السبت، 4 يونيو 2022

بين غبار الهواء وغبار البحر

شاهد الجميع منظر السُحب الترابية الرهيبة، والغبار الكئيب البرتقالي الرصاصي اللون الذي نزل على دول الخليج في الفترة من 22 إلى 24 مايو فأفسد صحة البشر والشجر والحجر، فهذا المنظر المتحرك العصيب للرياح الصرصر العاتية المحملة بالأتربة الناعمة والغبار المتصاعد، كان كالجبل العالي الضارب في السماء وهو يتحرك رويداً رويداً، ويدنو وبخطى ثابتة وقوية من المدن والمجمعات السكنية، فيجثم على صدرها مسبباً لها الاختناق والألم الشديدين، ويخيم على قلبها ونفسها مسبباً لها القلق والغم العميقين. فكم من الناس هرعوا إلى المستشفيات وهم يعانون من ضيق ومشكلات حادة في التنفس؟ وكم منهم لقوا حتفهم نتيجة للغبار الذي اخترق أجسامهم فشَّل حركتهم وأوقف أعضاءهم عن أداء وظيفتها؟ وكم من مطارات توقفت عن العمل؟ وكم من مرافق سياحية أغلقت أبوابها؟

فهذه الظاهرة التي شاهدناها عندنا في الخليج هي مشكلة بيئية سنوية وموسمية، ليست في الخليج فحسب، وإنما نراها في كل دول العالم منذ سنواتٍ طويلة، ولكنها في السنوات الماضية ضربت الكثير من الدول بقوة أكبر وأشد عنفاً وتنكيلاً بالبشر، مثل العواصف الترابية التي تخرج في أشهر الصيف من منطقة غرب أفريقيا، وبالتحديد تنبع من منخفض تشاد بودلي العظيم(Chad’s Bodèle depression)، فتعبر المحيط الأطلسي، وتغزو جزر الكاريبي وكوبا وبورتوريكا، حتى في نهاية الرحلة تحط رحالها في ولايات جنوب شرق الولايات المتحدة الأمريكية، مثل فلوريدا، وتكساس وأوكلاهوما وكنساس. فعلى سبيل المثال، نزلت هذه الأعاصير الترابية في 27 يونيو 2020 في هذه المناطق التي تمر بها كل عام، ولكنها في ذلك اليوم كانت غير طبيعية في شدتها وقوتها وقدرتها التدميرية، حتى أن بعض وسائل الإعلام الأمريكية وصفتها بالوحش الشرس المفترس، وأَطلقتْ عليها اسم حيوان جودزيلا(Godzillaوهو وحش أسطوري، يتميز بحجمه الكبير، وقدرته على تدمير الحرث والنسل.

فظاهرة الغبار حول العالم والعواصف الترابية هي طبيعية ومألوفة لدى سكان العالم، ولها منافع كثيرة تنعكس على بيئتنا وبالتالي على حياتنا، ولكن أيدي الإنسان وأنشطته التنموية العشوائية أحادية الجانب ضاعفت من تكرار وقوعها وزادت من قوتها وشدتها علينا. فهناك العديد من الممارسات الخاطئة التي قُمنا بها في العقود الماضية والتي أدت إلى تفاقم هذه الظاهرة، منها ظاهرة التغير المناخي وارتفاع درجة حرارة الأرض. فالإنسان أطلق العنان للكثير من الملوثات وسمح لها بالانبعاث إلى الهواء الجوي منذ أكثر من قرن من مصادر كثيرة لا تعد ولا تحصى في كل أنحاء العالم، وبخاصة ثاني أكسيد الكربون وغاز الميثان. فكل سيارة تتحرك على الأرض، أو طائرة تطير في أعالي السماء، أو محطة لتوليد الكهرباء، أو مصنع يحرق الوقود الأحفوري، فكل هذه الملايين من المصادر تُطلق الملوثات التي تهدد الكرة الأرضية برفع درجة حرارتها وخفض معدل هطول الأمطار فيها وارتفاع مستوى جفاف التربة. وكل هذه المردودات تؤدي إلى زيادة رقعة المناطق الجافة الخالية من المياه فترفع من وتيرة وسهولة تفكك التربة ويُسر حركتها وانتقالها من خلال الرياح من منطقة إلى أخرى تبعد آلاف الكيلومترات عنها، فتسبب لها الأعاصير الترابية والريح المحملة بالغبار. وفي المقابل أيضاً هناك الحروب المؤسفة والعمليات العسكرية في منطقة الخليج وسوريا والعراق ودول أخرى، فتَحَرُك الآليات والمعدات العسكرية الثقيلة والشاحنات الكبيرة في المناطق الصحراوية قضت كلياً على الغطاء النباتي الفطري من الأعشاب والشجيرات البرية التي تثبت التربة وتمنعها من الحركة، كما أنها رفعت من درجة انكسار طبقة التربة الصحراوية السطحية وزادت من عدم استقرارها، وبالتالي سهولة حركتها ونقلها للغبار بين الدول. كذلك فإن عمليات دفن البحر لمساحات واسعة تكون بيئة رملية مناسبة تحملها الرياح إلى المناطق الأخرى، فتفاقم من مشكلة العواصف الترابية.

وهذه الظاهرة التي تحصل فوق الأرض من رياح ترابية محملة بالرمال الدقيقة والغبار في طبقات الجو السفلى، أُشبهها بما يحدث في البحر أثناء عمليتي حفر البحر من جهة والدفان في المناطق الساحلية من جهةٍ أخرى، ولكن هنا دون أن يرى أحد ويشاهد أمام عينيه تداعياتها المدمرة، أو أن يحس أحد بآثارها المهلكة لبيئات البحر المختلفة وكائناتها الحية من نباتية وحيوانية، ودون أن يسمع أحد معاناة وصرخات هذه الكائنات التي تقضي نحبها تحت وطأة هذه العمليات.

فعمليات الحفر لاستخراج الرمل من أعماق البحر تُستخدم فيها مختلف أنواع الآليات الضخمة التي تدمر كل شيء حولها دون أي اعتبار للبيئة التي يتم فيها الحفر، ودون أي اعتبار للكائنات التي تعيش في تلك المنطقة، فالتدمير شامل للجميع، وليس في موقع الحفر فحسب، وإنما في المواقع الأخرى القريبة، حيث إن استخراج الرمل يصاحبها دخول الرمال الناعمة والصغيرة الحجم إلى عمود الماء، فتسبح فيه من الأسفل في قاع البحر إلى سطح الماء، وانتقالها كالغبار في الجو إلى مسافات طويلة جداً في البحر، مسببة تدهوراً شديداً في جودة ونوعية المياه، ومؤدية إلى زيادة مستوى العكارة وانعدام الرؤية، إضافة إلى انخفاض تركيز الأكسجين الذائب في الماء، والذي لا حياة بحرية بدونه.

ومع تحرك هذا الغبار البحري تقع ضحايا كثيرة من الأحياء التي تصطدم بها ويدخل الغبار في أجسامها، أو يخنقها ويؤدي في النهاية إلى القضاء عليها. كما أن كميات من هذا الغبار والرمل الناعم عندما يثقل وزنها يترسب مع مرور الوقت ومع المسافات التي يقطعها في مواقع جديدة، فيحولها إلى بيئات من الطمي الغزير المتحرك، فتصبح مقبرة بحرية لا روح لها، ولا آثار للحياة فيها. 

ومن جانب آخر غير محسوسٍ أيضاً، أو مرئي لأحد هو الضوضاء والأصوات العالية التي تصدر من هذه الآليات والأجهزة العملاقة التي تعمل لمدة أشهر طويلة ليلاً ونهاراً، فتُعكر صفاء وهدوء وسكينة الأجواء البحرية في قاع البحر، وتحدث اضطراباً وخللاً صوتياً وإزعاجاً في تلك المنطقة، مما يؤثر على الكائنات البحرية، وبخاصة الثدييات التي تمارس وتعيش حياتها اليومية من خلال الأصوات والموجات التي تُصدرها مع بعض لأسباب كثيرة، منها للتخاطب والتواصل، ومنها من أجل التزاوج والتكاثر، ومنها أصوات تحذيرية لدرء خطر قادم، أو وجود حيوان آخر مفترس. ولذلك فضوضاء سفن الحفر المرتفعة تعيق وتتعارض مع أصوات هذه الحيوانات البحرية التي لا تستديم حياتها بدونها، وقد تؤدي بها مع استمرار هذه الأصوات العالية إلى أن تكون على فوهة الانقراض مع الوقت.

وعلاوة على عمليات الحفر والأتربة الناجمة عنها، هناك عمليات الدفان المصاحبة عادة لاستخراج الرمل، وهذه العمليات أيضاً، مهما اتخذنا من احتياطات أو إجراءات احترازية، فإنها بطبيعتها تُسبب دماراً شاملاً وبدون رجعة للبيئة التي يتم دفنها، فتموت البيئة، ويموت كل كائن حي كان يعيش في تلك المنطقة إلى الأبد.

فغبار الجو والرياح الترابية التي تنزل علينا بين الحين والآخر نراها أمامنا وبأعيننا، ونشاهد تداعياتها وسلبياتها العميقة على أمننا الصحي، وعلى أمننا الاقتصادي والسياحي، ولكن بالنسبة لغبار البحر والأتربة الناجمة من عمليات الحفر واستخراج الرمل ودفن السواحل، فإنها تكون مخفية ولا يراها أحد، ولا يسمع بانعكاساتها على البيئة وكل من يعيش فيها، فمعاناة كل هذه الكائنات تكون في صمتٍ مدقع، وفي جنح الظلام، وتذهب عادة مع الريح وفي طي النسيان.   

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق