الاثنين، 13 يونيو 2022

كوكبنا يعاني من الحُمى

عندما تتغير درجة حرارة أجسامنا ارتفاعاً أو انخفاضاً، ولو نصف الدرجة، أو درجة مئوية واحدة فقط عن المعدل لدرجة حرارة الجسم الطبيعية، فإننا نكون في وضع صحي غير طبيعي، ونعاني من مرض ما، وفي هذه الحالة علينا فوراً استشارة الطبيب المختص لمعرفة السبب في هذا الانخفاض أو الارتفاع، فدرجة حرارة الجسم تُعد أحد المقاييس والمؤشرات التي تدل على أن الإنسان يعيش حياة صحية طبيعية، أو أنه يقاسي من مشكلة صحية محددة.

 

فالمعيار الحالي المستخدم لدرجة حرارة الجسم الطبيعية هو 36.8 درجة مئوية، كما أن الدراسة تحت عنوان: "درجة حرارة الجسم الطبيعية: مراجعة منهجية"، والمنشورة في مجلة "الأمراض المعدية"( Open Forum Infectious Diseases)في الرابع من أبريل 2019، أفادت بأنه درجة حرارة الجسم الطبيعية تتراوح بين 35.01 و 37.76، حسب عمر الإنسان، والجنس، وعوامل أخرى.

 

فارتفاع حرارة الجسم بدرجة بسيطة جداً يمثل تحذيراً أولياً على وجود خطرٍ ما يحيط بالإنسان، ويشكل الفارق بين الصحة والمرض، مما يستدعي مباشرة زيارة الطبيب والتعرف على أسباب سخونة الجسم والشعور بالحرارة.

 

هذا بالنسبة لجسم الإنسان، وهذا بالنسبة لردة فعل الإنسان عندما ترتفع حرارته ولو بدرجة بسيطة جداً، ولكن ماذا عن كوكبنا الذي يعاني من السخونة منذ سنوات طويلة، ويقاسي من ارتفاع حرارة جسده سنة بعد سنة؟ فإلى من يشكو حالته الصحية المتدهورة؟ وإلى من يذهب ليشخص أسباب ارتفاع حرارته وإصابته بالسخونة والحمى المزمنة؟ ومن سيَحْمل هذا الجسم العليل إلى غرفة الإنعاش والإنقاذ لأعادته إلى الحياة والعطاء؟

 

فالعوامل المؤدية إلى سخونة جسده تزيد يوماً بعد يوم منذ أكثر من قرنين من الزمن، والأسباب التي تعرضه للإصابة بالحمى والمرض مازالت موجودة، ولم تتوقف يوماً ما منذ الثورة الصناعية الأولى، ومنذ احتراق الوقود الأحفوري من فحم، ونفط، وغاز طبيعي في كافة وسائل المواصلات وفي محطات توليد الكهرباء. فغاز ثاني أكسيد الكربون هو المتهم الرئيس برفع حرارة الكرة الأرضية، وهو الغاز الذي لم ينقطع من الانبعاث إلى الهواء الجوي منذ مائتي عام.

 

فهذا الغاز الذي خلقه الله سبحانه وتعالي في الهواء الجوي الطبيعي والنظيف بقدرٍ محدد واتزان ليؤدي مهمات كثيرة جداً، بدأ تركيزه في الارتفاع على مدى القرنين الماضيين حتى تحول الآن من عامل بناء وإعمار إلى عامل هدم وفساد. فتركيز غاز ثاني أكسيد الكربون حسب التقديرات كان 278 جزءاً من هذا الغاز في المليون جزء من الهواء الجوي، ولكن مع ازدياد انبعاثه من مصادر لا تُعد ولا تحصى وبخاصة من وسائل المواصلات من سيارات وطائرات، ومن محطات توليد الكهرباء، بلغ تركيزه اليوم الذروة وإلى مستوى غير مسبوق في تاريخ البشرية. فقد سجل مرصد مانو لو في هاواي(Mauna Loa Atmospheric Baseline Observatory) الذي يقوم بقياس تركيز ثاني أكسيد الكربون منذ عام 1958 والتابع لـ "الإدارة القومية للمحيطات والغلاف الجوي" "نووا"( National Oceanic and Atmospheric Administration) تركيزاً لمعدل غاز ثاني أكسيد الكربون يُعد هو الأعلى حتى الآن لشهر مايو وهو 420.99 جزءاً من ثاني أكسيد الكربون في المليون جزء من الهواء، ويمثل هذا التركيز 50% أعلى من معدل مستوياته منذ ما قبل الثورة الصناعية.

 

وبناءً على تقارير وتحليلات "ناسا" أو "الإدارة القومية للملاحة الجوية والفضاء"( National Aeronautics and Space Administration)، إضافة إلى تقرير "الهيئة شبه الحكومية حول التغير المناخي"، وبالتحديد "التقييم السادس" المنشور في فبراير 2022، فإن هذا الارتفاع المطرد في تركيز غاز ثاني أكسيد الكربون على مدى القرنين أدى في الوقت نفسه إلى سخونة الأرض وإصابتها بالحمى المزمنة، حيث ارتفعت درجة حرارة الأرض بمعدل لا يقل عن 1.1 درجة مئوية منذ عام 1880، ومعظم هذه الزيادة بدأ منذ عام 1975، بمعدل 0.15 إلى 0.20 درجة مئوية لكل عشر سنوات.

 

وبالرغم من هذا الارتفاع الواقعي المشهود في حرارة كوكبنا، إلا أن الإنسان لم يتخذ إجراءات جماعية فاعلة ومؤثرة لانتشال هذا الجسد السقيم وخفض حرارته، بل وسمح بالاستمرار في انبعاث الملوثات المتهمة في رفع درجة حرارة الأرض، وأعلن في اجتماع باريس لعام 2015 إعلاناً مخجلاً ومعيباً، حيث قال بأنه لا مانع لديه من استمرار تعرض كوكبنا للحُمى، ولكنه لن يسمح بأن ترتفع حرارته أكثر من درجة ونصف الدرجة المئوية. وهذا الإلتزام الدولي غير واقعي ولا يمكن تنفيذه على أرض الواقع مع عدم خفض انبعاث الملوثات المناخية على مستوى كافة دول العالم بنسبٍ ملموسة وكبيرة، حيث قُدرت كمية ثاني أكسيد الكربون التي تم إطلاقها إلى الهواء في عام 2021 فقط نحو 36.3 بليون طن. ولذلك فقد أكدت دراسة منشورة في السادس من يونيو 2022 في مجلة "التغير المناخي الطبيعي"(Nature climate change

) تحت عنوان: "تقدير توقيت الإلتزام بسخونة الأرض عند 1.5 و 2 درجة مئوية"، بأن الإنسان لن ينجح في منع ووقف سخونة الأرض أكثر من 1.5 درجة مئوية.

 

وعلاوة على ذلك فإن ارتفاع غاز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي يؤدي إلى انكشاف أعراض مرضية أخرى على كوكبنا إضافة إلى الشعور بالسخونة وارتفاع الحرارة، ومنها ارتفاع حرارة مياه المحيطات وارتفاع مستوى سطح البحر، والذي قدر بنحو 3.2 مليمتر سنوياً، إضافة إلى زيادة حموضة المياه لامتصاص غاز ثاني أكسيد الكربون الحمضي، حسب البحث المنشور في الثاني من مارس 2021 في مجلة "نظام الأرض معلومات علمية"(Earth System Science Data).

 

كذلك فإن ارتفاع هذا الغاز بهذه المعدلات المرتفعة له عواقب وخيمة جداً على كوكبنا حيث يؤثر على النظام المناخي العام، ويحدث خللاً كبيراً فيه، من حيث زيادة معدلات الجفاف، وارتفاع نسبة الموجات الحرارية في البحر والجو، وما يترتب عن ذلك من كوارث وتداعيات وخيمة. فعلى سبيل المثال، نَشرتْ مجلة "رسائل أبحاث جيوفيزيائية"(Geophysical Research Letters) في الثاني من يونيو 2022 دراسة ميدانية حول ظاهرة مناخية جديدة تعرف بنهر الغلاف الجوي( atmospheric river). ففي 14 أغسطس 2021 نزلت لأول مرة أمطار على قمم الجبال الثلجية في جزيرة جرينلند نتيجة لموجات الهواء الرطب والجاف التي غزت هذه الجزيرة، مما تسبب في انصهار الثلوج وجريان الأنهار بكميات وسرعة غير مسبوقة.

 

فسخونة الأرض مستمرة، وحرارتها لم تنزل ولم تنخفض منذ سنوات طويلة جداً، والإنسان مازال غير مبالٍ بهذا الجسد العليل الذي يعاني ليلاً نهاراً، وتداعيات ارتفاع حرارته تزيد يوماً بعد يوم، وتتنوع وتتوسع كل سنة.

فهل سيتحرك الإنسان لإنقاذ كوكبنا من الحمى قبل فوات الأوان؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق