الثلاثاء، 3 يناير 2023

الدولة البيئية العميقة

الرئيس المنتخب الحالي للبرازيل لويز لولا دي سيلفا أكد أثناء حملته الانتخابية بإعادة الروح والحياة إلى غابات الأمازون بعد أن عانت في عهد الرئيس السابق جير بولسوناروا من التعدي المستمر على حرماتها، والقطع الجائر المتعمد لغابات وأشجار الحياة وما بينها من حياة فطرية حيوانية فريدة لا يمكن تعويضها من أجل زراعة المحاصيل والوقود الحيوي.

 

واليوم وبعد انتخابه وجلوسه على عرش الحكم في البرازيل يفي بوعده وينفذ التزاماته التي قطعها على نفسه، حيث قال في 29 ديسمبر 2022 بأنه سيوقف الأنشطة غير القانونية المستبيحة لحرمات بيئة الأمازون والغابات المطيرة، سواء من خلال تدمير الغابات، أو الصيد السمكي الجائر والمفرط، وسيعمل جاهداً على حماية هذه البيئة المتنوعة، ويقي هذه الثروة الطبيعية القومية والعالمية من شر أيدي الفاسدين والعابثين. كما أكد الرئيس البرازيلي بأنه سينفذ خطته في حماية الغابات المطيرة من خلال زيادة التمويل لبرامج الحماية، وتقوية جهاز البيئة ووضع الأنظمة البيئية الصارمة التي تهدف إلى استدامة عطاء هذا التراث الفطري الحيوي لسكان البرازيل خاصة، وسكان العالم عامة.

 

ولكن هل هذه الحالة التي نشهدها اليوم في البرازيل "مستدامة"، أي يُكتب لها أن تكون مضمونة وطويلة الأمد فتُبقي على بيئة غابات الأمازون وتحميها كتراث طبيعي فطري لنا وللأجيال القادم من بعدنا لكل سكان الأرض، أم أن هذه الحالة ستنتهي مع انتهاء حكم هذا السياسي الذي له مواقف شخصية، وله هموماً وقناعة ذاتية فردية وحزبية تصب في مصلحة حماية الغابات؟

 

في الواقع فإن التاريخ المعاصر يُعلمني بأن مثل هذه الحالة البرازيلية متغيرة وغير مستدامة، فهي تعتمد على وجود شخص في الحكم ويتمتع بالسلطة الكافية والنفوذ القوي الذي يجعله يحافظ على بيئته ويحميها من أيدي طغاة البيئة، ولكن مع تغير هذا الشخص ووصول سياسي آخر للحكم لا يهوى البيئة، ولا تعنيه حماية حرمات البيئة، فإن الحالة سترجع إلى الوراء وإلى نقطة الصفر ونقطة البداية، وستتقهقر شؤون البيئة وستفسد نوعيتها وكميتها، وستصبح البيئة قضية هامشية جانبية موقعها في مؤخرة سلم الأولويات، ومصير برامجها الانتظار أو الإلغاء الكلي بشكلٍ نهائي، وبذلك ستكون البيئة وسلامتها وأمن عناصرها الحية وغير الحية تحت رحمة هذا السياسي الجديد الذي دخل بيت الحكومة.

 

وهذه الحالة البرازيلية وحالة عدم استقرار الأمن البيئي وقضايا البيئية سبقتها عدة دول أخرى، مثل الولايات المتحدة الأمريكية. فعلى سبيل المثال، موقف وسياسة أمريكا حول قضية العصر وهي التغير المناخي وتداعياتها البيئية والمناخية والصحية والاقتصادية والأمنية قد تغيرت مرات كثيرة حسب أهواء الشخص الموجود في البيت الأبيض، فقد مرَّت مواقف أمريكا تجاه التغير المناخي بمراحل متعددة، فكانت بين مدٍ وجزر، وكرٍ وفر، فلكل رئيس اتجاهاته واستراتيجياته، ولذلك جهود معالجة قضية التغير المناخي تُراوح في مكانها منذ أكثر من ثلاثين عاماً، فتتقدم خطوة إلى الأمام ثم تتأخر خطوتين إلى الخلف، والنتيجة النهائية، والمحصلة الأخيرة هي استمرار وقوع تداعيات التغير المناخي وتفاقم تأثيراتها وانعكاساتها على كافة المستويات.

 

فالرئيس الأمريكي جورج بوش الأب كان زعيماً دولياً وقائداً في مجال مكافحة تداعيات التغير المناخي على المستوى الدولي، حيث وقَّع على أول معاهدة دولية حول التغير المناخي في قمة الأرض التاريخية في ريو دي جانيرو في عام 1992 وهي الاتفاقية الإطارية للتغير المناخي. وبعد بوش جاء بيل كلينتون الديمقراطي فسار على نهج وسياسة بوش بالنسبة للتغير المناخي ووقع على أول معاهدة دولية مشتركة هي بروتوكول كيوتو في عام 1996. ولكن مع تغير الشخص والحزب الحاكم في أمريكا من الحزب الديمقراطي إلى الحزب الجمهوري تغيرت القناعات وتبدلت الاستراتيجيات، حيث قرَّر جورج بوش الابن عدم المصادقة على البروتوكول فرجع الحال إلى النقطة الأولى في مسيرة التصدي للتغير المناخي. وهذا الحال تكرر مرة ثانية عندما وقع الرئيس الديمقراطي باراك أوباما على تفاهمات باريس لعام 2014، ثم جاء إلى البيت الأبيض من ينكر أصلاً ظاهرة التغير المناخي، ولا يعترف بدور الإنسان ومساهمته في وقوع التغير المناخي العالمي وهو الرئيس السابق الجمهوري دونالد ترامب، فانسحب من هذه المعاهدة الدولية، ورجعت جهود مواجهة التغير المناخي إلى الصفر، وأخيراً استلم الحكم جو بايدن فأرجع الحال إلى مساره الطبيعي بالنسبة للتغير المناخي على المستويين القومي والدولي، ولا يعلم أحد ماذا سيحدث بعد عامين مع الانتخابات الرئاسية القادمة وانتخابات الكونجرس، ومن سيكون في البيت الأبيض.

 

ولذلك لا أريد من هموم البيئة وشؤونها أن تكون مرتبطة بسياسات واهتمامات الرجل الذي في السلطة، ولا أتمنى من هموم البيئة أن تكون متغيرة ومعتمدة على قناعات رجال السياسة ومواقفهم، وإنما أسعى إلى أن تكون البيئة ضمن "الدول العميقة"، أو ضمن نظام مؤسسي عميق وثابت ومستقر لا يتغير ولا يميل شمالاً أو جنوباً مع هبوب رياح التغيير السياسية، ولا يهتز أو يسقط مع أي تغيير في الدولة. فالهم البيئي يجب أن يكون حكومياً ومجتمعياً ومتغلغلاً في أنظمة الحكم والدولة العميقة، فلا يتغير، ولا يتبدل مع تغير الأهواء ومهما تغيرت أوجه رجال السياسة، كما هو الحال بالنسبة للنظام الأمني ونظام وأجهزة الاستخبارات في الدول.

 

ومن هذا المنطلق وبهدف استدامة الحفاظ على عناصر البيئة، فإنني أدعو إلى أن يكون الهم البيئي والقضايا البيئية مدمجة ومتجذرة بشكلٍ مؤسسي في كل قطاعات وأجهزة وهيئات الدول، ويكون الاهتمام بها ورعاية مصالحها ثابتة لا تتغير مع الزمن، ولا تتبدل أو تهمش مع تغير الرجال وتغير الظروف والأوضاع السياسية والأمنية والمالية، أي أنني أريد أن أرى في الواقع "الدولة البيئية العميقة" التي تحرص دائماً على حماية مصالح البيئة العليا.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق