الاثنين، 16 يناير 2023

لماذا نضطر إلى تغيير مواصفاتنا البيئية؟

أعلنتْ الحكومة الأمريكية ممثلة في وكالة حماية البيئة في السادس من يناير 2023 عن عزمها تغيير وتحديث المواصفة الخاصة بتركيز الدخان، أو الجسيمات الدقيقة في الهواء الجوي، والتي تنبعث من مصادر كثيرة منها ما هو في داخل المنزل في البيئات الداخلية، ومنها في البيئة الخارجية، مثل السيارات، ومحطات توليد الكهرباء، والمصانع، والتدخين، وحرق البخور والعود، والفرن المنزلي.

 

وهذا التحديث جاء استناداً إلى قانون "الهواء النظيف" الذي تمخض عنه النظام الخاص بـ"المواصفات القومية لجودة الهواء"( National Ambient Air Quality Standards)، والذي يفرض على وكالة حماية البيئة مراجعة وتقييم المعايير البيئية المتعلقة بجودة الهواء الجوي مرة كل خمس سنوات اعتماداً على المستجدات العلمية الخاصة بتأثير الملوثات الموجودة في الهواء الجوي على الصحة العامة، وبالتحديد هنا بالنسبة للدخان، أو المعروف علمياً بالجسيمات الدقيقة التي يقل قطرها عن 2.5 ميكروميتر.

 

فالمواصفة المقترحة حالياً والمعروضة على الشعب الأمريكي لإبداء الرأي وتقديم المقترحات خلال ستين يوماً، هي للحد من تلوث الهواء بالدخان والجسيمات الدقيقة من المصادر الصناعية وغير الصناعية، بحيث تكون هذه المواصفة الجديدة أكثر حزماً وفاعلية في خفض تلوث الهواء وحماية الصحة العامة، فيكون معدل المستوى السنوي للدخان يتراوح بين 9 أو 10 ميكروجرامات من الجسيمات الدقيقة في المتر المكعب من الهواء الجوي، علماً بأن المستوى الحالي والذي وُضع في عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما في عام 2012 هو 12 ميكروجراماً من الجسيمات الدقيقة في المتر المكعب من الهواء الجوي.

 

 والحقيقة فإن مثل هذا الإجراء المتمثل في تحديث وتغيير المواصفات والمعايير البيئية في الولايات المتحدة، أو في أية دولة في العالم له أهمية كبيرة وصب في تقديم مغانم كثيرة للناس، سواء أكانت بيئية، أو صحية، ويهدف إلى تحقيق وضرب عشرات العصافير بحجرٍ واحد فقط.

 

وهناك العديد من النقاط المتعلقة بتحديث وتغيير المواصفات البيئية بعد مرور فترة زمنية على وضعها، وهي كما يلي:

أولاً: المواصفات التي نضعها هي من اجتهاداتنا وبناءً على المعلومات العلمية البيئية والصحية المتوافرة لدينا في ذلك الوقت، فهي ليست كتباً سماوية لا تقبل التغيير والتطوير، وليست آيات قرآنية مُنزلة من رب العالمين فلا يُسمح لنا بإعادة النظر فيها وتعديلها مواكبة للمستجدات العلمية والأبحاث الحديثة. فوضع المعايير عملية ليست ثابتة وجامدة مع الزمن، وإنما هي عملية ديناميكية متجددة بعد كل حقبة زمنية، حيث إن نتائج الدراسات العلمية اليوم قد تختلف عن نتائج الدراسات قبل عشرات السنين، فاكتشافات الإنسان كثيرة في كل سنة، والمعلومات تتطور وتتجدد بين الحين والآخر. فقبل أكثر من عقد من الزمن المواصفة الخاصة بتركيز الجسيمات الدقيقة في الهواء كانت مقبولة وتفي بالغرض والهدف من وضعها، واليوم وبعد الاكتشافات الحديثة والدراسات المتقدمة تبين بأن هذه المواصفة القديمة لا تؤدي إلى حماية صحة الإنسان ولا تقيه من شر الأمراض الناجمة عن التعرض للدخان، ولو كان بنسب صغيرة جداً.

 

ثانياً: عملية وضع المعايير لا تعتمد كلياً على الجانبين البيئي والصحي ولا على اكتشافات ودراسات العلماء، وإنما تدخل عوامل أخرى عند تحديدها ووضعها، مثل العامل الاقتصادي، والسياسي، والتقني. فعلى سبيل المثال وبالنسبة للمواصفة الحالية المتعلقة بالدخان، فإن "اللجنة الاستشارية العلمية حول الهواء النظيف" في عهد الرئيس السابق ترمب أوصت بتغيير هذه المواصفة التي كانت 12 ميكروجراماً من الجسيمات الدقيقة في المتر المكعب من الهواء لعدم فاعليتها وفشلها في حماية صحة الناس، ولكن إدارة ترمب، ممثلة في وكالة حماية البيئة رفضت في 17 أبريل 2020 هذه التوصية بالرغم من تحذيرات العلماء الكثيرة والمتكررة. وهذا الرفض من إدارة ترمب جاء بعد أن تحرك "لوبي" وجماعات الضغط لشركات النفط والفحم ومحطات توليد الكهرباء لأسباب اقتصادية، فتغيير المواصفة يعني بأن على هذه المصانع وضع أجهزة للتحكم في الجسيمات الدقيقة من خلال معالجتها ومنع انطلاقها إلى الهواء الجوي، وهذه الأجهزة مكلفة وغالية الثمن، وتؤدي إلى زيادة نفقات هذه الشركات وخفض أرباحها السنوية.

ولذلك جاءت إدارة بايدن فاقترحت الآن حلاً وسطاً وتوافقياً، وليس حلاً علمياً وصحياً خالصاً، وهذا الاقتراح لمواصفة جديدة للدخان يقع بين المتطلبات العلمية وتوصية اللجان الاستشارية، وبين متطلبات اللوبي الضاغط من شركات الفحم والنفط والغاز الطبيعي ومن المصانع التي تشتغل بالوقود الأحفوري. فتوصية اللجنة الاستشارية العلمية الحكومية وتوصية جمعية الرئة الأمريكية هي أن تكون المواصفة 8 ميكروجرامات من الجسيمات في المتر المكعب من الهواء على المستوى السنوي، وهي حسب الأدلة العلمية التي تقي صحة الناس من أضرار وتأثيرات الدخان، في حين أن توصية وكالة حماية البيئة الأمريكية كانت توافقية وسياسية وهي أن تكون المواصفة 9 أو 10 ميكروجرامات من الجسيمات في المتر المكعب من الهواء.

ثالثاً: علاوة على المصالح والمنافع الصحية الكثيرة التي تنعكس على البشر، فإن هناك المصالح المتعلقة بحقوق الإنسان كالصحة والتعليم وحرية التعبير، والمتمثلة هنا في حق الإنسان في العيش في بيئة نظيفة وسليمة تُقوي وتعزز صحة الإنسان وتمنع عنه الموت المبكر والأمراض المستعصية، وذلك من خلال استنشاق هواء عليل وصحي، وشرب ماء نظيف خالي من الشوائب والملوثات. فهذه المواصفات المتعلقة بالهواء الجوي تُعد أحد استحقاقات حقوق الإنسان الأساسية والضرورية لاستدامة الحياة الكريمة والصحية للبشر.

رابعاً: ومن جانب آخر فإن هذه المواصفات البيئية المتعلقة بجودة الهواء الجوي تعمل على تحقيق العدالة البيئية بين الناس، وتمنع ظهور ما يُعرف بالعنصرية البيئية أو التمييز العنصري البيئي. فقد أجمعتْ الكثير من الدراسات التي أُجريت في الولايات المتحدة الأمريكية أن المناطق الفقيرة أشد تدهوراً من الناحية البيئية من مناطق الأغنياء والمتنفذين بسبب وجود المصانع ومواقع دفن المخلفات والشوارع السريعة في مناطق المهمشين والمستضعفين، والتي تؤدي إلى تدهور عناصر البيئة، وفي مقدمتها الهواء الجوي وتسبب لهؤلاء الفقراء الأمراض المزمنة. ولذلك وضع موصفات جودة الهواء وتحديثها في كل فترة زمنية يقلل من هذا التمييز وعدم المساواة بين بيئة الفقراء وبيئة الأثرياء، ويحقق العدالة البيئية بين البشر في البلد الواحد.

ولذلك على كل دول العالم إعادة النظر بين الحين والآخر في مواصفاتها البيئية وجعلها تواكب وتتماشى مع آخر الدراسات العلمية والتطورات الحديثة حول أضرار الملوثات الموجودة في جميع مكونات البيئة، حتى نحمي الإنسان من شرورها وتداعياتها.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق