الأربعاء، 8 يونيو 2022

ظاهرة الانتحار بين الجنود الأمريكيين

تنشر وزارة الدفاع الأمريكية كل ثلاثة أشهر تقريراً عن حالة الانتحار بين الجنود الأمريكيين، وهذا التقرير الحكومي الرسمي يصدر من مكتب متخصص في البنتاجون تأسس عام 2011 للتعامل مع كافة القضايا المتعلقة بالانتحار في صفوف الجيش بكل فروعه وأقسامه، ويُعرف بمكتب "الدفاع لمنع الانتحار"( Defense Suicide Prevention Office).

 

 فمن مهمات المكتب منع الانتحار في مجتمع الجيش الأمريكي من خلال وضع السياسات العامة والإشراف عليها، والتجاوب مع الأفراد للتأثير ايجابياً على معتقداتهم وسلوكهم وتغيير ثقافتهم بشكل ممنهج لمنعهم من الانتحار، كما إن رؤية المكتب هي العمل على تحقيق مجتمع عسكري خال من الانتحار. ويقوم المكتب بهذه المهمات من خلال متابعة أعداد وحالات الانتحار، ونشر تقرير حولها أربع مرات سنوياً منذ أكتوبر 2018 تحت عنوان:"تقرير الانتحار ربع السنوي"( Quarterly Suicide Report)، أي أن التقرير يصدر في نهاية أشهر مارس، ويونيو، وسبتمبر، وديسمبر.

 

فوجود مثل هذا المكتب المتخصص يؤكد على وجود ظاهرة مجتمعية محددة، وأن هناك فعلاً مشكلة عامة تواجه الشعب الأمريكي، وبخاصة المجتمع العسكري من الجيش، وسلاح الجو والبحر، وقوة الفضاء، والحرس الوطني، وخفر السواحل، كما أن مثل هذا المكتب يفيد بأن القضية قد ضربت أطنابها بشدة في الجيش، وتجذرت آثارها وتداعياتها بقوة بين صفوف الجنود العاملين حالياً، علاوة على قدامى الجنود الذين تركوا الخدمة لعدة أسباب منها التقاعد، أو الإعاقة الجسدية والعقلية.

 

فقضية الانتحار قديمة ومستفحلة منذ عقودٍ طويلة في الجيش الأمريكي مقارنة بالمدنيين، حيث فَتَح أول مركز لمعالجة الانتحار أبوابه في 1958 في مدينة لوس أنجلوس، ثم في 1966 تم إنشاء "مركز دراسات منع الانتحار" في "المعهد القومي للصحة العقلية". ومع الوقت تحولت إلى قضية اتحادية ومركزية في التسعينيات من القرن المنصرم مع اعتراف مجلس الشيوخ الأمريكي بواقعيتها وتعمقها في الجيش، ولذلك اتخذ قراراً في الاجتماع رقم 105 في الخامس من يونيو 1997 وأعلن بأن "الانتحار مشكلة قومية، وأن منع الانتحار أولوية قومية"، كما يشجع الكونجرس قيام الجهات المعنية بعدة مبادرات متعددة المداخل والتخصصات لمنعها من الجيش. وعلاوة على ذلك فقد تم إنشاء أول برنامج قومي في 2001 تحت مسمى "الخط الساخن القومي لمنع الانتحار"(National Suicide Prevention Lifeline)، ثم وُضعت "الاستراتيجية القومية لمنع الانتحار" في عام 2001، وتم تعديلها في سبتمبر 2012.

 

وهذه الجهود الاتحادية لمكافحة مشكلة الانتحار المتفاقمة والمتزايدة مازالت مستمرة، حيث قال وزير الدفاع الأمريكي "لويد أوستن" في 23 مارس 2022 بأن معدلات الانتحار في صفوف الجيش الأمريكي "لا تزال مرتفعة للغاية"، كما أضاف في تغريدة له عبر حسابه على "التويتر" قائلاً: "ومن الواضح أن أمامنا المزيد من العمل الذي يتعين علينا القيام به، لذلك أنشئت اليوم لجنة المراجعة المستقلة لمنع الانتحار والاستجابة له لإجراء مراجعة شاملة"( Suicide Prevention and Response Independent Review)، علماً بأن هذه اللجنة الجديدة تقع ضمن برنامج الجيش لمنع الانتحار(Army Suicide Prevention Program) والذي بدأ العمل مع مطلع عام 2022.

 

فمن الواضح أن للانتحار تاريخاً طويلاً مُتجذراً في الجيش الأمريكي، حيث أُجريت دراسة مقارنة وتحليلية وشاملة تؤكد هذه الحقيقة، وغطت هذه الدراسة نحو 200 عام من تاريخ الجيش وشملت ثلاثة قرون زمنية، بدءاً بالقرن التاسع عشر، ونُشرت هذه الدراسة في 13 ديسمبر 2019 في مجلة "جمعية الأطباء الأمريكيين" تحت عنوان: "دراسة تاريخية لسجلات الانتحار في الجيش الأمريكي في الفترة من 1819 إلى 2017". وقد توصلت الدراسة إلى عدة نتائج عامة، من أهمها بأن نسبة الانتحار انخفضت بشكلٍ عام في سنوات الحروب القديمة، ولكن هذا النمط تغير خلال حرب فيتنام، والحروب على الإرهاب التي بدأت في عصر جورج بوش الابن، وبالتحديد غزو العراق وأفغانستان، حيث تفاقمت القضية وزادت أعداد المنتحرين بدرجة كبيرة جداً منذ عام 2004. ولكي أوضح هذا النمط التاريخي لأعداد المنتحرين أُقدم لكم بعض الأرقام. فمنذ عام 1843 زادت نسبة المنتحرين سنوياً، وبلغت أقصى معدل في عام 1883، وهو 118.3 لكل مائة ألف. ومنذ عام 1883 انخفضت النسب في ثلاث مراحل زمنية متتالية ومتزامنة مع انتهاء الحروب، مثل الحرب الإسبانية في 1898، والحرب العالمية الأولى من 1914 إلى 1918، والثانية من 1939 إلى 1945. ففي الفترة من 1944 إلى 1945 كانت النسبة 5 جنود لكل مائة ألف، وأثناء الحرب الباردة من 1945 إلى 1991 كانت النسبة من 10 إلى 15 لكل مائة ألف جندي، ثم ارتفعت بنسبٍ عالية غير مسبوقة في تاريخ الجيش الأمريكي، ودخلت مرحلة جديدة بعد 11 سبتمبر 2001 وأثناء حربي أفغانستان والعراق إلى 29.7 في عام 2012. ومن 2008 حتى 2017 تراوحت نسبة المنتحرين بين 20.2 إلى 29.7 جندي عامل لكل مائة ألف، حسب الدراسة المنشورة في مجلة "جمعية الأطباء الأمريكيين: الطب النفسي" في سبتمبر 2015 تحت عنوان: "محاولات الانتحار في الجيش الأمريكي خلال الحروب في أفغانستان والعراق، 2004 إلى 2009".

 

 

 

واليوم حسب تقارير وزارة شؤون المحاربين القدماء(Department of Veterans Affairs) والتقارير الربع سنوية لمكتب منع الانتحار التابع لوزارة الدفاع، فإن النسبة في عام 2018 بلغت الذروة وهي 45.9 حالة انتحار لكل مائة ألف. كما أفادت هذه التقارير بأن الجنود الذين يلقون حتفهم بسبب الانتحار يزيد عن الذين يلقون حتفهم في ساحات القتال أثناء الحروب. فعلى سبيل المثال، أفادت هذه التقارير الحكومية الرسمية بأنه قرابة 30177 جندياً أمريكياً انتحروا بعد 11 سبتمبر مقارنة بـ 7057 من الذين قتلوا في المعارك بعد 11 سبتمبر.

 

وهذه الأرقام المرتفعة لحالات الانتحار في أوساط الجيش الأمريكي، وبخاصة بعد تدشين الحروب على الإرهاب، تُعزى إلى عدة أسباب منها شعور الجنود باليأس والإحباط والذنب من عدم عدالة هذه الحروب التي يخوضونها لفترات طويلة زادت بعضها على العشرين عاماً، كما هو الحال بالنسبة لغزو أفغانستان. كذلك الضغوط النفسية والجسدية والعقلية التي يعانون منها أثناء الحروب وبعد الخروج منها، وعدم قدرتهم على الاندماج بشكلٍ طبيعي وسلس مرة ثانية في الحياة المدنية والشعور بالعزلة في المجتمع. إضافة إلى الإعاقات والمعاناة الجسدية والنفسية المزمنة التي أصابت الآلاف منهم، وجعلتهم يتجهون نحو الخمر والمخدرات للتخفيف عن آلامهم ومعاناتهم العصيبة، ثم أخيراً الانتحار لسهولة الحصول على السلاح. كذلك فإن العامل الوراثي قد يلعب دوراً في قيام الفرد بالانتحار، حسب الدراسة المنشورة في مجلة "الطبيعة" في 17 يناير 2019 تحت عنوان: "علاقة الجينات بمحاولات الانتحار الشديدة وتفاقمها عند حالات الاكتئاب".

 

ومن هذه الدراسة السريعة أستطيع الوصول إلى الاستنتاجات التالية: الأول هو أن الانتحار ظاهرة متفشية ومتجذرة في القطاع العسكري مقارنة بالقطاع المدني الأمريكي، ومعدل الانتحار بين العسكريين أعلى بنحو ضعفين مقارنة بالمدنيين. والثاني فهو أن نسب الانتحار بين مدٍ وجزر، وبين انخفاض وارتفاع، ففي السنوات قبل إعلان أمريكا الحرب على الإرهاب كانت النسب منخفضة نسبياً مقارنة بالسنوات بعد الحرب على الإرهاب، وبخاصة بعد 11 سبتمبر 2001، ومازالت هذه النسب في ازدياد مطرد حتى الآن. وأما الاستنتاج الثالث فإن نسبة الانتحار بين النساء والشباب في السنوات الأولى من الخدمة العسكرية أعلى من الرجال.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق