الخميس، 26 مايو 2022

اكتشاف سر مرض حرب الخليج الغامض الذي أصاب الجنود الأمريكيين


منذ أكثر من ثلاثين عاماً عِجَافْ، وفوراً بُعيد انتهاء حرب الخليج، أو عملية درع الصحراء في الفترة من 17 يناير إلى 23 فبراير 1991، انكشفت معاناة طويلة ومستمرة من ثلاث فئات أو ثلاث شرائح في مجتمع الولايات المتحدة الأمريكية. أما الفئة الأولى فهي الجنود الأمريكيين الذين شاركوا في حرب الخليج والذين بلغ عددهم الإجمالي قرابة 700 ألف، ومنهم قرابة ربع مليون جندي يقاسون نفسياً وعضوياً منذ أن وضعت الحرب أوزارها من أعراضٍ مرضية غامضة وغريبة لم يشهدها التاريخ الطبي من قبل.

 

فقد أَطلقَ المختصون على هذه الظاهرة الصحية المرضية الجديدة عدة أسماء منها: "مرض مُزمن متعدد الأعراض"(chronic multisymptom illness)، أو "مرض غير مُشخص"(undiagnosed illnesses.)، ولكن إسم الشهرة لهذه الحالة الصحية المجهولة والمعروف لدى الجميع هو: "مرض حرب الخليج"( Gulf War Illness (GWI))، أو "ظاهرة حرب الخليج"( Gulf War Syndrome).

 

والفئة الثانية فهم من الأطباء والعلماء الذين يعانون أيضاً، ولكن بسبب قلة حيلتهم، وضعف إمكاناتهم وقدراتهم وخبراتهم الميدانية حول هذا المرض من أجل تقديم المساعدة الطبية لهؤلاء الأمريكيين المتضررين والمرضى، وفشلهم منذ ثلاثة عقود على تشخيص هذه الأعراض الغريبة والفريدة من نوعها، ومعرفة أسبابها، وطرق علاجها، فهؤلاء العلماء أصابهم نوع من القنوط والإحباط من فك لغز هذه المعضلة الصحية التي يقفون أمامها مكتوفي الأيدي لا حول لهم ولا قوة.

 

وأما الفئة الثالثة فهم فئة رجال السياسة والحكم والتشريع الذين ينتظرون بفارغ الصبر الإجابات عن أسئلة الجنود الأمريكيين حول حالتهم الصحية، فالضغوط عادة على هذه الفئة تكون كبيرة جداً، كما تكون في بعض الأحيان مصيرية على مستقبلهم المهني من الجنود المصابين الذين بلغ عددهم قرابة 250 ألف جندي مريض يعاني ليلاً ونهاراً من آلام المرض، وبأمس الحاجة إلى من يُقدم له يد العون والمساعدة لعلاج آلامه ومصيبته، والتخفيف من معاناته اليومية.

 

وقد ظهرت خلال الثلاثين سنة الماضية عدة نظريات لتفسير هذه الحالة الصحية الغريبة ومجموعة الأعراض المرضية شبه المشتركة التي انكشف على قرابة ربع مليون جندي أمريكي، ومنها التعب والإرهاق الشديدين، ضعف في الذاكرة والتركيز، مشكلات في الجهاز الهضمي، وعدم القدرة على التوازن، وارتفاع حرارة الجسم، وآلام في الجسد. وهذه الأعراض التي بلغت في مجموعها نحو 52، لم تكن آنية ومؤقتة عانى منها الجنود لأيام، أو أشهر قليلة، وإنما لازمتهم طوال السنوات التي عاشوها بعد أن رجعوا إلى قواعدهم في أمريكا، فأصبحت مستدامة، وتحولت إلى مرض مزمن معترف به من السلطات الصحية الأمريكية.

 

فمن التفسيرات التي ظهرت في السنوات الأولى من هذه المأساة الصحية، أن الجنود قد تعرضوا لضغوط نفسية مرهقة نتيجة للحرب الشرسة التي خاضوها، ومثل هذه الحالات النفسية معروفة ومألوفة طبياً، ولكنها في أغلب الأحيان تكون مؤقتة وغير دائمة ويتغلب عليها الجندي، فلا تستمر أعراضها فترة طويلة من الزمن. ثم ظهرت نظرية التعرض للملوثات والمواد الكيميائية التي لوثت الهواء الجوي أثناء قصف مخازن الأسلحة الكيميائية في العراق واستخدام ذخائر اليورانيوم المستنفد، أو الناضب(depleted uranium)، أو نتيجة لإعطاء الجنود حبوب خاصة مثل بروميد البيردوستجمين(pyridostigmine bromide pills) لتَقِيهم من غازات الأعصاب وبالتحديد غاز السَارِيْن(sarin gas)، أو حقنهم للقاحات ضد الأنثركس أو الجمرة الخبيثة(anthrax vaccine). كذلك تم رش الجنود الأمريكيين وملابسهم بالمبيدات الحشرية وطاردات الحشرات لوقايتهم من الحشرات وتعقيم خيامهم وأدواتهم ومعداتهم التي يستخدمونها، وهذه المبيدات كانت عبارة عن مركبات عضوية فوسفورية(organophosphate).

 

فمن النظريات المنشورة التي حاولت إيجاد تفسيرٍ لعذاب هؤلاء الجنود، ونُشرت في مجلة علم وبائيات الأعصاب(journal Neuroepidemiology) في 14 ديسمبر 2012، تحت عنوان: "دليل وبائي على التأثيرات الصحية الناجمة عن انتقال الملوثات من القنابل الكيميائية عبر الحدود الجغرافية بسبب التفجيرات في حرب الخليج"، ودراسة أخرى في المجلة نفسها عنوانها:"التأثيرات الوبائية للملوثات الكيميائية" والمنشورة في يناير 2013، فهاتان الدراستان أشارتا إلى أن هذه الملوثات والسموم مجتمعة التي تعرض لها الجنود هي السبب في ظهور هذه الحالة الصحية الجديدة والفريدة من نوعها على المستوى الدولي.

 

ولكن كل هذه النظريات لم تعط الجواب الشافي والمقنع حول أسباب نزول هذا المرض المجهول الهوية على بعض الجنود الذين شاركوا في الحرب دون غيرهم من الجنود الآخرين الذين شاركوا أيضاً في الحرب، وعانوا من الظروف نفسها. فالدراسة الحالية التي نُشرت في 11 مايو 2022 في مجلة "شؤون صحة البيئة"(Environmetal Health Perspective) تحت عنوان: "تقييم التفاعل بين الجينات والعوامل البيئية عند التعرض لغازات الأعصاب لمرض حرب الخليج"، قد قامت بمنهجية جديدة اعتمدت على التحليل الشامل للجينات، وبالتحديد نوعاً واحداً من الجينات، وهو الجين المعروف باسم: "باراأوكسينيز"، أو "بي أو إِن 1"( PON1)( paraoxonase-1)، وهو أنزيم موجود في أجسامنا، ويساهم بدور مهم في تكسير وتحلل المواد الكيميائية السامة وتخليص الجسم منها. فالتحليل الجيني لوجود هذا الجين وأنواعه المتعددة في جسم الجنود، كان هو المفتاح الذي نجح في إزالة الغمامة عن لغز المرض وفك أسراره الدفينة، وتقديم إجابة أولية عن هذه الحالة الغامضة، كما فتح الباب على مصراعيه أمام معرفة أسباب التغير في إصابة بعض الجنود بالمرض دون الآخرين، إضافة إلى تحديد نوعية العلاج لاستئصال المرض من جذوره.

 

فهذه الدراسة شملت 508 من الجنود المصابين بالمرض، إضافة إلى 508 جنود من الذين لم تظهر عليهم أية أعراض لهذا المرض. فقد توصلت الدراسة إلى نتيجة عامة هي أن بعض الجنود يحملون جينات متخصصة من نوع (PON1Q وهي تُنتج إنزيماً له فاعلية قوية وانتقائية على تحلل غاز السارين في الجسم بعد تعرضهم له، ولذلك احتمال إصابتهم للمرض كانت منخفضة، في حين أن هناك جنوداً يحملون النوع الثاني من هذا الجين(PON1R) والذي يُنتج الأنزيم الذي يحلل السموم الأخرى، ولكن فاعليته ضعيفة في التخلص من السارين، مما يعني بأن الجنود الذين لا يحملون في أجسامهم النوع من الجين المتخصص في التخلص من السارين، ارتفعت عندهم احتمال إصابتهم بالمرض، مما يؤكد بأن تعرض الجنود لغاز السارين كان السبب وراء انكشاف هذا المرض الغامض منذ 30 عاماً، وأن العامل الجيني الوراثي الذي يلعب دوراً محورياً رئيساً في تخليص الجسم من السارين هو السبب في الإصابة، أو عدم الإصابة بالمرض.   

 

فهذه الدراسة تتوافق مع الدراسات والأبحاث الأخرى حول دور الجينات الوراثية في جسم الإنسان في زيادة احتمال الإصابة بمختلف أنواع الأمراض، كالسرطان، والسكري، وأمراض القلب، فجميعها يلعب فيها العامل الوراثي ونوعية الجينات التي ورثها من آبائه وأجداده دوراً في السقوط في شباك الأمراض.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق