفات الأصغر حجماً، والتي قد تصطدم بالسفن الفضائية المأهولة فتُحدث ثقباً بها، وقد تهدد حياة رواد الفضاء بالخطر، كما هو الحال بالنسبة لـ"محطة الفضاء الدولية"(International Space Station)و(SpaceX's Crew Dragon).

 

ومن المهم ذكره أن هذا التحدي يتنامى مع الوقت، ويتعاظم تأثيره، وتتعقد انعكاساته على الأجسام والمَرْكبات الموجودة في الفضاء وعلى الإنسان والحياة فوق سطح الأرض. فأعداد الأقمار الصناعية التي تُطلق في الفضاء في تزايد مطرد مع الوقت، وخاصة بعد إنتاج الأقمار الصناعية الصغيرة الحجم. فعلى سبيل المثال، الأقمار الصناعية التي كانت تُدشن سابقاً إلى الفضاء من الحكومات والشركات الخاصة كانت تتراوح بين 80 إلى 100 قمر صناعي سنوياً، ثم زاد العدد إلى 1000 قمر صناعي في عام 2020، و 2000 في عام 2022. وأما عن الأقمار الصناعية التي تدور حول الأرض، ومعظمها على ارتفاع منخفض نحو 1000 كيلومتر فوق سطح الأرض، وحسب تقرير(Union of Concerned Scientists)، كان هناك 1700 قمر صناعي في المدار الأرضي المنخفض في عام 2016، وفي عام 2023 وصل إلى 54 ألف، ومن المتوقع أن يرتفع إلى نسبة غير مسبوقة فيصل إلى 57 ألف بحلول 2030.

 

وقد صنَّف العلماء المختصون هذه الأقمار الصناعية حسب حجمها وقطرها. فهناك الأقمار الصناعية التقليدية القديمة الكبيرة، التي وزنها أكبر من ألف كيلوجرام، وموجودة في مدار يُطلق عليه(geostationary orbit (GEO)) على ارتفاع نحو 35 ألف كيلومتر فوق سطح الأرض، وهي الأعلى ارتفاعاً، ثم الحجم الوسط، ووزنها يتراوح من 500 إلى ألف كيلوجرام، والحجم الصغير من 100 إلى 500 كيلوجرام، ثم الميكرو من 10 إلى 100 كيلوجرام في المدار الأرضي المنخفض(low-Earth orbit)، وبعد ذلك في الحجم يأتي النانو الذي يتراوح وزنه من 1 إلى 10 كيلوجرامات، وأخيراً البيكو الذي يمكن حمله باليد، ووزنه أقل من كيلوجرام واحد.

 

فكل هذه الأعداد الهائلة والمتعاظمة من الأقمار الصناعية الموجودة حالياً فوق سطح الأرض وفي مدارات حول الأرض، إضافة إلى الأقمار التي تُطلق سنوياً، تمثل تهديداً واقعياً يتمثل في تصادمها مع بعض بعد انتهاء وظيفتها، ثم تناثرها وتفتتها إلى عشرات الآلاف من القطع الصغيرة التي تصطدم بعضها ببعض، أو تصطدم بالسفن الفضائية المأهولة برواد الفضاء، فكل قطعة من هذه المخلفات الفائقة السرعة تعمل كقنبلة فضائية تُفجر أجساماً سماوية صناعية قد تسقط كالمطر على الأرض مع الوقت، وتمثل تهديداً لسكان الأرض والبنية التحتية. وقد اختلفت التقديرات حول حجم وعدد هذه المخلفات الفضائية. فعلى سبيل المثال، نَشرتْ "ناسا" تقريراً في 26 مايو 2021 تحت عنوان: "مخلفات الفضاء والسفن الفضائية"، وفي هذا التقرير قدَّرت بأن هناك قرابة 23 ألف قطعة مخلفات في المدارات أكبر من كرة التنس الأرضي، أو أكبر من الليمون، ونحو نصف مليون كقطع الرخام الصغيرة أو الكرز وبحجم أكبر من سنتيمتر واحد، ومائة مليون بقطر نحو مليميتر واحد فقط، أو أصغر من ذلك. كما حصرت شبكة الفضاء الدولية التابعة لوزارة الدفاع الأمريكية(Global Space Surveillance Network)، ومكتب الأمم المتحدة لشؤون الفضاء الخارجي(United Nations Office for Outer Space Affairs) العدد الذي قطره نحو 20 سنتيمتراً أو أكبر بنحو 27 ألف قطعة صغيرة.

 

ونظراً لأن بيئة الفضاء الخارجي تعد ملكية عامة للبشرية، وبيئة جماعية مشتركة تخص كل دول العالم، فقد دخلت الأمم المتحدة لمواجهة التحديات التي يواجهها الإنسان والمشكلات التي يعاني منها. فأول آلية دولية اهتمت بتحديات الفضاء الخارجي كانت معاهدة الفضاء الخارجي(Outer Space Treaty)، أو ما يعرف رسمياً بمعاهدة المبادئ التي تَحْكم أنشطة الدول في استكشاف واستخدام الفضاء الخارجي، والتي دخلت حيز التنفيذ في 10 أكتوبر 1967. وهذه الاتفاقية من أهدافها تقنين استخدام الصواريخ بعيدة المدى التي تصل إلى الفضاء، كتجارب التدمير المتعمد للأقمار باستخدام الصواريخ طويلة المدى(anti-satellite missile system (ASAT)) والتي تنجم عنها عشرات الآلاف من المخلفات، وحظر استخدام أسلحة الدمار الشامل كالأسلحة النووية في الفضاء الخارجي، إضافة إلى الاستخدام السلمي للفضاء ومنع سيطرة وهيمنة دولة أو مجموعة من الدول على الفضاء.

 

ولكن كباقي معاهدات وقرارات الأمم المتحدة فإن الدول العظمى لا تعترف بها إذا تعارضت مع مصالحها القومية، مثل البند المتعلق بمنع استخدام الصواريخ طويلة المدى للتدمير المباشر للأقمار الصناعية وتَوَّلد المخلفات الفضائية عنها، فأمريكا بعد أن تعبت من إجراء هذه التجارب وانتهت صلاحيتها والأهداف من إجرائها، قامت بمنعها في 18 أبريل 2022، ولكن دولاً أخرى كالصين وروسيا مازالتا تجريان هذه التجارب.

 

وهذا ينطبق أيضاً على كيفية إدارة المخلفات الفضائية، ومن يتحمل مسؤولية إزالتها والتخلص منها. وهناك مقترحات كثيرة لعلاج ظاهرة المخلفات الفضائية المتزايدة ومواجهة هذا التحدي الأكبر، منها إنتاج قمر صناعي يسحب هذه المخلفات من الفضاء، ومنها إنتاج قمر صناعي يدمر نفسه بنفسه بعد الانتهاء من مهمته، ويُطلق عليه "قمر صناعي كروي مداري"(spherical orbital satellite)، كذلك هناك فكرة تدوير هذه الأقمار الصناعية بعد الانتهاء من عملها، ونشرت الولايات المتحدة الأمريكية دليلاً حول فكرة الصيانة والتدوير للقمر الصناعي(In-space Servicing Assembly and Manufacturing (ISAM) strategy).

 

وفي الواقع فإنني أرى بأن الدول الصناعية المتقدمة الكبرى التي ولجت منذ عقود في غزو الفضاء، وأَطلقتْ الأقمار الصناعية بكل أنواعها وأحجامها، وتسببت في تشبع مدارات الأرض بالمخلفات منذ أكثر من ثمانين عاماً، هي التي وحدها تتحمل المسؤولية الكاملة في التخلص منها، فالدول النامية لا ناقة لها ولا جمل ولا دور لمواجهة هذا التحدي العظيم، كما إنه يفوق قدراتها العملية والعلمية وخبراتها التقنية في هذا المجال المتطور والمعقد.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق