الأربعاء، 1 يونيو 2022

النفط لن يَرْحل قريباً؟

كلما نزلتْ أزمة طارئة على الإنسان على المستويين الإقليمي أو الدولي، أَوجدَ لنفسه عُذراً لكي يرجع إلى الوراء ويستخدم الفحم، أو النفط، أو الغاز الطبيعي في تشغيل محطات توليد الكهرباء أو المصانع، وكلما وقعت أية تغييرات في أسعار الوقود وفي مصادر الطاقة المتجددة، قدَّم لنفسه المبرر القوي ليعود إلى ما تعوَّد عليه من قرون في حرق الفحم أو البترول، وكأن الإنسان أصبح مخدراً ومدمناً على كافة أنواع الوقود الأحفوري، فلا يستطيع الاستغناء عنها بسهولة، أو التخلص منها كلياً.

 

وهذه الظاهرة تحولت منذ عقود إلى واقع مشهود يلمسه الجميع من المتخصصين في مجال أمن الطاقة والتغير المناخي، والذين يُحذرون دائماً من ضرورة التنبه إليها ومواجهتها على كافة المستويات القومية، والإقليمية، والدولية، والعمل بشكلٍ جماعي على منع الحكومات وشركات النفط والفحم العملاقة خاصة، على استغلال أية ظروف وأزمات مستجدة للرجوع إلى الفحم، كما هو الحال عند وقوع كَرْب كورونا العظيم على البشرية منذ سنتين، والآن الحرب الروسية الأوكرانية التي جعلت الدول تُواصل إدمانها على الوقود الأحفوري بعذر نقص إمدادات مصادر الطاقة بشكلٍ عام.

 

ومن هؤلاء الذين حذروا من هذه الظاهرة، وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، جون كيري الذي يشغل منذ يناير 2021 منصب المبعوث الرئاسي الأمريكي الخاص للمناخ، حيث نبه بكل وضوح في 12 مايو 2022 من رجوع دول العالم مرة ثانية إلى حرق الفحم تحت حجة الحرب الروسية الأوكرانية، وتحت حجة مقاطعة أوروبا وأمريكا للغاز والنفط الروسي، وحدوث أزمة خانقة للوقود في هذه الدول المقاطعة، إضافة إلى ارتفاع أسعارها. كذلك قال الأمين العام للأم المتحدة "أنتونيو غوتيريش" في 11 مايو 2022 بأن التغير المناخي بسبب حرق الوقود الأحفوري المتزايد يمثل: "تهديداً وجودياً لنا جميعاً، للعالم أجمع"، ولذلك: "على الدول المتصدرة لقائمة ملوثي البيئة خفض انبعاثاتها، بدءاً من الآن"، كما أضاف قائلاً: "وهذا يعني تعجيل إنهاء الإدمان على الوقود الأحفوري وتسريع تبني الطاقة المتجددة النظيفة".

 

وعلاوة على ذلك، فقد حذَّر فثيه بايرل(Fatih Birol)الرئيس التنفيذ للوكالة الدولية للطاقة مِنْ ما أَطلقَ عليه "قنابل الكربون"، حيث أفاد بأن شركات الوقود الأحفوري العملاقة حول العالم تخطط للبدء في قرابة مائتي مشروع متعلق باستخراج النفط والغاز الطبيعي والفحم، مما يشكل كارثة مناخية جديدة ستضرب العالم كالقنبلة المناخية التي ستفاقم الوضع المناخي الكارثي الحالي، وتزيد في الوقت نفسه من إدمان العالم على النفط لسنوات طويلة قادمة. كما أكد الرئيس التنفيذي للوكالة الدولية للطاقة بأن هذه المشاريع التي تنوي شركات الوقود الأحفوري القيام بها ليست الحل المستدام لأزمة الشح في مصادر وموارد الطاقة نتيجة للحرب الدائرة الآن، حسب ما جاء في التحقيق المفصل المنشور في صحيفة "الجارديان" في 12 مايو 2022 تحت عنوان: "أزمة التغير المناخ حتمية إذا تم اعتماد مشاريع النفط والغاز العملاقة".

 

فاستغلال شركات الوقود الأحفوري الجشعة والانتهازية لحالة الحرب الحالية قد درَّت عليهم أرباحاً خيالية موثقة، حسب تحقيق "الجارديان" في 13 مايو 2022 تحت عنوان: "شركات النفط والغاز الكبرى حققت أرباحاً قرابة مائة بليون دولار في الربع الأول من 2022". فقد أفاد تقرير الجارديان بأن هناك 28 من شركات النفط والغاز العالمية التي كانت إجمالي أرباحها مجتمعة 183.9 بليون دولار في عام 2021. فخلال الثلاثة أشهر الماضية، من يناير إلى مارس 2022، جَنَتْ على سبيل المثال شركة شيل(Shell) 9.1 بليون دولار، وإكسون(Exxon) 8.8 بليون، وشيفرون(Chevron) حققت 6.5، وشركة بي بي(BP)كونت خلال هذه الثلاثة أشهر القليلة 6.2 بليون دولار.

 

ولذلك فإن هذه الأرباح الخيالية التي حققتها شركات الوقود الأحفوري في أشهر قليلة جداً تجعلها أشد تمسكاً في حرق هذا الوقود والاعتماد على هذا المصدر الثري والغني للطاقة، كما أن هذه الأرباح الطائلة التي تُسيل لعاب المسؤولين عن هذه الشركات تجعلهم أكثر مقاومة لأية جهود وقرارات على كافة المستويات للتخلص من كافة أنواع الوقود الأحفوري، كما تحفزهم في الوقت نفسه على ممارسة الضغوط السياسية بشكلٍ مستمر دون تعب، أو كلل، ودون أن يصيبهم الفتور والملل، سواء على الحكومات أو السلطة التشريعية والرقابية في الدول، أو على كل من بيده اتخاذ أي قرار ليس لصالح حرق واستخدام الوقود الأحفوري أينما كان.  

 

وهذه الضغوط التي تمارسها الشركات النفطية وشركات الغاز الطبيعي والفحم على كل من يهمه الأمر من حكومات ومنظمات وبرلمانات كانت ومازالت مجدية وناجحة حتى الآن على كافة المستويات في تحقيق مآربها وأهدافها، وبخاصة على مستوى اجتماعات الأمم المتحدة السنوية المتعلقة بالتغير المناخي، والتي تحاول منذ عقود طويلة إقناع دول العالم إلى التخلي عن كافة أنواع الوقود الأحفوري لدورها الرئيس في حدوث كارثة التغير المناخي وتداعياتها الكثيرة، مثل سخونة الأرض وارتفاع حرارتها، وارتفاع مستوى سطح البحر، والزيادة في أعداد حرائق الغابات، وارتفاع حموضة مياه البحر.

 

فنتيجة لضغوط الشركات النفطية، ولأسباب أخرى كثيرة، فشلت الأمم المتحدة منذ أن دشنت النواة الأولى لاجتماعات التغير المناخي في قمة الأرض بمدينة ريو دي جانيرو البرازيلية في عام 1992، والمتمثلة في توقيع معظم دول العالم على الاتفاقية الإطارية للتغير المناخي، في تحقيق الهدف الأسمى لهذه الاجتماعات، وهو الوصول إلى اتفاقية مشتركة وملزمة لجميع دول العالم، إضافة إلى الفشل في وضع آلية دولية لتنفيذها ومحاسبة ومعاقبة غير الملتزمين بها. كما فشلت هذه الاجتماعات في الإجماع على صيغة جماعية مشتركة، أو عبارة خاصة تفيد فيها بتعهد دول العالم إلى التخلص النهائي والكلي من الفحم وأنواع الوقود الأحفوري الأخرى. فآخر محاولة في هذا الصدد كانت في اجتماع الدول الأطراف في اتفاقية التغير المناخي رقم (26)، والذي عقد في مدينة جلاسجو البريطانية في نوفمبر 2021، حيث إن الدول المجتمعة وبعد ساعات ماراثونية ولمدة أسبوعين، وفي الرمق الأخير من الاجتماع وبعد دقائق من استدال الستار عليه، توصل المجتمعون إلى عبارة مخففة، وصياغة مائعة حول الفحم، حيث تم وبإلحاح وإصرار من الهند والصين على تغيير العبارة الواردة في البيان الختامي من "التخلص من الفحم"، إلى عبارة "التخلص التدريجي من الفحم"، وهذا يعني أن الفحم، والنفط، والغاز الطبيعي سيكونون معنا عقوداً طويلة من الزمن لا يعلمها إلا الله.

 

ولذلك أُطمئن الدول النفطية ودول الفحم والغاز الطبيعي بأن الواقع يؤكد بأن الوقود الأحفوري لن يرحل عنا سريعاً، كما يتمناه البعض، وسيبقى معنا يُشغل سياراتنا، وطائراتنا، ومحطاتنا لتوليد الكهرباء، ومصانعنا حتى آخر قطرة من النفط محبوسة في باطن الأرض.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق