الأربعاء، 25 مايو 2022

نظرية الاستبدال العظيمة

الرصاصات الإرهابية التي أَطْلقها الشاب النصراني الأمريكي الأبيض بيتون جندرون(Peyton Gendron) في 14 مايو 2022 في مدينة بالفالو(Buffalo) في ولاية نيويورك وقَتَل على الفور وأمام العالم أجمع عشرة من السود وجرح آخرين، هي ليست رصاصات معزولة، وفردية، وليست عشوائية، فهي رصاصات تحمل بصمة وراثية واحدة، فهي نفسها التي أُطْلقت من قبل في الولايات المتحدة الأمريكية وفي دول أخرى كثيرة.

 

فهذه الرصاصات كلها شربت من سُمِ وفِكر مدرسة واحدة هي مدرسة تفوق العرق الأبيض التاريخية القديمة، ولها عقيدة واحدة فاسدة، وتؤمن بالسياسات نفسها، وتتبنى نظرية واحدة يُطلق عليها "نظرية الاستبدال العظيمة"( The Great Replacement) التي تتلخص في إيمان أفرادها وأتباعها بأن هناك مؤامرة في الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبية من أعلى المستويات السياسية والتشريعية على إحلال واستبدال العرق الأبيض بالسود والمهاجرين من الأعراق والأديان الأخرى، والقيام بإبادة جماعية للعرق الأبيض(White Genocide). فأصحاب هذه النظرية يعتقدون بأن السيادة للبيض، والحُكم للبيض، وشرعية الهيمنة على مرافق الدولة السيادية يجب أن تكون للبيض وليس لغيرهم. فهؤلاء يعملون على تحقيق هذا الهدف المشترك منذ عقود طويلة، ولو كان تحقيق هذا الهدف يستلزم التخطيط لعمليات عنيفة وإرهابية وقتل جماعي للسود والأقليات والمهاجرين في دول العالم المعنية.

 

فعلى سبيل المثال، هناك رصاصات الميليشيات المسلحة من العِرق الأبيض اليميني المتطرف التي تعمل ضد الحكومة الاتحادية في الولايات المتحدة، وتمثلت في العملية الإرهابية العظيمة التي قام بها ممثلهم تيميثي ماكفاي(Timothy McVeigh) في 19 أبريل 1995، عندما فجَّر مبنى اتحادي في ولاية أوكلاهوما بشاحنة مفخخة وقتل على الفور 168 وجرح أكثر من 800. كذلك هناك رصاصات تفوق العرق الأبيض للسفاح النرويجي (Anders Breivik) التي قتلت 77 نرويجياً في 22 يوليو 2011، إضافة إلى الرصاصات البغيضة التي قتلت 9 من السود في عام 2015 في كنيسة في مدينة تشارلستن(Charleston) في ولاية جنوب كالوراينا الأمريكية. كما أنها الرصاصات نفسها لروبرت بورز(Robert Bowers) التي قتلت 11 يهودياً في معبد في أكتوبر عام 2018 في مدينة بتسبيرج بولاية بنسلفانيا الأمريكية، كذلك رصاصات باتيك كروسس(Patrick Crusius) قتلت 23 أمريكياً في مدينة ألباسو بولاية تكساس أغسطس عام 2019، علاوة على رصاصات برنتون تارانت(Brenton Tarrant)الأسترالي التي اغتالت أمام أعين الناس 51 مسلماً وجرحت أكثر من خمسين في مسجدين في مدينة(Christchurch) أثناء أداء صلاة الجمعة في نيوزلندا في عام 2019.

 

وقد وثَّقت الدراسات العلمية هذه العمليات الإرهابية من جماعات تفوق العرق الأبيض والجماعات اليمينية المتطرفة التي تحمل الفكر نفسه في الولايات المتحدة الأمريكية، وقارنتها بالعمليات الإرهابية الداخلية التي قامت بها جماعات ومنظمات أخرى. فعلى سبيل المثال، أجرى "مركز الدراسات الدولية والأستراتيجية"(Center for strategic and international studies) في عام 2021 دراسة تحليلية حول الجرائم العنيفة الجماعية التي ارتكبت في أمريكا، وهي 1040 في الفترة من الأول من يناير 1994 إلى 31 ديسمبر 2021. وقد نُشرت نتائج الدراسة في 17 مايو 2022، حيث توصلت إلى ثلاثة استنتاجات رئيسة، الأول هو الزيادة المطردة في عمليات العنف والعمليات الإرهابية على مستوى الداخل الأمريكي، والثاني أن معظم هذه العمليات(53%) قامت بها جماعات تفوق العرق الأبيض بمسمياتها المختلفة التي تؤمن بنظرية مؤامرة استبدال البيض، وتَكره الأديان والأقليات الأخرى، وتُكن العداء للحكومة الاتحادية، والاستنتاج الثالث أن هذه الجماعات لها علاقات تنسيقية مع بعض على المستوى الدولي، وأن أية عملية إرهابية ترتكب في إحدى الدول تكون بمثابة تحفيز وتشجيع للآخرين للقيام بمثلها.

 

ولكن السؤال الذي يُحيرني هو: كيف لهذه الأفكار الشيطانية الرجعية المتأخرة غير الحضارية أن تُقاوم دفنها في مقبرة التاريخ منذ أكثر من قرن؟ فلا بد أن هناك من يحمي مثل هذه النظريات والأفكار، ولا بد من وجود غطاءٍ شرعي ورسمي في هذه المجتمعات يمنع اختفاؤها، بل ويغذيها ويقويها لكي تستمر، وتنمو في بعض الأوقات.

 

وفي تقديري هناك عدة أنواع من الغطاءات الرسمية التي تقف وراء هذه الجماعات، وتُسوق وتدعو لأفكارها وسياساتها، أو في الأقل تُسندها وتدعمها بطرق غير مباشرة. أما الغطاء الأول فهو الأحزاب السياسية المعتمدة في الدول والتي تعمل بشكلٍ رسمي، وقد تصل في بعض الحالات إلى تشكيل الحكومات، أو إلى رأس الهرم السياسي التنفيذي وأعلى سلطة في الدولة، مثل الرئيس الأمريكي السابق ترمب، الذي كان أكبر سند ودعم لهذه الجماعات. فقد كان ترمب يرفض التنديد بأعمالها وأفكارها، بل كان يؤخر صدور التقارير الأمنية التي تبين تهديد هذه الجماعات للأمن القومي الأمريكي، أو يقوم بتغيير صياغة هذا التقارير فيُخفف من لهجتها لتكون عباراتها أقل انتقاداً لها. وفي الوقت نفسه هناك الغطاء التشريعي من الكثير من الأعضاء المنتمين إلى الحزب الجمهوري في مجلسي النواب والشيوخ. فعلى سبيل المثال، وافق مجلس النواب الأمريكي في 18 مايو 2022 على قانون لمواجهة الإرهاب الداخلي من الجماعات اليمينية العنيفة والمتشددة بعد مذبحة مدينة بافالو تحت عنوان: "منع الإرهاب الداخلي"، ولكن معظم أعضاء الحزب الجمهوري رفضوا هذا القانون الذي يكافح هذه الجماعات اليمينية المتشددة، حيث صوتوا بـ "لا" على هذا القانون.

 

كما قام معهد الأبحاث والتعليم حول حقوق الإنسان(Institute for Research and Education on Human Rights) بدراسةٍ نشرها في العشرين من مايو 2022 تحت عنوان:" خرق الاتجاهات السائدة"، حيث أجرى المعهد حصراً شاملاً لتغلغل ونفوذ اليمين المتطرف في المجالس التشريعية في الولايات الخمسين. ومن الاستنتاجات التي تمخضت عن الدراسة أولاً أن أكثر من واحد من كل 5 من المشرعين الجمهوريين في الولايات المتحدة الأمريكية ينتمون إلى مجموعات اليمين المتطرف، أي أن هناك 875 أو 11.85% من المشرعين الذين كانوا يعملون في السنة 2021_2022 في خمسين ولاية كانوا أعضاءً في المجموعات اليمينية المتشددة التي لها صفحات على الفيس بوك، والتي بلغ عددها 789. والاستنتاج الثاني فهو أن الأفكار اليمينية المتطرفة كانت قبل عقد من الزمن موجودة ولكن باستحياء وخجل وتعمل في الظلام وفي المواقع غير المعروفة في وسائل التواصل الاجتماعي. أما الآن وخاصة بعد وصول ترمب إلى الحكم فهذه الأفكار الظلامية ونظريات الاستبدال للبيض تحولت إلى أفكار سائدة، وتيار سياسي متنفذ، وأصبحت تنزل بقوة وعلانية في ضوء الشمس في وسائل الاتصال والإعلام القومية، وتحظى بشعبية واسعة النطاق من قبل البيض بشكلٍ عام، مما يعني بأن المجموعات اليمينية المتشددة والعنيفة قد حصلت على غطاءٍ شرعي يبرر وجودها علانية، ويقدم الأعذار لكل الأعمال الشنيعة التي تقوم بها، ويحميها من المساءلة القانونية.

 

وأما الغطاء الثاني لهذه المجموعات والحركات اليمينية من جماعات تفوق العرق الأبيض، فهو الإعلام القومي الواسع الانتشار على مستوى كافة الولايات، فهو صوت هذه الجماعات، وهو المنبر الرسمي لنقل الأفكار الفاسدة ونشرها بين جميع فئات المجتمع، كما هو الذي يقدم المبررات والأعذار لتصرفاتها وسلوكياتها المتشددة والعنيفة. ومن المحطات التلفزيونية اليمينية المحافظة المعروفة هي قناة "فوكس نيوز"( Fox News)، وشبكة وان أمريكا نيوز(One America News Network)، ومحطة نيوزماكس(Newsmax). أما عن فوكس نيوز المعروفة، ففي برنامج تَكر كارلسون ( Tucker Carlson Tonight) والذي يقدمه يميني متشدد، فقد تكلم دفاعاً عن نظرية الاستبدال في أكثر 400 حلقة في الفترة من 2017 إلى 2021، حسب تحليل المحتوى الذي قامت به صحيفة النيويورك تايمس والمنشور في 30 أبريل 2022. وهذه الوسائل الإعلامية، إضافة إلى وسائل التواصل الاجتماعي لها تأثير عميق على الشعب الأمريكي، حيث نُشر تحقيق في مجلة النيوزويك في 17 مايو 2022 تحت عنوان: "مجموعات مجهولة تدير البلاد"، وجاء فيه بأن 48% من الأمريكيين يعتقدون بأن هناك جهات مجهولة تدير البلاد، حسب استطلاع للرأي أجرته "أسوشيتدس برس" (Associated Press-NORC Center for Public Affairs Research) في الفترة من الأول من ديسمبر إلى 23 ديسمبر 2021، كما أن 32% من الشعب الأمريكي يؤيدون نظرية الاستبدال والإحلال.

 

والغطاء الثالث الذي تحظى به جماعات نظرية الاستبدال للبيض فهو الجانب الأمني المتمثل في اختراق أفراد اليمين المتطرف في أجهزة الأمن، سواء في الشرطة، أو الجيش. فهناك العديد من التقارير والدراسات المنشورة حول هذا الاختراق الأمني، منها التقرير الخاص الصادر من مشروع بحثي قامت به إدارة "مراقبة تهديد الإرهاب الداخلي" أو "دِي تِي تي إِم"( Domestic Terrorism Threat Monitor) التابعة لـ "معهد الشرق الأوسط للأبحاث الإعلامية" أو "إم إي إم آر آي"(The Middle East Media Research Institute) في الولايات المتحدة الأمريكية، وهي منظمة مستقلة غير ربحية، وغير حزبية في العاصمة الأمريكية. وهذه الدراسة المتخصصة المنشورة في 12 نوفمبر 2021 جاءت تحت عنوان: "التطرف في الجيش الأمريكي: دراسة لأنشطة النازيين الجدد وتفوق العرق الأبيض في الجيش عبر الإنترنت"، حيث أشار التقرير إلى هذا التهديد الداخلي المستور الذي كشفه حول تجذر العناصر المتطرفة والعنصرية في الجيش الأمريكي منذ سنوات، والذي برز إلى السطح مؤخراً، وبالتحديد أثناء حكم ترمب، حيث تنبه الرئيس الحالي بايدن إلى خطورة هذه الظاهرة وأمر بمراقبتها، ومكافحتها، واستئصالها من الجيش الأمريكي في كل فروعه.

 

فمن الواضح بأن نمو شوكة هذه الجماعات والحركات النصرانية اليمينية المتطرفة من جماعات تفوق العرق الأبيض ونظرية استبدال البيض والنازيون الجدد في العقد الأخير، سواء في الولايات المتحدة، أو في دول أوروبية مثل ألمانيا، وفرنسا، والنمسا، كان لعدة أسباب منها وجود الغطاء الرسمي السياسي، والتشريعي، والإعلامي، والأمني.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق