الأربعاء، 15 يونيو 2022

دمج البيئة في القطاع الصحي

سياسة واستراتيجية وزارات الصحة في كل دول العالم تعتمد بشكلٍ رئيس على منع المرض كأولوية تقع في المرتبة الأولى من سلم وهرم الأولويات، وهذه السياسة تنبع من الحكمة القديمة القائلة "الوقاية خير من العلاج"، ثم في الدرجة الثانية من الأولويات تأتي سياسة التشخيص السليم للمرض وعلاجه بالوسائل والأدوات المناسبة.

 

وهذا يعني أن على وزارات الصحة البحث عن كل مسببات الأمراض داخل المجتمع، وتقصي ودراسة كل العوامل التي تؤدي إلى نزول الأمراض السائدة بين أفراد الشعب، ثم اتخاذ الإجراءات الكفيلة بمنع الأمراض والوقاية منها أولاً، وحماية الشعب من شرورها قبل أن تقع عليه، ثم إذا لم تتمكن من تحقيق هذه السياسة بشكلٍ كلي وجذري، فعليها ثانياً توفير التشخيص والعلاج الملائمين لهذه الأمراض، والتخفيف من حدتها وآلامها على الشعب، كذلك العمل على خفض أعداد المصابين بها مع الوقت، لكي تتخلص منها تدريجياً حتى تنتهي من المجتمع.

 

ومن العوامل المسببة للكثير من الأمراض، سواء المرض الجسدي، أو النفسي، أو العقلي، والتي بدأت تفرض نفسها كعامل واقعي ومؤثر في تعريض المجتمعات للأمراض الحادة والمزمنة على حدٍ سواء، هو العامل البيئي المتمثل في التلوث، وبخاصة تلوث الهواء، ثم الملوثات الكيميائية القديمة منها والجديدة، والملوثات الطبيعية والحيوية التي دخلت في كل مكونات بيئتنا الحية وغير الحية، وغزت بعمق كافة أعضاء أجسادنا، بحيث إن كل إنسان يعيش الآن على سطح كوكبنا، سواء أكان بعيداً في مناطق نائية، أو قريباً في المدن، أو يسكن في بروج مشيدة، فإنه حتماً ومهما فعل سيصيبه داء التلوث. كما إنه أينما يهرب وينعزل عن المجتمع فسيتعرض لمظاهر هذا التلوث، مثل ظاهرة الضباب الضوئي الكيميائي التي نراها في أفق المدن بين الحين والآخر، فتُعْلَّن حالة الطوارئ الصحية عند ظهورها، أو ظاهرة المد الأحمر والأخضر في المسطحات المائية التي لا تخفى على أحد، بسبب تحول البحيرات أو البحار إلى اللون الأحمر القاتم والسام، أو اللون الأخضر والبني مُنذرة بوجود سموم في الماء تؤثر على كل كائن حي يقترب منها، أو أخيراً وليس آخراً ظاهرة التغير المناخي والاحتباس الحراري وسخونة الأرض الناجمة عن تلوث الهواء من عدة ملوثات، وفي مقدمتها غاز ثاني أكسيد الكربون، والميثان، وأكسيد النيتروز، والتي حيَّرت المجتمع البشري برمته، حيث لم يصل حتى الآن، وبعد مرور أكثر من ثلاثين عاماً من الاجتماعات والمفاوضات الماراثونية إلى اتفاقية جماعية مشتركة وملزمة لجميع الدول.

 

وقد تنبهت منظمة الصحة العالمية، وهي المنظمة الأممية المعنية بصحة سكان الأرض إلى هذا الجانب البيئي الخطير، ودوره العصيب في تهديد وتدهور صحة البشر، وإصابتهم بالأمراض الفسيولوجية والنفسية والعقلية، والقضاء عليهم في سنٍ مبكرة، حيث أكدت المنظمة في وثائق كثيرة سابقة بأن التلوث ليس له جوانب بيئية بحتة فحسب، وإنما تنعكس تداعياته بشكلٍ مباشر، أو غير مباشر، وبعد فترة قصيرة أو طويلة من الزمن على الجانب الصحي، إضافة إلى الجانب الاجتماعي، والاقتصادي، والأمني. فالتلوث حسب ما كتبتُ في عدة مقالات ودراسات يعتبر كقنبلة دمار شامل للجسد البشري كله، فإذا أصاب عضو واحد تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى، وينقل الإنسان من المرض الفسيولوجي الجسدي إلى المرض النفسي والعقلي.

 

ومن آخر الإصدارات التي نشرتها منظمة الصحة العالمية كانت حول أحد مظاهر تلوث الهواء، وهو التغير المناخي وارتفاع درجة حرارة الأرض وعلاقته بصحة البشر، وبالتحديد الصحة العقلية. فقد جاء هذا الإصدار في الثالث من يونيو 2022 تحت عنوان: "الصحة العقلية والتغير المناخي: مختصر للسياسات"، حيث تم تدشينه في مؤتمر الذكرى الخمسين( Stockholm+50)لاجتماع الأمم المتحدة التاريخي الأول حول البيئة البشرية الذ عقد في ستوكهولم في يونيو عام 1972.

 

فهذه التحديات الصحية المتنوعة والكثيرة الناجمة عن التعرض للملوثات، وبالتحديد في قضية التغير المناخي الدولية المشتركة، جعلت منظمة الصحة العالمية تنشر هذه الوثيقة الجديدة، وتعمل من خلالها على تطوير سياسات واضحة تؤكد على وجود العلاقة بين التغير المناخي والصحة العقلية خاصة، كما طرحت الوثيقة عدة نقاط جوهرية من أهمها بأن التغير المناخي يترك بصمات عميقة وتأثيرات جذرية على صحة البشر العقلية والنفسية والعضوية.

 

كما تُقدم الوثيقة خمس توصيات لمداخل يمكن للدول تبنيها وتنفيذها لمواجهة هذا المعضلة الجديدة المتعلقة بتأثيرات التغير المناخي على الصحة العقلية. ومن أهم التوصيات دمج كل الجوانب المتعلقة بالتغير المناخي في البرامج والسياسات المتعلقة بالصحة، وبخاصة الصحة العقلية.

 

فهذا التوجه لمنظمة الصحة العالمية، وهذه السياسة الحديثة نسبياً تؤكد بأننا يجب أن لا نتعامل مع القضايا البيئية عامة، وقضايا التلوث خاصة، بأنها مشكلات جامدة تخص الجهة المعنية بالبيئة فحسب، وإنما تؤكد المنظمة بأن البعد الأهم لأية قضية بيئية هو الجانب المتعلق بكل أركان صحة الإنسان، الجسدي والعقلي والنفسي، ولولا هذا الجانب الصحي الواقعي لما اهتم المجتمع الدولي عامة بالبيئة وقضاياها المتشعبة والمعقدة.

 

فكل قضية بيئية لها ارتباطات وثيقة وعلاقة مباشرة بالأمن الصحي للبشر، وفي الوقت نفسه كل قضية صحية والأسقام والعلل التي يعاني منها الإنسان حالياً، نجد أن للبيئة والتلوث بصمةً كبيرة فيها، ولها دوراً في نزولها على الإنسان والإصابة بها. فإذا درسنا أسباب إصابة الإنسان بالسرطان، فسنكتشف بأن لملوثات البيئة اليد الطولى في ذلك، وإذا أردنا أن نتعرف على أسباب ارتفاع أعداد المصابين بأمراض القلب في سن مبكرة وبأمراض كانت تصيب قلوب الشيوخ وكبار السن الذين اشتعل رأسهم شيباً، فستظهر علينا الملوثات كعامل مهم في الوقوع في شباك أمراض القلب، وكذلك بالنسبة لأمراض الجهاز التنفسي، والسكري، والبدانة وزيادة الوزن، وأمراض العين، وأمراض الحساسية، وكلها عندما نتعمق فيها نجد أن التلوث هو أحد المتهمين للإصابة بالمرض، حتى أن تلوث الهواء يقف وراء تفاقم وشدة الأعراض المرضية التي يتعرض لها المصاب بكورونا، مما قد يعجل في وفاته، وفقاً للدراسة المنشورة في 31 مايو 2022 في مجلة أمريكية "طب الجهاز التنفسي والعناية المركزة: " Respiratory and Critical Care Medicine"، تحت عنوان: "التعرض لملوثات الهواء الجوي وشدة الإصابة والموت من كوفيد_19 في منطقة جنوب ولاية كاليفورنيا".

 

وختاماً في تقديري فإن وزارات الصحة لن تنجح في أداء رسالتها في وقاية صحة المواطنين من الأمراض، إلا إذا أدخلت الجانب البيئي كعامل رئيس للإصابة بالأمراض في كافة البرامج والسياسات الصحية الوقائية والعلاجية.

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق