الجمعة، 6 يناير 2023

التغيرات التي طرأت على تلوث الهواء عبر العقود


تلوث الهواء لم يتغير منذ أكثر من مائة عام، فهو ظاهرة مازالت موجودة في مدن العالم ويسبب تدهوراً وفساداً شديدين في جودة ونوعية الهواء الذي يستنشقه الإنسان، وينجم عنه سقوط الإنسان في شتى أنواع الأمراض الحادة والمزمنة المتجددة في كل زمان ومكان، وهو في الوقت نفسه يؤدي إلى الهاوية والوفاة المبكرة للإنسان في كل أنحاء الأرض.

 

فما الذي تغير إذن واستجد في قضية تلوث الهواء الجوي خلال العقود الماضية؟ وما هي الجوانب الجديدة التي انكشفت مؤخراً حول تلوث الهواء؟

 

ففي القرن الماضي كان تلوث الهواء ظاهرة محلية ذات أبعادٍ جغرافية ضيقة، فعادة ما كانت تنكشف سحب التلوث السوداء في منطقة ضيقة من مدن العالم الصناعية المتقدمة العريقة التي بدأت فيها الثورة الصناعية، وفي أغلب الأحيان تكون في فصل الشتاء، حيث مختلف أنواع المصانع ومحطات توليد الطاقة والكهرباء التي تعمل بالفحم ويزيد الاستهلاك في موسم الشتاء عند ارتفاع الحاجة إلى الطاقة للتدفئة، إضافة إلى عددٍ محدود وقليل جداً من وسائل المواصلات التي تسير في بعض المناطق من المدن، ولذلك فإن تداعيات تلوث الهواء كانت في نطاقٍ ضيق جداً وتؤثر على أعدادٍ قليلة من البشر.

 

ومن أكثر الأمثلة التاريخية وضوحاً في بيان انعكاسات تلوث الهواء على منطقة جغرافية محدودة من المدن الصناعية الكبرى هي كارثة تلوث الهواء التي وقعت في عاصمة الضباب لندن في أسبوع الأفراح والأعياد المسيحية في نهاية شهر ديسمبر عام 1952، حيث غطت السحب السوداء القاتمة وسط لندن، ونزل الضباب الرمادي المشؤوم على رؤوس الناس وهو يحمل في بطنه خليطاً معقداً من السموم المميتة من الملوثات التقليدية القديمة وعلى رأسها الدخان الأسود، أو الجسيمات الدقيقة الكبيرة الحجم التي تُرى بالعين المجردة، إضافة إلى أكاسيد الكبريت ومركبات الفلورين الحمضية. وكانت نتيجة نزول هذه السحب الملوثة سقوط ضحايا بشرية بين صريعٍ وجريح، حيث بلغت الزيادة في أعداد الذين قضوا نحبهم في أسبوع واحد فقط أكثر من 4000، إضافة إلى عشرات الآلاف من المرضى الذين اكتظت بهم المستشفيات والمراكز الصحية.   

 

فالذي تغير الآن بالنسبة لتلوث الهواء هو البعد الجغرافي وتغير المساحة التي يضرب فيها التلوث على صحة الإنسان، فظاهرة التلوث تحولت إلى ظاهرة عامة تنكشف في جميع مدن العالم الحضرية وتنزل في كل الفصول، شتاءً وصيفاً، حيث ارتفاع أعداد السيارات ووسائل المواصلات الأخرى من حافلات، وقطارات، وطائرات، وازدياد ملحوظ في أعداد محطات توليد الكهرباء والمصانع.

 

فعلاوة على زوار الشتاء من الضباب الرمادي المشبع بالملوثات، نشاهد الآن زوار الصيف، حيث الضباب الضوئي الكيميائي الأصفر والبني اللون الذي يمكن رؤيته في سماء كل المدن الحضرية التي تكتظ وتزدحم بالسيارات. والذي تغير الآن كذلك هو نوعية الملوثات الموجودة في هذه السحب الصيفية، وبالتحديد مجموعة من الملوثات المؤكسدة الخطيرة التي تتكون من خليطٍ معقد وسام في مقدمتها غاز الأوزون وملوثات كثيرة أخرى.

 

كما أن الذي تغير الآن بالنسبة لتلوث الهواء هو البعد الدولي لهذا التلوث وتأثيره على كوكبنا برمته وجميع الكائنات الحية التي تعيش في ظله، فلم يعد تلوث الهواء ظاهرة محلية بسيطة يمكن تقصيها في بعض المدن المتطورة وتؤثر صحياً على فئة بسيطة من البشر، وإنما أصبح التلوث الآن طامة كبرى عقيمة يهدد استدامة حياة كوكبنا وكل من يعيش عليه من إنسان وحيوان ونبات. فانبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون وأكسيد النيتروز من كل عملية حرق للوقود الأحفوري في السيارات والطائرات والمصانع وغيرها من المصادر التي لا تعد ولا تحصى، إضافة إلى تسربات غاز الميثان من عمليات إنتاج واستخراج النفط والغاز الطبيعي ومن القطاع الزراعي، وتسربات غازات الفريون، فكل هذه الملوثات زاد تركيزها خلال العقود الماضية، وكلها مجتمعة تراكمت في الغلاف الجوي وتعاونت مع بعض حتى كونت طبقة عازلة فوق السماء تحبس الحرارة في تلك الطبقة، وتمنع انتشارها إلى طبقات الجو العليا، فتعمل مع الزمن على تكدس الحرارة ورفع سخونة الأرض ووقوع ظاهرة التغير المناخي المعروفة لكل إنسان يعيش على سطح الأرض.

 

ولذلك فالذي تغير الآن أيضاً هو المردودات الصحية الكثيرة الناجمة عن اتساع رقعة تلوث الهواء، فهي ليست مشكلة محلية أو قومية تنعكس على نسبة قليلة من سكان الأرض، وإنما تداعياتها الصحية تفاقمت وتعاظمت نتيجة لزيادة وتنوع مصادرها بشكل مطرد لم يشهده التاريخ من قبل، ومن ناحية أخرى تنوع الملوثات التي تشبع بها الهواء الجوي الآن. ففي كل حقبة زمنية قصيرة تنكشف ملوثات جديدة لم يعرفها الإنسان من قبل، ولم يسمع عنها، ولا يعرف أحد تفاصيل تأثيراتها على الصحة العامة، سواء بصفة منفردة ومستقلة، أو بصفة جماعية مع الملوثات الأخرى الموجودة في الهواء، وآخرها الملوثات والجسيمات الميكروبلاستيكية التي لا ترى بالعين المجردة، والتي غزت الآن كل شبر من كوكبنا، وكل عضو من أجسامنا، حتى الجنين في رحم أمه لم يسلم من هذه الملوثات الدقيقة.

 

فالذي تغير إذن بالنسبة لتلوث الهواء هو حجم وتجذر الضرر الصحي الذي وقع على كل عضوٍ صغيرٍ أو كبير من جسم الإنسان، وأثر عليه عضوياً، ونفسياً، وعقلياً أينما كان على وجه الأرض، فالضرر من تلوث الهواء أصبح اليوم تراكمياً مع الزمن، ويضرب كل أعضاء الإنسان في آنٍ واحد، ويسبب له عدة أمراض في وقتٍ واحد. وهناك دراسة بريطانية تؤكد هذه الحقيقة والظاهرة الجديدة التي أُطلق عليها بالمرض المتعدد من تلوث الهواء(Multimorbidity)، ونشرتها وزارة الصحة البريطانية في الثاني من ديسمبر 2022 في مجلة (Frontier Public Health)تحت عنوان: "العلاقة بين تلوث الهواء والإصابة بأمراض متعددة في المملكة المتحدة". فقد أشارت الدراسة التي شملت 364144 بريطانياً تتراوح أعمارهم بين 40 و 69 إلى أن التعرض لملوثات الهواء الجوي، وبالتحديد الجسيمات الدقيقة(قطرها أقل من 2.5 ميكروميتر) وثاني أكسيد النيتروجين لفترة طويلة من الزمن، ولو كانت بتراكيز منخفضة، فإنها تسبب للإنسان مشكلات صحية متنوعة، قد تكون عدة أمراض عضوية تصيب القلب والجهاز التنفسي والجهاز العصبي، إضافة إلى الأمراض النفسية والعقلية في الوقت نفسه المتعلقة بالإصابة بالقلق والاكتئاب وتغير السلوكيات والتصرفات، وقد أفادت الدراسة بأن نسبة المصابين من أفراد العينة بأمراض مزمنة متعدد بلغت 42.9%.

 

وخلاصة فإن مصطلح "تلوث الهواء" موجود في القاموس البشري منذ مئات السنين، ولكن مضمون "تلوث الهواء" يتغير مع الزمن، فتلوث الهواء يُعد الآن من الأسباب الرئيسة للموت المبكر في كل أنحاء العالم، حيث يتراوح العدد بين 4 إلى 9 ملايين سنوياً، ونحو 99% من سكان الأرض يتعرضون ويعيشون في بيئات هواؤها ملوث، كما انكشفت مظاهر متعلقة بتلوث الهواء غطت الكرة الأرضية برمتها وأثرت على كل سكان الأرض، كذلك فإن تلوث الهواء اليوم يسبب للإنسان العديد من الأمراض الفسيولوجية العضوية والنفسية العقلية في وقتٍ واحد، فهو يؤثر على الإنسان كقنبلة دمار شامل للجسم البشري برمته.

           

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق