الخميس، 26 مايو 2022

اكتشاف سر مرض حرب الخليج الغامض الذي أصاب الجنود الأمريكيين


منذ أكثر من ثلاثين عاماً عِجَافْ، وفوراً بُعيد انتهاء حرب الخليج، أو عملية درع الصحراء في الفترة من 17 يناير إلى 23 فبراير 1991، انكشفت معاناة طويلة ومستمرة من ثلاث فئات أو ثلاث شرائح في مجتمع الولايات المتحدة الأمريكية. أما الفئة الأولى فهي الجنود الأمريكيين الذين شاركوا في حرب الخليج والذين بلغ عددهم الإجمالي قرابة 700 ألف، ومنهم قرابة ربع مليون جندي يقاسون نفسياً وعضوياً منذ أن وضعت الحرب أوزارها من أعراضٍ مرضية غامضة وغريبة لم يشهدها التاريخ الطبي من قبل.

 

فقد أَطلقَ المختصون على هذه الظاهرة الصحية المرضية الجديدة عدة أسماء منها: "مرض مُزمن متعدد الأعراض"(chronic multisymptom illness)، أو "مرض غير مُشخص"(undiagnosed illnesses.)، ولكن إسم الشهرة لهذه الحالة الصحية المجهولة والمعروف لدى الجميع هو: "مرض حرب الخليج"( Gulf War Illness (GWI))، أو "ظاهرة حرب الخليج"( Gulf War Syndrome).

 

والفئة الثانية فهم من الأطباء والعلماء الذين يعانون أيضاً، ولكن بسبب قلة حيلتهم، وضعف إمكاناتهم وقدراتهم وخبراتهم الميدانية حول هذا المرض من أجل تقديم المساعدة الطبية لهؤلاء الأمريكيين المتضررين والمرضى، وفشلهم منذ ثلاثة عقود على تشخيص هذه الأعراض الغريبة والفريدة من نوعها، ومعرفة أسبابها، وطرق علاجها، فهؤلاء العلماء أصابهم نوع من القنوط والإحباط من فك لغز هذه المعضلة الصحية التي يقفون أمامها مكتوفي الأيدي لا حول لهم ولا قوة.

 

وأما الفئة الثالثة فهم فئة رجال السياسة والحكم والتشريع الذين ينتظرون بفارغ الصبر الإجابات عن أسئلة الجنود الأمريكيين حول حالتهم الصحية، فالضغوط عادة على هذه الفئة تكون كبيرة جداً، كما تكون في بعض الأحيان مصيرية على مستقبلهم المهني من الجنود المصابين الذين بلغ عددهم قرابة 250 ألف جندي مريض يعاني ليلاً ونهاراً من آلام المرض، وبأمس الحاجة إلى من يُقدم له يد العون والمساعدة لعلاج آلامه ومصيبته، والتخفيف من معاناته اليومية.

 

وقد ظهرت خلال الثلاثين سنة الماضية عدة نظريات لتفسير هذه الحالة الصحية الغريبة ومجموعة الأعراض المرضية شبه المشتركة التي انكشف على قرابة ربع مليون جندي أمريكي، ومنها التعب والإرهاق الشديدين، ضعف في الذاكرة والتركيز، مشكلات في الجهاز الهضمي، وعدم القدرة على التوازن، وارتفاع حرارة الجسم، وآلام في الجسد. وهذه الأعراض التي بلغت في مجموعها نحو 52، لم تكن آنية ومؤقتة عانى منها الجنود لأيام، أو أشهر قليلة، وإنما لازمتهم طوال السنوات التي عاشوها بعد أن رجعوا إلى قواعدهم في أمريكا، فأصبحت مستدامة، وتحولت إلى مرض مزمن معترف به من السلطات الصحية الأمريكية.

 

فمن التفسيرات التي ظهرت في السنوات الأولى من هذه المأساة الصحية، أن الجنود قد تعرضوا لضغوط نفسية مرهقة نتيجة للحرب الشرسة التي خاضوها، ومثل هذه الحالات النفسية معروفة ومألوفة طبياً، ولكنها في أغلب الأحيان تكون مؤقتة وغير دائمة ويتغلب عليها الجندي، فلا تستمر أعراضها فترة طويلة من الزمن. ثم ظهرت نظرية التعرض للملوثات والمواد الكيميائية التي لوثت الهواء الجوي أثناء قصف مخازن الأسلحة الكيميائية في العراق واستخدام ذخائر اليورانيوم المستنفد، أو الناضب(depleted uranium)، أو نتيجة لإعطاء الجنود حبوب خاصة مثل بروميد البيردوستجمين(pyridostigmine bromide pills) لتَقِيهم من غازات الأعصاب وبالتحديد غاز السَارِيْن(sarin gas)، أو حقنهم للقاحات ضد الأنثركس أو الجمرة الخبيثة(anthrax vaccine). كذلك تم رش الجنود الأمريكيين وملابسهم بالمبيدات الحشرية وطاردات الحشرات لوقايتهم من الحشرات وتعقيم خيامهم وأدواتهم ومعداتهم التي يستخدمونها، وهذه المبيدات كانت عبارة عن مركبات عضوية فوسفورية(organophosphate).

 

فمن النظريات المنشورة التي حاولت إيجاد تفسيرٍ لعذاب هؤلاء الجنود، ونُشرت في مجلة علم وبائيات الأعصاب(journal Neuroepidemiology) في 14 ديسمبر 2012، تحت عنوان: "دليل وبائي على التأثيرات الصحية الناجمة عن انتقال الملوثات من القنابل الكيميائية عبر الحدود الجغرافية بسبب التفجيرات في حرب الخليج"، ودراسة أخرى في المجلة نفسها عنوانها:"التأثيرات الوبائية للملوثات الكيميائية" والمنشورة في يناير 2013، فهاتان الدراستان أشارتا إلى أن هذه الملوثات والسموم مجتمعة التي تعرض لها الجنود هي السبب في ظهور هذه الحالة الصحية الجديدة والفريدة من نوعها على المستوى الدولي.

 

ولكن كل هذه النظريات لم تعط الجواب الشافي والمقنع حول أسباب نزول هذا المرض المجهول الهوية على بعض الجنود الذين شاركوا في الحرب دون غيرهم من الجنود الآخرين الذين شاركوا أيضاً في الحرب، وعانوا من الظروف نفسها. فالدراسة الحالية التي نُشرت في 11 مايو 2022 في مجلة "شؤون صحة البيئة"(Environmetal Health Perspective) تحت عنوان: "تقييم التفاعل بين الجينات والعوامل البيئية عند التعرض لغازات الأعصاب لمرض حرب الخليج"، قد قامت بمنهجية جديدة اعتمدت على التحليل الشامل للجينات، وبالتحديد نوعاً واحداً من الجينات، وهو الجين المعروف باسم: "باراأوكسينيز"، أو "بي أو إِن 1"( PON1)( paraoxonase-1)، وهو أنزيم موجود في أجسامنا، ويساهم بدور مهم في تكسير وتحلل المواد الكيميائية السامة وتخليص الجسم منها. فالتحليل الجيني لوجود هذا الجين وأنواعه المتعددة في جسم الجنود، كان هو المفتاح الذي نجح في إزالة الغمامة عن لغز المرض وفك أسراره الدفينة، وتقديم إجابة أولية عن هذه الحالة الغامضة، كما فتح الباب على مصراعيه أمام معرفة أسباب التغير في إصابة بعض الجنود بالمرض دون الآخرين، إضافة إلى تحديد نوعية العلاج لاستئصال المرض من جذوره.

 

فهذه الدراسة شملت 508 من الجنود المصابين بالمرض، إضافة إلى 508 جنود من الذين لم تظهر عليهم أية أعراض لهذا المرض. فقد توصلت الدراسة إلى نتيجة عامة هي أن بعض الجنود يحملون جينات متخصصة من نوع (PON1Q وهي تُنتج إنزيماً له فاعلية قوية وانتقائية على تحلل غاز السارين في الجسم بعد تعرضهم له، ولذلك احتمال إصابتهم للمرض كانت منخفضة، في حين أن هناك جنوداً يحملون النوع الثاني من هذا الجين(PON1R) والذي يُنتج الأنزيم الذي يحلل السموم الأخرى، ولكن فاعليته ضعيفة في التخلص من السارين، مما يعني بأن الجنود الذين لا يحملون في أجسامهم النوع من الجين المتخصص في التخلص من السارين، ارتفعت عندهم احتمال إصابتهم بالمرض، مما يؤكد بأن تعرض الجنود لغاز السارين كان السبب وراء انكشاف هذا المرض الغامض منذ 30 عاماً، وأن العامل الجيني الوراثي الذي يلعب دوراً محورياً رئيساً في تخليص الجسم من السارين هو السبب في الإصابة، أو عدم الإصابة بالمرض.   

 

فهذه الدراسة تتوافق مع الدراسات والأبحاث الأخرى حول دور الجينات الوراثية في جسم الإنسان في زيادة احتمال الإصابة بمختلف أنواع الأمراض، كالسرطان، والسكري، وأمراض القلب، فجميعها يلعب فيها العامل الوراثي ونوعية الجينات التي ورثها من آبائه وأجداده دوراً في السقوط في شباك الأمراض.

 

الأربعاء، 25 مايو 2022

نظرية الاستبدال العظيمة

الرصاصات الإرهابية التي أَطْلقها الشاب النصراني الأمريكي الأبيض بيتون جندرون(Peyton Gendron) في 14 مايو 2022 في مدينة بالفالو(Buffalo) في ولاية نيويورك وقَتَل على الفور وأمام العالم أجمع عشرة من السود وجرح آخرين، هي ليست رصاصات معزولة، وفردية، وليست عشوائية، فهي رصاصات تحمل بصمة وراثية واحدة، فهي نفسها التي أُطْلقت من قبل في الولايات المتحدة الأمريكية وفي دول أخرى كثيرة.

 

فهذه الرصاصات كلها شربت من سُمِ وفِكر مدرسة واحدة هي مدرسة تفوق العرق الأبيض التاريخية القديمة، ولها عقيدة واحدة فاسدة، وتؤمن بالسياسات نفسها، وتتبنى نظرية واحدة يُطلق عليها "نظرية الاستبدال العظيمة"( The Great Replacement) التي تتلخص في إيمان أفرادها وأتباعها بأن هناك مؤامرة في الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبية من أعلى المستويات السياسية والتشريعية على إحلال واستبدال العرق الأبيض بالسود والمهاجرين من الأعراق والأديان الأخرى، والقيام بإبادة جماعية للعرق الأبيض(White Genocide). فأصحاب هذه النظرية يعتقدون بأن السيادة للبيض، والحُكم للبيض، وشرعية الهيمنة على مرافق الدولة السيادية يجب أن تكون للبيض وليس لغيرهم. فهؤلاء يعملون على تحقيق هذا الهدف المشترك منذ عقود طويلة، ولو كان تحقيق هذا الهدف يستلزم التخطيط لعمليات عنيفة وإرهابية وقتل جماعي للسود والأقليات والمهاجرين في دول العالم المعنية.

 

فعلى سبيل المثال، هناك رصاصات الميليشيات المسلحة من العِرق الأبيض اليميني المتطرف التي تعمل ضد الحكومة الاتحادية في الولايات المتحدة، وتمثلت في العملية الإرهابية العظيمة التي قام بها ممثلهم تيميثي ماكفاي(Timothy McVeigh) في 19 أبريل 1995، عندما فجَّر مبنى اتحادي في ولاية أوكلاهوما بشاحنة مفخخة وقتل على الفور 168 وجرح أكثر من 800. كذلك هناك رصاصات تفوق العرق الأبيض للسفاح النرويجي (Anders Breivik) التي قتلت 77 نرويجياً في 22 يوليو 2011، إضافة إلى الرصاصات البغيضة التي قتلت 9 من السود في عام 2015 في كنيسة في مدينة تشارلستن(Charleston) في ولاية جنوب كالوراينا الأمريكية. كما أنها الرصاصات نفسها لروبرت بورز(Robert Bowers) التي قتلت 11 يهودياً في معبد في أكتوبر عام 2018 في مدينة بتسبيرج بولاية بنسلفانيا الأمريكية، كذلك رصاصات باتيك كروسس(Patrick Crusius) قتلت 23 أمريكياً في مدينة ألباسو بولاية تكساس أغسطس عام 2019، علاوة على رصاصات برنتون تارانت(Brenton Tarrant)الأسترالي التي اغتالت أمام أعين الناس 51 مسلماً وجرحت أكثر من خمسين في مسجدين في مدينة(Christchurch) أثناء أداء صلاة الجمعة في نيوزلندا في عام 2019.

 

وقد وثَّقت الدراسات العلمية هذه العمليات الإرهابية من جماعات تفوق العرق الأبيض والجماعات اليمينية المتطرفة التي تحمل الفكر نفسه في الولايات المتحدة الأمريكية، وقارنتها بالعمليات الإرهابية الداخلية التي قامت بها جماعات ومنظمات أخرى. فعلى سبيل المثال، أجرى "مركز الدراسات الدولية والأستراتيجية"(Center for strategic and international studies) في عام 2021 دراسة تحليلية حول الجرائم العنيفة الجماعية التي ارتكبت في أمريكا، وهي 1040 في الفترة من الأول من يناير 1994 إلى 31 ديسمبر 2021. وقد نُشرت نتائج الدراسة في 17 مايو 2022، حيث توصلت إلى ثلاثة استنتاجات رئيسة، الأول هو الزيادة المطردة في عمليات العنف والعمليات الإرهابية على مستوى الداخل الأمريكي، والثاني أن معظم هذه العمليات(53%) قامت بها جماعات تفوق العرق الأبيض بمسمياتها المختلفة التي تؤمن بنظرية مؤامرة استبدال البيض، وتَكره الأديان والأقليات الأخرى، وتُكن العداء للحكومة الاتحادية، والاستنتاج الثالث أن هذه الجماعات لها علاقات تنسيقية مع بعض على المستوى الدولي، وأن أية عملية إرهابية ترتكب في إحدى الدول تكون بمثابة تحفيز وتشجيع للآخرين للقيام بمثلها.

 

ولكن السؤال الذي يُحيرني هو: كيف لهذه الأفكار الشيطانية الرجعية المتأخرة غير الحضارية أن تُقاوم دفنها في مقبرة التاريخ منذ أكثر من قرن؟ فلا بد أن هناك من يحمي مثل هذه النظريات والأفكار، ولا بد من وجود غطاءٍ شرعي ورسمي في هذه المجتمعات يمنع اختفاؤها، بل ويغذيها ويقويها لكي تستمر، وتنمو في بعض الأوقات.

 

وفي تقديري هناك عدة أنواع من الغطاءات الرسمية التي تقف وراء هذه الجماعات، وتُسوق وتدعو لأفكارها وسياساتها، أو في الأقل تُسندها وتدعمها بطرق غير مباشرة. أما الغطاء الأول فهو الأحزاب السياسية المعتمدة في الدول والتي تعمل بشكلٍ رسمي، وقد تصل في بعض الحالات إلى تشكيل الحكومات، أو إلى رأس الهرم السياسي التنفيذي وأعلى سلطة في الدولة، مثل الرئيس الأمريكي السابق ترمب، الذي كان أكبر سند ودعم لهذه الجماعات. فقد كان ترمب يرفض التنديد بأعمالها وأفكارها، بل كان يؤخر صدور التقارير الأمنية التي تبين تهديد هذه الجماعات للأمن القومي الأمريكي، أو يقوم بتغيير صياغة هذا التقارير فيُخفف من لهجتها لتكون عباراتها أقل انتقاداً لها. وفي الوقت نفسه هناك الغطاء التشريعي من الكثير من الأعضاء المنتمين إلى الحزب الجمهوري في مجلسي النواب والشيوخ. فعلى سبيل المثال، وافق مجلس النواب الأمريكي في 18 مايو 2022 على قانون لمواجهة الإرهاب الداخلي من الجماعات اليمينية العنيفة والمتشددة بعد مذبحة مدينة بافالو تحت عنوان: "منع الإرهاب الداخلي"، ولكن معظم أعضاء الحزب الجمهوري رفضوا هذا القانون الذي يكافح هذه الجماعات اليمينية المتشددة، حيث صوتوا بـ "لا" على هذا القانون.

 

كما قام معهد الأبحاث والتعليم حول حقوق الإنسان(Institute for Research and Education on Human Rights) بدراسةٍ نشرها في العشرين من مايو 2022 تحت عنوان:" خرق الاتجاهات السائدة"، حيث أجرى المعهد حصراً شاملاً لتغلغل ونفوذ اليمين المتطرف في المجالس التشريعية في الولايات الخمسين. ومن الاستنتاجات التي تمخضت عن الدراسة أولاً أن أكثر من واحد من كل 5 من المشرعين الجمهوريين في الولايات المتحدة الأمريكية ينتمون إلى مجموعات اليمين المتطرف، أي أن هناك 875 أو 11.85% من المشرعين الذين كانوا يعملون في السنة 2021_2022 في خمسين ولاية كانوا أعضاءً في المجموعات اليمينية المتشددة التي لها صفحات على الفيس بوك، والتي بلغ عددها 789. والاستنتاج الثاني فهو أن الأفكار اليمينية المتطرفة كانت قبل عقد من الزمن موجودة ولكن باستحياء وخجل وتعمل في الظلام وفي المواقع غير المعروفة في وسائل التواصل الاجتماعي. أما الآن وخاصة بعد وصول ترمب إلى الحكم فهذه الأفكار الظلامية ونظريات الاستبدال للبيض تحولت إلى أفكار سائدة، وتيار سياسي متنفذ، وأصبحت تنزل بقوة وعلانية في ضوء الشمس في وسائل الاتصال والإعلام القومية، وتحظى بشعبية واسعة النطاق من قبل البيض بشكلٍ عام، مما يعني بأن المجموعات اليمينية المتشددة والعنيفة قد حصلت على غطاءٍ شرعي يبرر وجودها علانية، ويقدم الأعذار لكل الأعمال الشنيعة التي تقوم بها، ويحميها من المساءلة القانونية.

 

وأما الغطاء الثاني لهذه المجموعات والحركات اليمينية من جماعات تفوق العرق الأبيض، فهو الإعلام القومي الواسع الانتشار على مستوى كافة الولايات، فهو صوت هذه الجماعات، وهو المنبر الرسمي لنقل الأفكار الفاسدة ونشرها بين جميع فئات المجتمع، كما هو الذي يقدم المبررات والأعذار لتصرفاتها وسلوكياتها المتشددة والعنيفة. ومن المحطات التلفزيونية اليمينية المحافظة المعروفة هي قناة "فوكس نيوز"( Fox News)، وشبكة وان أمريكا نيوز(One America News Network)، ومحطة نيوزماكس(Newsmax). أما عن فوكس نيوز المعروفة، ففي برنامج تَكر كارلسون ( Tucker Carlson Tonight) والذي يقدمه يميني متشدد، فقد تكلم دفاعاً عن نظرية الاستبدال في أكثر 400 حلقة في الفترة من 2017 إلى 2021، حسب تحليل المحتوى الذي قامت به صحيفة النيويورك تايمس والمنشور في 30 أبريل 2022. وهذه الوسائل الإعلامية، إضافة إلى وسائل التواصل الاجتماعي لها تأثير عميق على الشعب الأمريكي، حيث نُشر تحقيق في مجلة النيوزويك في 17 مايو 2022 تحت عنوان: "مجموعات مجهولة تدير البلاد"، وجاء فيه بأن 48% من الأمريكيين يعتقدون بأن هناك جهات مجهولة تدير البلاد، حسب استطلاع للرأي أجرته "أسوشيتدس برس" (Associated Press-NORC Center for Public Affairs Research) في الفترة من الأول من ديسمبر إلى 23 ديسمبر 2021، كما أن 32% من الشعب الأمريكي يؤيدون نظرية الاستبدال والإحلال.

 

والغطاء الثالث الذي تحظى به جماعات نظرية الاستبدال للبيض فهو الجانب الأمني المتمثل في اختراق أفراد اليمين المتطرف في أجهزة الأمن، سواء في الشرطة، أو الجيش. فهناك العديد من التقارير والدراسات المنشورة حول هذا الاختراق الأمني، منها التقرير الخاص الصادر من مشروع بحثي قامت به إدارة "مراقبة تهديد الإرهاب الداخلي" أو "دِي تِي تي إِم"( Domestic Terrorism Threat Monitor) التابعة لـ "معهد الشرق الأوسط للأبحاث الإعلامية" أو "إم إي إم آر آي"(The Middle East Media Research Institute) في الولايات المتحدة الأمريكية، وهي منظمة مستقلة غير ربحية، وغير حزبية في العاصمة الأمريكية. وهذه الدراسة المتخصصة المنشورة في 12 نوفمبر 2021 جاءت تحت عنوان: "التطرف في الجيش الأمريكي: دراسة لأنشطة النازيين الجدد وتفوق العرق الأبيض في الجيش عبر الإنترنت"، حيث أشار التقرير إلى هذا التهديد الداخلي المستور الذي كشفه حول تجذر العناصر المتطرفة والعنصرية في الجيش الأمريكي منذ سنوات، والذي برز إلى السطح مؤخراً، وبالتحديد أثناء حكم ترمب، حيث تنبه الرئيس الحالي بايدن إلى خطورة هذه الظاهرة وأمر بمراقبتها، ومكافحتها، واستئصالها من الجيش الأمريكي في كل فروعه.

 

فمن الواضح بأن نمو شوكة هذه الجماعات والحركات النصرانية اليمينية المتطرفة من جماعات تفوق العرق الأبيض ونظرية استبدال البيض والنازيون الجدد في العقد الأخير، سواء في الولايات المتحدة، أو في دول أوروبية مثل ألمانيا، وفرنسا، والنمسا، كان لعدة أسباب منها وجود الغطاء الرسمي السياسي، والتشريعي، والإعلامي، والأمني.

الأربعاء، 18 مايو 2022

هل التغير المناخي وتغيير استخدامات الأرض سيُسببان لنا وباءً جديداً؟

قبل أكثر من عشر سنوات أرسل لي أحد الأخوة صورة لجدار منزله الخارجي في أحد المجمعات السكنية التي أُنشئت قبل أكثر من عقد من الزمن في جنوب البحرين في منطقة برية وصحراوية، وكانت تعتبر في ذلك الوقت من المناطق النائية والبعيدة عن الأنشطة البشرية، وبخاصة الأنشطة العمرانية السكنية. فهذه الصورة كانت تُريني مشهداً غريباً بالنسبة لنا في البحرين، وتقدم منظراً نادراً لا يراه الكثير من الناس.

 

فهذه الصورة حتى بالنسبة لي كانت تمثل منظراً غير مألوف وغير طبيعي في بلادنا، وفي الوهلة الأولى كنتُ أظن بأنها تبين بقعاً سوداء قاتمة اللون على جدار المنزل، ولكن بعد التدقيق في الصورة، والنظر إليها بتفحص أكثر وعن قرب، تأكد لي بأنها مجموعة لا تقل عن ثلاثين من الخفافيش الداكنة اللون التي التصقت بجدار البيت، وعلَّقت نفسها على سطحه.

 

فهذه الظاهرة الجديدة علينا، والتي وصفتُها لكم قد يعتبرها البعض بسيطة وسطحية في ظاهرها، ولا تستحق أن نتناولها ونتحدث عنها، ولكن عند دراسة مثل هذه الظاهرة على المستوى الدولي والولوج في تفاصيلها وأبعادها المختلفة، وهي وجود الخفافيش في بيئات سكنية مأهولة بالناس، وجدتُها بأنها هي في الواقع جزء من ظاهرة عالمية يمكن مشاهدتها في معظم دول العالم، ولكن تختلف في صورها ومشاهدها من بلدٍ إلى آخر، بل وإن انكشاف مثل هذه الظاهرة ومثيلاتها قد سببت للبشرية في السابق وحالياً كُربات بيئية وصحية عقيمة، منها على سبيل المثال وباء كورونا الذي نزل على البشرية جمعاء، والتهم في أشهر قليلة جداً بشكلٍ مباشر أو غير مباشر أرواح قرابة 14.9 مليون إنسان في الفترة من الأول من يناير 2020 إلى 31 ديسمبر 2021، حسب تقرير منظمة الصحة العالمية المنشور في السادس من مايو 2022.

 

فكما يعلم الجميع الآن بأن هناك شبه إجماع عند العلماء بأن وباء كورونا الذي نشهده اليوم في كل شبرٍ من كوكبنا قد كان بسبب انتقال فيروس كورونا من الخفاش إلى الإنسان، إما بشكلٍ مباشر عن طريق تعرض الإنسان للخفاش الذي يُعتبر جسمه مخزناً هائلاً لأنواع كثيرة من الفيروسات التي انتقلت إلى الإنسان، وإما بطريقة غير مباشرة من خلال حيوان آخر وسيط يحمل هذه الفيروسات المرضية القاتلة.

 

ولكن كيف يتعرض الإنسان للخفاش الذي يعيش في بيئات هادئة ونائية وبعيدة عن تحركات البشر وأنشطته التنموية، مثل الكهوف المظلمة، أو على الأشجار العالية، أو على الأسطح التي لا يقترب منها البشر عادة؟

 

أكدت الأبحاث الميدانية أن هناك عدة طرق يتعرض فيها الخفاش للبشر، ومنها المشهد الذي وصفته لكم في مطلع المقال. ففي الكثير من الحالات يتوغل الإنسان نفسه على بيئة الخفافيش البعيدة التي تعيش فيها آمنة مطمئنة لا تفاعل بينها وبين بني البشر، وتفصل بينهما مسافات طويلة نسبياً، فيغزو الإنسان هذه البيئات الفطرية النائية ويستبيح حرماتها، ويُقرِّب المسافات بينها، فيُحدث تغيراً جذرياً في أنماط استخدام الأرض في تلك البيئات، ويُشكل خللاً في النظام البيئي العام، مثل بناء منشآت تنموية مختلفة منها صناعية، أو ترفيهية، أو مجمعات سكنية، أو بناء الطرق والجسور. وهنا قد يقع الخلل وتفقد البيئة توازنها الدقيق والهش، فيحدث نوعاً من التفاعل غير المرغوب فيه والمضر بين بني البشر والخفافيش، مما يساعد على انتقال الفيروسات التي تحملها هذه الخفافيش إلى الإنسان مباشرة. كما يمكن للخفافيش أن تتفاعل بطريقةٍ أو بأخرى مع الحيوانات المستأنسة مثل القطط، والكلاب، وغيرهما التي تعيش مع الإنسان، فتحمل الفيروسات من هذه الخفافيش وتنقلها إلى الإنسان، فيصاب بأمراض وأوبئة حسب نوعية الفيروس وخطورته وقوته في نقل العدوى بين بني البشر.

 

كذلك في بعض الحالات يذهب العلماء والباحثون عمداً إلى بيئات الخفافيش بهدف إجراء دراسات ميدانية وفي مواقعها الطبيعية، أو أخذ عينات منها للتعرف عن نوعية الفيروسات التي تحملها هذه الخفافيش والأسقام التي من المحتمل أن تصيب الإنسان عند انتقال هذه الفيروسات إلى جسمه، وقد تحدث أخطاء وهفوات ميدانية عند إجراء البحوث، فيتعرض العالم لعضة الخفافيش، فتنتقل إليه الفيروسات، ثم يُعدي الآخرين بها.

 

ومن ناحية أخرى فإن هذه الخفافيش، والحيوانات والطيور الأخرى بشكلٍ عام، قد تهاجر، أو تنتقل إلى بيئاتٍ ومناطق جديدة عند وقوع التغير المناخي وارتفاع حرارة الأرض، كما هو عليه الحال الآن، مما يضطرها جميعاً إلى البحث عن بيئات أخرى أكثر برودة، وأشد ملائمة لحياتها والظروف المناخية والغذائية والمعيشية فيها أفضل من المناطق السابقة. وفي هذه الحالة أيضاً تحدث هناك تفاعلات غير فطرية وغير طبيعية من عدة صور وطرق بين الأنواع الحيوانية المختلفة في البيئات الجديدة وبني البشر، مما يسهل انتقال الفيروسات، والبكتيريا، والجراثيم المرضية الأخرى بين الحيوانات من جهة، وبين الحيوانات والإنسان من جهة أخرى ويُطلق عليها(zoonotic spillover)، مما يزيد من الأوبئة والعلل بين بني البشر، وتنكشف أمراض جديدة لم يعرفها الإنسان من قبل.

 

وهناك عدة دراسات بدأت تسبر غور هذه القضية، منها الدراستان المنشورتان في مجلة "الطبيعة"، في 28 أبريل 2022، الأولى تحت عنوان: "التغير المناخي يزيد من مخاطر انتقال الفيروسات بين الأنواع الحية"، والثانية عنوانها: "التغير المناخي سيفاقم من تفاعل الحيوانات مع بعض وسيزيد من احتمال نقل الفيروسات بينها". وقد توصلت هاتان الدراستان ودراسات أخرى إلى عدة استنتاجات هامة وخطيرة، منها أن تغيير أنماط استخدام الأرض، وبخاصة إزالة الغابات الفطرية الاستوائية الكثيفة وتحويلها إلى مزارع للمحاصيل، أو الرعي، أو بناء الطرق يزيد من الاتصال والتفاعل بين الحيوانات من جهة، وبين هذه الحيوانات وبني البشر من جهة أخرى، مما يرفع من احتمال انتقال الفيروسات إلى هذه الحيوانات، ثم إلى الإنسان، ونزول أوبئة جديدة.

 

كما أن الدراسات أشارت إلى وجود علاقة بين التغير المناخي وتداعياته المتمثلة في سخونة الأرض، وتغير أنماط سقوط الأمطار، واحتمال تعرض الإنسان للأوبئة، كوباء كورونا، فارتفاع حرارة الأرض وتغير سقوط الأمطار يضطر الحيوانات والطيور إلى الهجرة والاستقرار في مناطق أخرى قد تكون قريبة من المجتمعات البشرية، مما يرفع من احتمال تعرضها وتفاعلها، وبخاصة التي تحمل الأمراض المعدية، مع الإنسان ونقل الفيروسات والبكتيريا والطفيليات إليه، ثم إشعال فتيل أزمة صحية جديدة لن تنطفئ.

 

ولذلك يجب على الإنسان إجراء حسابٍ دقيق وشامل لكل أعماله التنموية قبل الشروع فيها، كتغيير استخدامات الأرض، كما أن عليه سرعة أخذ الإجراءات اللازمة لمكافحة التغير المناخي وسخونة الأرض حتى لا نُعرض أنفسنا لأوبئة جديدة لا طاقة لنا بها، ولا علم لنا ولا خبرة في كيفية علاجها.

الاثنين، 16 مايو 2022

هل تُعاني الحيوانات من الجِتْ لاج

كل من سافر في رحلات جوية طويلة وسريعة من الشرق إلى الغرب، أو من الغرب إلى الشرق لا بد إنه قد عاني من ظاهرة، أو حالة صحية مؤقتة تعرف بالجِتْ لاجْ(jet lag)، وهي حالة من الاضطراب الجسدي الفسيولوجي والنفسي الناجمين عن هذه الرحلات الجوية الطويلة بدون توقف أو أخذ قسطٍ من الراحة والنوم. وتتمثل عادة في الشعور بالتعب والمعاناة من مشكلة حادة في القدرة على النوم قد تستمر ليومين أو أكثر، إضافة إلى تغير جذري في البرنامج والنظام اليومي العادي للنوم، فقد تكون مُستيقظاً نشيطاً طوال الليل ولا تحس بأية حاجة على النوم، أو على العكس تشعر بالتعب وبصداع شديد وعدم القدرة على البقاء قوياً ومستيقظاً طوال النهار، فتكون غير قادرٍ على العمل والإنتاج. وعلاوة على ذلك فمن أعراض الإصابة بالجت لاج هو اضطرابات في الجهاز الهضمي، وقد تكون أعراضها الإمساك وآلام في البطن.

 

فمن المعروف أن جسم الإنسان يمتلك ساعة حيوية داخلية متخصصة في إشعار الجسد بموعد الراحة والاسترخاء والنوم، ثم تنبيه الجسم بوقت الاستيقاظ والعمل والإنتاج والنشاط، ولكن في بعض الحالات يحدث خلل في هذا النظام الداخلي الفطري الذي يعمل بصورة تلقائية، وتقع مثل هذه الحالات أثناء الرحلات الجوية الماراثونية الطويلة بدون توقف، من وإلى الدول التي يوجد بها فرق في الوقت، أو الساعة من اليوم أو الليلة، حيث يكون نظام الساعة الداخلي في الجسم مُبرمجاً فطرياً ومتزامناً مع بلد دخول الطائرة، أو موقع إقلاع الطائرة، ولا تتغير ساعة الإنسان الداخلية الكامنة في الجسم مع فرق التوقيت في بلد المغادرة أو بلد الوصول، مما يسبب إرباكاً داخلياً، وخللاً في التوازن المتعلق بهذه الساعة الحيوية، وكلما زادت المسافة التي يقطعها واختلف الفرق في التوقيت بين بلد المغادرة وبلد الوصول، فإن ذلك يؤدي إلى زيادة وتفاقم درجة الاضطراب والخلل والشعور بعدم التوازن.

 

فجسم الإنسان مع الوقت عندما يعيش في مدينة واحدة لسنوات طويلة يتعود على برنامج "روتيني" متكرر يومياً، ويصبح عنده نمط من الحياة يمشي عليه يومياً بشكلٍ دوري، مثل موعد تناول الوجبات الغذائية في أوقات محددة من اليوم والليلة، ومواعيد معروفة مسبقاً لممارسة الأنشطة والبرامج الأخرى، سواء أكانت في النهار أو الليل، إضافة إلى وقت محدد يخلد فيه للنوم والاستيقاظ، وبذلك يصبح جسم الإنسان متأقلماً مع هذا البرنامج، ومتكيفاً مع هذا النوع من الحياة اليومية، وأي تغيير سريع لهذا النمط يحتاج إلى قدرة كامنة وسريعة للجسد للاستجابة هذه التغيرات المفاجئة وإعادة ترتيب فوري لهذا النمط الجديد من الحياة وضبط الساعة البيولوجية، وعند فشل جسم الإنسان في إصدار ردة فعل سريعة والتكيف مع كل هذه الحالات المستحدثة، فينزل على الإنسان اضطراب مفاجئ في صحته.   

 

فهل هذه الحالة الصحية التي تنكشف علينا بسبب تغير ظروف حياتنا فجأة، وتغير البيئة التي نعيش فيها في فترة قصيرة من الزمن، من الممكن أن تظهر على الحياة الفطرية بشقيها النباتي والحيواني؟ وبعبارة أخرى هل هذه الكائنات الحية تصاب بالجت لاج عندما يحدث تغير في مكونات البيئة الطبيعية الفطرية التي عاشت فيها آلاف السنين من نمط دوري معروف لدرجة الحرارة، وموعد موسم هطول الأمطار، ووقت شروق الشمس وغروبها، أو الوقت الذي يحين فيه الظلام والوقت الذي ينكشف فيه ضوء الشمس؟

 

فهل إذا حدثت كل هذه التغييرات، كما هو الوضع عليه الآن، يمكن أن تنعكس على صحة وسلامة الحياة الفطرية، وبالتالي تؤثر على النظام البيئي وسلامة الإنسان وأمنه الصحي على المدى البعيد؟

 

فهناك عدة قضايا انكشفت في العقود الماضية وتركت بصمات قوية ومشهودة على بعض العوامل المناخية الطبيعية لكوكبنا، فمنها ما أحدث تغييراً في درجة حرارة الأرض فرفع من سخونتها، كظاهرة التغير المناخي، والتي أحدثت في الوقت نفسها اضطراباً في موعد، وشدة، وتكرار سقوط الأمطار على المستويين الإقليمي والقومي، ومنها التلوث الضوئي والإنارة الساطعة والواسعة الانتشار جغرافياً في كل بقعة من كوكبنا، وبخاصة أثناء فترة الليل، مما أحدث خللاً في أوقات حلول الظلام، واضطراباً وتغيراً في موعد ولوج وقت الليل. 

 

وكل هذه التغيرات التي طرأت على كوكبنا بسبب تلوث البيئة وانكشاف المظاهر والقضايا البيئية الناجمة عنها، جعلت العلماء يفكرون في تأثيراتها وانعكاساتها على الكائنات الحية على وجه الأرض، سواء الإنسان، أو الحياة الفطرية.

 

وفي هذا المقال سنستعرض بعضاً من أهم الدراسات التي سبرت غور تأثير التغير في أنماط درجة الحرارة والضوء قبيل وأثناء الليل، وتغير حلول فترة الليل والنهار على الحياة الفطرية وإصابتها لحالة الجت لاج.

 

فالكائنات الحيوانية، على سبيل المثال، وبخاصة الليلية منها، تخرج من جحورها أو مخابئها أياً كانت، مباشرة بعد غروب الشمس، وبدء حلول الظلام بحثاً عن قوت يومها لها ولعيالها، وممارسة باقي أنشطتها الحياتية، ولكن عندما ترتفع شدة الأضواء، وتزداد الإنارة، وتتوسع دائرة التلوث الضوئي، فإن هذه الكائنات يصيبها التشويش في موعد الخروج، فتظن بأن وقت خروجها لم يحن بعد، فتبقى في جحورها، مما يحدث لها اضطراباً في حياتها وخللاً في نهجها اليومي.

 

وهناك أنواع من الحيوانات مثل خنفساء الروث (dung beetles) التي تعيش في دولة جنوب أفريقيا، وتعتمد في حركاتها وتنقلاتها ليلاً على ضوء النجوم في السماء والمعروف بـ"درب التبانة"، أو "الطريق اللبني"(Milky Way)، والتلوث الضوئي الذي ينير السماء بالأنوار الصناعية الساطعة لا يجعلها ترى ضوء هذه النجوم التي تهديها إلى ممارسة حياتها أثناء الليل، فتتشوش حركتها وتنقلاتها، ويجعلها تضل طريقها المألوف، مما يؤدي إلى اضطراب مزمن مع الوقت في حياتها، وربما إلى الهلاك والانقراض. وهذه الحالة تنطبق أيضاً على حركة الطيور المهاجرة الموسمية أثناء الليل، فهي تنجذب وتصطدم بالمباني المنيرة والنوافذ العالية المضيئة فتلقى حتفها، أو في الأقل تضل طريقها وتنحرف عن مسار طيرانها الذي فُطرتْ عليه أثناء الليل، حسب الدراسة المنشورة في مجلة "الطبيعية" في 30 مارس 2021 تحت عنوان: "التلوث الضوئي للأقمار الصناعية في كل مكان"، والدراسة المنشور في 14 مارس 2018 في مجلة "تقارير علمية" تحت عنوان: "التلوث الضوئي للأشد في طريق هجرة الطيور الليلية حول العالم". كذلك هناك الدراسة المنشورة في مجلة "البيئة الحيوانية"(Journal of Animal Ecology) في 24 مارس 2022 تحت عنوان: "التغير المناخي يؤثر على موعد بناء العش عند الطيور: مقارنة بين الدراسات الميدانية الحالية والسجلات التاريخية"، والتي تفيد بأن حلول الربيع يأتي باكراً عن السنوات الماضية، مما يجعل الطيور تبني أعشاشها نحو شهر واحد أبكر من الوقت الطبيعي المعروف. إضافة إلى الدراسة حول تأثير التلوث الضوضائي على حركة ومسيرة الطيور المهاجرة ليلاً والمنشورة في مجلة "الكرة الحية"(Ecosphere)في 28 مارس من العام الجاري.

 

فمن الواضح أن التلوث الضوئي والتغير في حرارة الأرض، والتداعيات الكثيرة والمتنوعة التي تنجم عنهما تعمل مع بعض بطريقة تراكمية ومجموعية، فتغير من سلوك الحياة الفطرية الحيوانية والنباتية وتحرف وتحول عاداتها الدورية الموسمية الموقوتة في زمن ومكان محددين، فتسبب لها خللاً واضطراباً شديدين مزمنين في مسيرة حياتها واستدامتها على سطح الأرض، فهي إذن كالإنسان تُصاب بحالة من "الجت لاج"، ولكنها في الكثير من الحالات قد تكون أشد وطأة وتأثيراً وهلاكاً، وتؤدي بها إلى الانقراض في نهاية المطاف.

 

الأربعاء، 11 مايو 2022

جماعات تفوق العرق البيض: ظاهرة قومية أم دولية؟

الانتخابات الرئاسية الفرنسية التي أُجريت في أبريل 2022 أفادت بأن النصرانية اليمينية المتطرفة ماريان لوبان قد حصلت على 41.5% من إجمالي الأصوات، أي 13297760 صوتاً فرنسياً، وهذه النتيجة أعلى وأفضل من نتيجة الانتخابات التي أُجريت في عام 2017، والتي حصلت فيها على نسبة أقل وهي 33.9%.

 

فهذه النتيجة في حد ذاتها تشير إلى بُروز ونمو عدة حالات ومظاهر في المجتمع الفرنسي، ومنها استفحال ظاهرة محددة بدأت معالمها وصورتها تتضح يوماً بعد يوم، وهي ظاهرة "القومية والشعبوية"، وتوجه المجتمع الفرنسي نحو التشدد والتطرف، وكُره الآخرين، والابتعاد عن مبدأ التسامح والحرية والتعددية الفكرية.

 

فهل هذه الحالة الفرنسية فريدة من نوعها ولا توجد مثلها في دول غربية أخرى، أم أنها ظاهرة عامة تفشت وتخطت الحدود الجغرافية لكل دولة؟

 

وهل الجماعات اليمينية المتطرفة والعنيفة في بعض الأحيان الموجودة في فرنسا تشترك مع جماعات وحركات أخرى في الأفكار والممارسات، والتي ظهرت في دول محددة مثل ألمانيا، والنرويج، والسويد، وفنلندا، والنرويج، والولايات المتحدة الأمريكية، وأستراليا وغيرها؟ وهل ترتبط مع بعض وتُنسق أنشطتها على المستوى الخارجي ولها علاقات تعاون وثيقة؟

 

في الواقع فإن هذه الجماعات قد تختلف في مسمياتها وعناوينها، ولكن تشترك مع بعض في وصفها، وأهدافها، وأفكارها، وممارساتها إلى حدٍ بعيد. فهناك الجماعات القومية والشعبوية، وهناك حركة النازيين الجدد، وهناك جماعات تفوق العرق الأبيض، وكلها من النصارى البيض، ومن أقصى اليمين المتشدد والذي يميل إلى العنف والقيام بأعمال إرهابية، وكلها تكره الجنس الآخر والأديان الأخرى، وكلها تقف ضد التجنيس، وفي بعض الحالات كالولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا تحارب الحكومة الاتحادية. 

 

وهناك الكثير من المقالات، والدراسات، والتقارير الحكومية وغير الحكومية التي تجيب عن هذه الأسئلة من خلال تحليل أفكار وتصريحات المسؤولين عن هذه الجماعات، وتقييم ودراسة العمليات الإرهابية التي قاموا بها في عدة دول(مثلاً في مدينة أوكلاهوما بولاية أوكلاهوما، ومدينة ألباسو في تكساس، وفي النرويج، وفي نيوزلندا)، وتمخضت عنها استنتاجات عامة تتلخص في ما يلي:

أولاً: هذه الجماعات النصرانية اليمينية المتشددة بدأت تظهر بشكلٍ علني وواضح في المجتمعات الغربية في السنوات القليلة الماضية، وهذه الحركات كشفت عن هويتها الحقيقية المتطرفة الآن بدون خوف، أو حياء، وتمارس أفكارها المظلمة تحت ستار الأحزاب الرسمية، وتحت غطاء سياسي معترف به من الحكومات بحجة حرية الرأي والتعبير، والتعددية الفكرية.

ثانياً: هذه الجماعات تشترك في الكثير من أهدافها وأفكارها المتمثلة في تفوق العرق الأبيض، وكره الأجانب، والتعصب الديني، وممارسة العنصرية، والميل في بعض الحالات نحو العنف والإرهاب.

ثالثاً: يوجد تنسيق بين هذه الحركات عبر القارات وعبر الحدود الجغرافية للدول، كما توجد روابط وعلاقات بينها في تنفيذ بعض البرامج، وبعض أفراد هذه الجماعات الذي قام بعمليات إرهابية معروفة قد تأثر بأفكار وممارسات شخصيات متطرفة موجودة في دول أخرى.

رابعاً: هناك شبه إجماع عند المفكرين وبعض السياسيين والعلماء في الغرب على تصنيف هذه الحركات اليمينية العنيفة المتطرفة على أنها "منظمات إرهابية أجنبية وخارجية"، على غرار تصنيف الجماعات الإسلامية، مثل القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية. 

 

ومن هذه المنشورات، المقال الذي كتبه ماكس روز عضو سابق في الكونجرس الأمريكي، وجاك روزن رئيس المؤتمر الأمريكي اليهودي، العضوان في "المجلس الاستشاري لمكافحة تفوق العرق الأبيض والإرهاب الداخلي"، في مجلة "النيوزويك" الأمريكية في الأول من مايو 2022 تحت عنوان: "تطرف تفوق العرق الأبيض لم يعد قضية داخلية. إنها قضية دولية"، حيث يفيد المقال بأن الإرهاب الداخلي الأمريكي من جماعات تفوق العرق الأبيض مرتبط بشبكة دولية من الأنشطة الإرهابية لهذه الجماعات، وتتعدى الحدود الجغرافية للولايات المتحدة الأمريكية لتصل إلى ألمانيا، وأستراليا، وكندا، وروسيا، وبريطانيا، ودولة جنوب أفريقيا. كما يشير المقال إلى أن هذه الشبكة الدولية هي نواة الأفكار المتطرفة العنيفة، وهي التي تغذي الآخرين بمثل هذه المبادئ المتشددة.

 

كذلك هناك الدراسة المنشورة من مركز سوفان(Soufan Center)، وهو منظمة مستقلة للأبحاث والسياسات حول قضايا الأمن الدولي، في 27 سبتمبر 2019، تحت عنوان: "تطرف تفوق العرق الأبيض: صعود حركة تفوق العرق الأبيض العنيفة عبر الحدود الجغرافية"، حيث خلصت الدراسة إلى أن جماعات تفوق العرق الأبيض "تُقوي شبكتها عبر الحدود القومية، حتى إنها تُقلد تكتيكات وأساليب مجموعات مثل القاعدة وتنظيم الدولة. فهذه الشبكات تشترك في أسلوب عملها وممارساتها من حيث تجنيد الأفراد الجدد، وفي وسائل التمويل، وطرق الدعاية التي تتبعها". فهذا التقرير من "مركز سوفان" يشير إلى أن أعمال هذه الجماعات اليمينية المتطرفة تتخطى حدود الدولة الواحدة، فهي ليست حركة قومية داخلية على مستوى الولايات المتحدة، ولكنها حركة عابرة لحدود الدول، ولها اتصالات وروابط مع شبكات لها نفس الهدف، وتتبنى السياسات نفسها، وتمارس أسلوباً مشابه في العمل، وتشترك في برامج موجهة لعامة الناس من أجل تجنيدهم وضمهم إلى هذه الحركة.

 

كما أصدر "مركز سوفان" في 12 أغسطس 2020 تقريراً خاصاً تحت عنوان: "شبكة أَتُومْوافِن: نشؤ تهديد تفوق العرق الأبيض"، وهذه الحركة الجديدة(Atomwaffen)، تعتبر شبكة للنازيين الجدد في ألمانيا، ولكن لها جذور في الولايات المتحدة الأمريكية وفي دول أخرى، وانكشفت هذه الجذور والعلاقة في المسيرة العنيفة التي نُظمت في مدينة شارلتسفيل(Charlottesville) في ولاية فيرجينيا في 12 أغسطس عام 2017، تحت شعار "وحدوا اليمين"، حيث وقعت صدامات عنيفة بين جماعات تفوق العرق الأبيض وجماعات أخرى معارضة، كما أثبت التقرير نفسه بأن هذه الحركة اليمينية الألمانية لها الآن ارتباطات واتصالات بمجموعات أخرى موجودة في السويد، وبريطانيا، وكندا، وأوكرانيا.

 

وعلاوة على ما سبق، هناك التقرير الخاص الصادر من مشروع بحثي قامت به إدارة "مراقبة تهديد الإرهاب الداخلي" أو "دِي تِي تي إِم"( Domestic Terrorism Threat Monitor) التابعة لـ "معهد الشرق الأوسط للأبحاث الإعلامية" أو "إم إي إم آر آي"(The Middle East Media Research Institute) في الولايات المتحدة الأمريكية، وهي منظمة مستقلة غير ربحية، وغير حزبية في العاصمة الأمريكية. وهذه الدراسة المتخصصة المنشورة في 12 نوفمبر 2021 جاءت تحت عنوان: "التطرف في الجيش الأمريكي: دراسة لأنشطة النازيين الجدد وتفوق العرق الأبيض في الجيش عبر الإنترنت"، حيث أشار التقرير إلى هذا التهديد الداخلي المستور الذي كشفه حول تجذر العناصر المتطرفة والعنصرية في الجيش الأمريكي منذ سنوات، والذي برز إلى السطح مؤخراً، وبالتحديد أثناء حكم ترمب، حيث تنبه الرئيس الحالي بايدن إلى خطورة هذه الظاهرة وأمر بمراقبتها، ومكافحتها، واستئصالها من الجيش الأمريكي في كل فروعه.

 

كما نشرتْ هذه المنظمة "إم إي إم آر آي"، تقريراً يوصي فيه تصنيف المجموعات اليمينية المتطرفة والعنيفة في الولايات المتحدة وفي الدول الأخرى كمنظمات إرهابية أجنبية، وجاء التقرير تحت عنوان: "التوصية للتصنيف المستقبلي للمجموعات المتطرفة العنيفة كمنظمات إرهابية أجنبية حسب الأمر التنفيذي رقم 13224". فهذا الأمر التنفيذي (Executive Order 13224) الصادر من مكتب مكافحة الإرهاب ووقعه الرئيس الأسبق جورج بوش الابن في 23 سبتمبر 2001 تحت عنوان: "تجميد ممتلكات وحظر التعامل مع الأشخاص الذين يرتكبون أعمال إرهابية أو يُهددون بارتكابها أو يدعمونها"، تَكون من عدة بنود، منها الإعلان عن حالة الطوارئ على المستوى الاتحادي للتعامل مع حادثة الحادي عشر من سبتمبر والإرهاب الخارجي الأجنبي بشكلٍ عام، ومنها البند المتعلق بـ "معايير تصنيف الجماعات الإرهابية الأجنبية". وهذا البند يعطي صلاحية التصنيف لوزارة الخارجية، بالتشاور مع وزارة المالية والنائب العام، كما يقدم تعريفاً لمصطلح "الإرهاب" بأنه "نشاط عنيف، أو عمل خطر يهدد حياة الإنسان، أو ممتلكاته، أو البنية التحتية، وهذا النشاط يهدف إلى إرهاب المدنيين، أو التأثير على سياسة الحكومة، أو التأثير على ممارسات الحكومة من خلال عمليات التدمير الشامل، أو القتل، أو الخطف، أو أخذ الرهائن". وفي الوقت نفسه يقدم البند المعايير الخاصة بتصنيف "منظمة الإرهاب الأجنبي"( Foreign Terrorist Organization)، وهي أن تكون المجموعة أجنبية، وتهدد الأمن القومي الأمريكي، أو الأمريكيين، وتشارك في أنشطة إرهابية، أو لها القدرة والنية لتنفيذ عمليات إرهابية".

 

وحسب هذا الأمر التنفيذي الرئاسي الأمريكي فإن هناك عدة جماعات موجودة في أمريكا وفي خارج أمريكا تحت مسميات مختلفة، وتنطبق عليها مواصفات ومعايير تصنيف "منظمة الإرهاب الأجنبي"، مثل حركة النازيون الجدد، وجماعات تفوق العرق الأبيض، وجماعة "الأولاد الفخورون"(Proud Boys)، و"القاعدة"( The Base).

 

فالسؤال المطروح الآن، وطرحه الكثير من الباحثين في دراساتهم وأبحاثهم: لماذا لا تُصنِّف الولايات المتحدة الأمريكية ودول غربية أخرى هذه الجماعات النصرانية الدولية اليمينية العنيفة كمنظمات إرهابية تهدد الأمن القومي الأمريكي الداخلي، أو أمن الدول الغربية الأخرى؟ أم أن هذا التصنيف خاص فقط للجماعات التي تدين بالإسلام؟ وهل هذا يقدم مثالاً صارخاً جديداً على ازدواجية المعايير الغربية والكيل بمكيالين؟