الخميس، 25 أغسطس 2022

المرض الموسمي للبحيرات


عندما تطول أشهر الصيف في كل سنة، وتتفاقم شدة الموجات الحرارية التي تضرب دول العالم، فترتفع نتيجة لذلك حرارة الجو وتشتد ضراوتها، نُشاهد ظاهرة تحول لون البحيرات الجميلة الطبيعية التي تشرح النفس وتملأ القلب سروراً وبهجة إلى ألوان الطيف المتعددة الغريبة والغامضة، فمنها اللون الأخضر الغامق، ومنها الأحمر كلون الدم الفاقع، ومنها البني الكئيب الذي يُميت القلب والنفس.

 

وهذه الحالة المرضية والظاهرة السقيمة للبحيرات تحولت الآن إلى أعراضٍ مشهودة لا يمكن تجاهلها، فالجميع قد رآها أمامه رأي العين، أو من خلال وسائل الإعلام والاتصال في الكثير من دول العالم، بدءاً بالخلجان المغلقة والبحار الضحلة في مياه الخليج العربي، كخليج توبلي في البحرين وخليج عراد، إضافة إلى المناطق البحرية الصغيرة غير العميقة وشبه المغلقة. وفي بعض الأحيان تكون هذه الحالة السقيمة التي تُصيب البحيرات مقلقة جداً، بل ومخيفة، وبالتحديد عندما تكون مصحوبة بالموت الجماعي للأسماك، فنشاهد منظر الإبادة الجماعية للكائنات البحرية، ونفوق الآلاف منها أمام أعيننا دون أن نعرف أسبابها بالتحديد، أو مرتبطة بحالات تسمم يتعرض لها رواد البحر.

 

ودعوني أُذكركم ببعض الحوادث الخاصة بالموت الجماعي للأسماك في الخليج العربي في مواسم الصيف الحارة، فهناك على سبيل المثال لا الحصر ما وقع في سلطنة عمان في شهر أغسطس عام 2000، وفي الكويت في يوليو عام 2001، وفي البحرين وقعت عدة حوادث في سواحل منطقة عراد وفي خليج توبلي في ساحل النبيه صالح وجرداب وجدعلي والمعامير، مثل حادثة نفوق أسماك الجواف في يونيو 2007، وفي يوم 14 أغسطس 2019 سقطت كميات كبيرة من الأسماك الصغيرة من نوع "العفاطي" صريعة في ساحل المعامير في خليج توبلي.

 

ولهذا المرض الموسمي الذي ينزل على المسطحات المائية حول العالم، تداعيات كثيرة ومتنوعة تتعدى الجانب البيئي المشهود فتصل إلى جوانب خطيرة مهددة لصحة الإنسان والكائنات المائية والطيور البحرية التي تعيش في تلك المساحة المتضررة التي بلغت في بعض البحار آلاف الكيلومترات المربعة، كما أن تداعياتها تبلغ اقتصاد البلاد والعباد، فعندما يتغير لون البحر من اللون الأزرق الطبيعي الجميل إلى الألوان الأخرى المؤذية للنفس والقلب، فإن كل رواد البحر من سياح وصيادي السمك وغيرهم سيهجرون هذه المنطقة كلياً وبشكلٍ جماعي، فتتكبد الدولة والمرافق والتسهيلات السياحية وكل من يعيش ويقتات على هذه المرافق خسائر اقتصادية كبيرة، وربما إفلاس جماعي بسبب نفور الناس وهروبهم من سواحل البحر.

 

فهناك أسباب طبيعية ربما لا دور للإنسان فيها عند وقوع ظاهرة تحول لون المسطحات المائية، وفي المقابل هناك أسباب صنعتها أيدينا ونفذتها أعمالنا التنموية التي لم تأخذ الجانب البيئي الصحي في الاعتبار. فأولاً ارتفاع درجة حرارة الجو في الصيف خاصة هو ظاهرة دورية طبيعية تحدث كل سنة، ولكن هذه الظاهرة المناخية الطبيعية تفاقمت واشتدت نتيجة لتلوث الهواء بغاز ثاني أكسيد الكربون والميثان وغازات أخرى تنبعث كل ثانية من وسائل المواصلات وتوليد الكهرباء والمصانع. وهذه الغازات المعروفة بغازات الدفيئة، أو الاحتباس الحراري تسببت في وقوع أخطر مشكلة عرفها الإنسان حتى الآن، وأكثرها تعقيداً وتهديداً لصحة البشر واستدامة كوكبنا، وهي قضية التغير المناخي وإصابة الأرض بالحمى المزمنة. وارتفاع حرارة الأرض انعكس على مياه البحار، فزادت حرارتها وأدت مع وجود عوامل أخرى إلى بروز ظاهرة النمو غير الطبيعي والطفري للطحالب بشتى أنواعها السامة وغير السامة.

 

وأما السبب الثاني فهو ما نصرفه بأيدينا وبمحض إرادتنا من خليط معقد وسام من ملوثات كيميائية وحيوية مَرَضية إلى السواحل من أنهار، وبحار، وبحيرات، سواء أكانت مياه المجاري غير المعالجة، أو شبه المعالجة، أو مياه الصرف الزراعي، وكل هذه المياه تحتوي على مواد مغذية، كالفسفور والنيتروجين وغيرهما التي تعمل كسماد يؤدي إلى تعجيل نمو النباتات البحرية كالطحالب التي تسبب حالة "الإثراء الغذائي" من مد أحمر يفرز السموم إلى المد الأخضر والبني. 

 

ومياه المجاري في الكثير من الدول اليوم لفتت أنظار العلماء ووسائل الإعلام ووسائل الاتصال الجماعية الاجتماعية نتيجة لصرفها بأحجام ضخمة في المسطحات المائية وتكون مساحات واسعة من الطحالب الخضراء والحمراء السامة التي لا يمكن تجاهلها وغض الطرف عنها. فعلى سبيل المثال، هذه الممارسة غير الحضارية والمُتَخلفة تحولت إلى سلوك يومي في بعض الدول الصناعية المتقدمة، مثل بريطانيا. فوسائل الإعلام البريطانية تغطي هذا الأيام هذه المشكلة البيئية، ومنها التحقيق المنشور في صحيفة الجارديان في 23 أغسطس 2022 تحت عنوان: "رؤية الجارديان حول أزمة المجاري في إنجلترا"، حيث أفاد التحقيق استناداً إلى التقارير البيئية بأنه في الفترة من 2016 إلى 2021 تم صرف نحو 9 ملايين ساعة من مياه المجاري في المسطحات المائية في بريطانيا العظمى، وخلال الخمس سنوات الماضية زاد الصرف بنسبة 2553%.  

 

وهناك عدة أسباب تضطر هذه الدول المتقدمة إلى التخلص من مياه المجاري مباشرة في السواحل، وهذه الأسباب يجب أن نقف عندها ونحللها لأنها قد تقع عندنا في البحرين أو في باقي دول الخليج. فلا شك بأن هناك محطات في هذه الدول خاصة بمعالجة مياه المجاري، ولكن هذه المحطات أصبحت بالية ومستهلكة وطاقتها الاستيعابية قد أصابها التشبع والانهيار، فلا تتحمل الأحجام المتزايدة كل يوم من مياه المجاري من المنازل، والمرافق السياحية من فنادق ومنتجعات، ومن المجمعات المتزايدة، إضافة إلى زيادة أعداد السكان والمقيمين والسياح، فكل هذه المتغيرات والمستجدات التي تزيد يوماً بعد يوم ترفع من أحجام المجاري التي لا تتحملها ولا تطيقها هذه المحطات القديمة ذي الطاقة الاستيعابية المنخفضة، مما يعني صرف جزء من هذه المجاري والتخلص منها في المسطحات المائية دون أية معالجة. وهذه الأحجام التي تدخل البحر تزيد كل يوم إذا لم يتم بناء محطات جديدة، أو رفع الطاقة الاستيعابية للمحطات القديمة وإعادة تأهيلها وصيانتها بشكلٍ كامل. وهذا يعني بأن أية زيادة في السكان، أو عدد السياح، أو الفنادق أو غيرها يجب أن يواكبها في الوقت نفسه زيادة ورفع في الطاقة الاستيعابية لمعالجة مياه المجاري، وإدارة المخلفات البلدية الصلبة، وتوفير مياه الشرب، وزيادة وتوسعة الشوارع، وزيادة المرافق الخدمية، وزيادة المتنزهات والمساحات الخضراء والسواحل العامة، وزيادة إنتاج وتوليد الكهرباء، وغيرها من الخدمات، فهل نقوم في دولنا بالتخطيط الاستراتيجي للتعامل مع كل هذه المستجدات التنموية بشكلٍ عام؟

 

وهناك عدة أعراض مرضية تنكشف على المرض الموسمي للبحيرات، منها ما هو سطحي وظاهري نراها بالعين المجردة كتغيير لون ماء البحر، ونفوق الأسماك، وتسمم الإنسان، ومنها ما هو بحاجة إلى الأجهزة للكشف عنها وتحليلها، مثل انخفاض تركيز الأكسجين الذائب في الماء والذي إذا استمر يحول المنطقة البحرية إلى صحراء جرداء قاحلة لا حياة فيها ومقبرة جماعية للكائنات البحرية، ومنها التعرف على مختلف أنواع السموم التي تفرزها الطحالب، ومنها تركيز المغذيات العضوية وغير العضوية في الماء.

 

فمن الواضح إذن أن هذا المرض الموسمي الذي يُصيب المسطحات المائية في معظم دول العالم له أسباب طبيعية لا يمكننا السيطرة عليها، ولكن في معظمها أسباب ومصادر تحت أيدينا ونستطيع التصرف فيها ونمنع دخولها في المسطحات المائية، فنَقي بذلك هذه البيئات الجميلة، الثرية، والمنتجة من التدهور، كما أننا في الوقت نفسه نمنع هذا المرض الموسمي من أن يتحول إلى وباءٍ مزمن يمكن مشاهدته طوال العام، ولا يمكن عندئذٍ التخلص منه والقضاء عليه كلياً.

الاثنين، 22 أغسطس 2022

مياه المجاري تكشف أسرار جدري "المثليين"

هناك أسرار وخفايا كثيرة تستطيع أن تكتشفها عن ممارسات وسلوكيات أي شعب وأي مجتمع من المجتمعات البشرية من خلال أخذ فقط عينات قليلة لا تتجاوز المليلتر الواحد من مياه المجاري. فهذه المليلترات البسيطة تحمل في بطنها أسرار الشعوب، وتعتبر بحر عميق وكنز لا يفنى من المعلومات الثرية والخفية، وهذه المليلترات القليلة تفضح كل ما تخفيه الشعوب من أعمال وتصرفات وعادات، فهذه المليليترات هي البصمة الوراثية للشعب في تلك المدينة.

 

فإذا أردتَ أن تعرف عن إدمان الشعب على أي نوع من أنواع المخدرات، فكل ما عليك فعله هو اللجوء إلى قطرة من مياه المجاري، وإذا أردت أن تعرف مدى شرب الناس للخمر فاذهب إلى هذه المياه الآسنة، وإذا أردت أن تبحث عن أكثر الأدوية والعقاقير شيوعاً وانتشاراً واستخداماً في المجتمع فمياه المجاري أفضل طريقة للإجابة عن هذا السؤال، وإذا أردت أن تدرس أنواع الكائنات الحية المسببة للأمراض والتي يعاني منها الشعب فكل ما عليك القيام به هو أخذ عينات من المجاري وستتعرف على حجم التهديدات الصحية المتجذرة في أي مجتمع ونوعية الأمراض التي قد يصابون بها والمخاطر الصحية التي قد يتعرضون لها، ولذلك تَعْتَبر بعض الدول الآن بأن هذه التقنية الحديثة كجهاز إنذار مبكر لأي حالة صحية مرضية مستقبلية.

 

وقبل زهاء سنتين كانت مياه المجاري هي التي تكشف للعلماء كل ما يتعلق بأسرار وخفايا الفيروس الغامض الذي سبب للبشرية وباء كورونا العقيم، فمن خلال سحب عينات من مياه المجاري ثم تحليلها للبحث عن المواد الجينية الوراثية نجحوا في الإجابة عن أسئلة معقدة ومحيرة كثيرة، منها متى وصل الفيروس إلى الشعب في أية مدينة كانت؟ وأين وكيف انتشر هذا الفيروس؟ وما هي تحوراته والتغييرات التي طرأت عليه؟ وهل الحالات المصابة بالفيروس في تلك المدينة في ازدياد أو نقصان؟

 

واليوم يلجأ العلماء والمختصون إلى هذه المياه القذرة مرة أخرى كوسيلة علمية يمكن الوثوق في نتائجها للتزود بالمعلومات الصحيحة والأولية، وفي وقتٍ مبكر جداً قبل فوات الأوان، إضافة إلى التعرف على الحقائق المرتبطة بالفيروس الجديد المسبب لمرض جدري القردة، والذي أقترح تسميته مرض "جدري المثليين"، فمنظمة الصحة العالمية تبحث عن اسم جديد لهذا المرض.

 

فهذا المرض الخبيث بدأ في الانتشار منذ مايو 2022 وبالتحديد في الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية، حيث لم تسجل أية حالات لهذا المرض من قبل، فهو مرض مستوطن في دول غرب أفريقيا وليس في الدول الغربية، حيث انطلق الآن منها الفيروس ووجد فيها الحاضنة المناسبة والآمنة، فبدأ في النمو والتكاثر والانتشار إلى باقي دول العالم.   

والآن حسب آخر تقرير منشور في 19 أغسطس 2022 من الولايات المتحدة الأمريكية من "مراكز التحكم في المرض ومنعه" فهناك قرابة أربعين ألف حالة في معظم دول العالم، وفي دول لم تُعرف من قبل ولم تسجل بها أية حالات بالإصابة بهذا المرض، مما اضطر منظمة الصحة العالمية في 23 يوليو 2022 إلى الإعلان عن حالة الطوارئ الصحية العامة الدولية لجدري "المثليين".

كما أفاد التقرير الأمريكي بأن عدد الحالات في أمريكا وحدها بلغ قرابة 11 ألف في 49 ولاية، وهذ تمثل نسبة تقدر بنحو 35% من إجمالي الحالات على المستوى الدولي، واستنتج التقرير بأن هذه الحالات المرضية بجدري "المثليين" في تفاقم مستمر وزيادة مطردة مع الوقت، حتى أن بعض علماء أمريكا حذروا في 18 أغسطس في مقال لهم نشر في صحيفة النيويورك تايمس الأمريكية بأن هذا المرض نزل على أمريكا ليبقى في أعضاء الجسد الأمريكي بشكلٍ دائم، فهذا الفيروس، حسب رأي العلماء، سيدور في المجتمع الأمريكي كما يدور فيروس الزكام الموسمي. وعلاوة على ذلك فقد توصل التقرير إلى استنتاج مهم جداً وخطير هو أن 99% من حالات الإصابة بجدري المثليين هو بين الرجال الشاديين جنسياً وبين الفئة الضالة منهم الذين لم ممارسات وسلوكيات جنسية منحرفة، علماً بأن الولايات المتحدة ممثلة في وزارة الصحة أعلنت في الرابع من أغسطس بأن جدري "المثليين" يمثل حالة طوارئ صحية قومية على المستوى الاتحادي.

 

وفي تقديري فإن من أهم أسباب هذا الانتشار السريع غير المتوقع لهذا المرض الغريب على معظم دول العالم هو عدم تبني سياسة الوقاية ومنع المرض من جذوره في المجتمع، وتجنب تنفيذ سياسة استئصال بؤرة ونواة المرض بين الشعب الواحد، سواء على مستوى منظمة الصحة العالمية أو على مستوى الدول. فكل الجهات المعنية بالصحة العامة تبنت سياسة العلاج غير المستدامة والتي لا تُوقف المرض ولا تمنع انتشاره، حيث قال المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، كما صرح المسؤولون عن وزارات الصحة في بعض الدول العالم بأن على هذه الفئة الضالة من المجتمع المسؤولة عن تفشي المرض تجنب فقط ممارسة الجنس مع أكثر من رجل، أو مع رجال جدد، مما يعني بأن هذه التوجهات السياسية لا تمنع السلوكيات الخاطئة، بل وتشجعها، كما أن هذه السياسات غير المسؤولة لا تحذر الرجال من ممارسة الجنس مع الرجال، أي أن مصدر المرض سيكون موجوداً وفاعلاً ومعدياً بين الشعب، بل وسيعمل على نشر المرض على المستوى القومي والدولي، فهناك شبكة قذرة من هؤلاء المثليين المنحرفين جنسياً في كل دول العالم.

 

ولذلك مع انتشار هذا المرض لا بد من أن يكون العلماء في أتم الاستعداد لمواجهته وأسرع في كشفهم وتحليلاتهم عن مدى إصابة الناس ومستوى تفشي المرض بين أفراد الشعب الواحد. وهناك عدة تقنيات تؤدي إلى تحقيق هذا الهدف، وتحليل مياه المجاري عن فيروس مرض "المثليين" هو من التقنيات الحديثة نسبياً والتي أثبتت نجاحها في الكشف عن أوبئة معدية أخرى نزلت على الشعوب، وآخرها مرض كورونا.

 

فمن خصوصية هذا المرض هو أن الأعراض تنكشف على جسم الإنسان بعد أسبوع أو أسبوعين، وخاصة الأعراض الظاهرية على الجلد، أي أن الإنسان المصاب والحامل للمرض سيستمر طوال هذه الفترة في العيش بين الناس الأصحاء ونشر العدوى ونقله للآخرين دون الكشف عن تعرضه للمرض، ولكن مياه المجاري تستطيع فضح وجود المرض والكشف عن تفاصيله وأسراره من الناحيتين الكمية والنوعية، والتحذير منه وإعلان حالة الإنذار عن تفشي المرض، حتى تقوم الجهات المعنية بسرعة بأخذ الاحتياطات والإجراءات المناسبة للوقاية والعلاج منه، إضافة إلى تحديد المنطقة التي يوجد بها الفيروس المعدي.

 

وانطلاقاً من هذه الخبرات الدولية والتجارب العالمية الميدانية حول الكشف المبكر عن الأمراض المعدية عامة، ومرض جدري "المثليين" خاصة، فإنني أتمنى من دول مجلس التعاون، والبحرين خاصة من تبني هذه التقنية الجديدة والاستفادة منها وادماجها ضمن قائمة التحاليل الدورية واليومية الروتينية لمياه المجاري بحثاً عن أنواع الفيروسات والبكتيريا المعدية المسببة للأمراض.

 

الخميس، 18 أغسطس 2022

تحليل قانون التغير المناخي الأمريكي الجديد

 

منذ ثلاثين عاماً، وبالتحديد عند انطلاقة قضية التغير المناخي بشكلٍ رسمي في قمة الأرض في ريو دي جانيرو بالبرازيل عام 1992، والولايات المتحدة تُمسك بدفة سفينة التغير المناخي الدولية، فتارة تأخذها إلى الأمام لتحقيق أهدافها في طريقها الطويل والشاق إلى الوصول إلى بر الأمان، وتارة أخرى تسير بها إلى الخلف سنوات طويلة فتُعرقل مسيرتها وموعد وصولها وبلوغ أهدافها.

 

فالبداية كانت مبشرة بالخير، وانطلاقة المسيرة الماراثونية في عام 1992 كانت مشجعة بقيادة الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الأب عندما وقع على الاتفاقية الإطارية للتغير المناخي مع باقي دول العالم. فكل الأخبار حول التغير المناخي التي كانت تصل من الولايات المتحدة الأمريكية ومن سائر دول العالم تفيد بأن السفينة تبحر في هذا البحر اللجي المتلاطم الأمواج بأمان واطمئنان وبخطوات إيجابية مستقيمة حتى بلغت المحطة الأولى من رحلتها الطويلة، وهي اجتماع كيوتو في اليابان، والذي تمخض عنه بروتوكول كيوتو لعام 1997، حيث تعهدت دول العالم الصناعية المتطورة والمعنية والمسؤولة عن وقوع التغير المناخي واصابة الأرض بالسخونة والحمى المرتفعة بخفض انبعاثاتها من الغازات الملوثة والمتهمة برفع حرارة الأرض.

 

وبعد أن أبحرت سفينة التغير المناخي مرة ثانية للتوجه إلى المحطة الثانية، صادفتها عاصفة هوجاء ورياح قوية غيَّرت جذريا من وجهتها وأرجعتها مرة ثانية إلى الخلف وإلى محطة ريو دي جانيرو من حيث أبحرت لأول مرة، فقد تغيَّرت القيادة السياسية التنفيذية في أمريكا، حيث تولى الحكم الجمهوري جورج بوش الإبن ورفض التصديق على البروتوكول الذي وقع عليه الديمقراطي بيل كلينتون، مما جعل سفينة التغير المناخي تنحرف عن بوصلتها، وتسير في بحر مجهول وفي خطٍ لا يعرف أحداً نهايته. ومن جديد حاولت الولايات المتحدة قيادة السفينة عندما وصلت إلى محطة باريس لعام 2015 حيث تزعم أوباما تفاهمات تصب في مصلحة التغير المناخي ومنع ارتفاع سخونة الأرض أكثر من درجة ونصف الدرجة المئوية، فمسك الرئيس الأمريكي بدفة السفينة ليبحر بها إلى الأمام. ولكم ما أن سارت السفينة إلى وجهتها الصحيحة نحو مكافحة تداعيات التغير المناخي حتى جاء ترمب الجمهوري، القبطان الجديد، فمسك قيادة السفينة وقيادة البيت الأبيض فأوقف عجلة السفينة ومنعها من التحرك والإبحار على المستويين القومي الأمريكي والدولي، وانسحب كلياً من تفاهمات باريس ومن أية التزامات أو تعهدات أمريكية لخفض انبعاثاتها من غازات الاحتباس الحراري.

 

ولحسن الحظ أن هذا الربان الأمريكي لم يدم طويلاً، إذ تولي الحكم في أمريكا الديمقراطي بايدن الذي وضع مرة أخرى السفينة في طريقها السليم، وشرع في قيادتها دولياً وعلى المستوى الاتحادي الأمريكي.

 

وقيادة أمريكا للسفينة مهمة جداً لتحقيق أهداف مواجهة التغير المناخي لسببين رئيسين. الأول قُدرة أمريكا وقوتها على زعامة العالم في جميع القطاعات، ومنها القطاع البيئي المتمثل في الضغط على دول العالم أجمع وتشجيعهم على خفض انبعاث الغازات المناخية. والثاني فهو أن أمريكا تاريخياً تتحمل المسؤولية الأولى الكبرى في رفع درجة حرارة كوكبنا وتعرضها للحمى المزمنة، فهي أكبر دولة من حيث انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون والميثان، وأية جهود تقوم بها أمريكا تؤثر ايجاباً وبشكلٍ مباشر على خفض حرارة الأرض برمتها فيستفيد منها كل سكان الأرض من إنسان وكائنات فطرية، مما يؤكد بأن قيادة أمريكا وعملها على خفض انبعاثاتها على المستوى القومي هي نصر لقضية التغير المناخي وتحقيق أهدافها على المستوى الدولي.

 

فالولايات المتحدة وافقت ممثلة في مجلس الشيوخ في السابع من أغسطس 2022 ثم مجلس النواب في 12 أغسطس على قانونٍ تاريخي بالنسبة للتغير المناخي، وهذا القانون عانى من مخاضٍ طويل وشاق واستغرق أكثر من سنة واحدة من المفاوضات الشاقة، والتنازلات الصعبة، والقرارة التوافقية من الحزبين ومن كافة الجهات المعنية، حتى جاءت الولادة الصعبة والعسيرة.

 

فهذا القانون جاء تحت عنوان: "خفض التضخم"(Inflation Reduction Act)، وهو عبارة عن حزمة من التشريعات تصب في عدة جوانب منها صحية وضريبية، ومنها اقتصادية متعلقة بخفض نسبة التضخم، ومنها بالأخص الجانب الذي يهمني في هذا المقال والمتعلق بالتغير المناخي والاستثمار في هذه القضية على مدى عشر سنوات بمبلغ نحو 369 بليون دولار، إضافة إلى الأدوات والآليات المقترحة لمواجهتها على المستوى القومي الاتحادي الداخلي.

 

فبنود هذا التشريع المتعلقة بمكافحة التغير المناخي وتبني مصادر الطاقة الخضراء النظيفة والمتجددة تستند إلى عدة سياسات منها السياسة الوقائية وتبني استراتيجية منع انبعاث غازات التغير المناخي من مصادرها، ومنها السياسة العلاجية التي تقوم على التحكم في الملوثات بعد إنتاجها من مصادرها ومنع دخولها إلى الهواء الجوي، إضافة إلى استخدام الأدوات الاقتصادية.

 

فمن هذه البنود الاستثمار في قطاع الطاقة المتجددة مثل الطاقة الشمسية، وطاقة الرياح، والهيدروجين، إضافة إلى الطاقة النووية من خلال دعم استمرار تشغيل محطات الطاقة النووية التي تنوي الإغلاق، والعمل على إنشاء محطات جديدة. ولتحفيز الاستثمار في هذه المجالات تقوم الحكومة بفرض أداة الإعفاء الضريبي للشركات التي تعمل في هذه المصادر المتجددة الخضراء للطاقة. كما أن من البنود التحول تدريجياً نحو السيارات الكهربائية وتقديم الدعم للشركات المصنعة، إضافة إلى إعفاء المواطن العادي من الضرائب عند شراء هذه السيارات، أو شراء أجهزة ومعدات توفر الطاقة وتشتغل بالطاقة الكهربائية. كذلك هناك البنود المتعلقة بقطاع البناء من خلال تبني واستخدام سياسة المبنى الأخضر المستدام الذي يعمل على ترشيد استهلاك الطاقة واستخدام الطاقة المتجددة عند البناء وعند تشغيل المباني، إضافة إلى القطاع الزراعي من خلال حماية وتأهيل الغابات لامتصاص الملوثات والقيام بالزراعة المستدامة، وقطاع الإنتاج الصناعي وتبني سياسة الإنتاج النظيف.

 

كذلك من بنود القانون التي تصب في السياسة العلاجية هي تركيب أجهزة على مداخن المصانع ومحطات توليد الكهرباء تقوم بجمع غاز ثاني أكسيد الكربون ومنعه من الانبعاث إلى الغلاف الجوي، وتُعرف بتقنيات جمع الكربون( carbon capture technology). وفي المقابل أيضاً تحفيز شركات إنتاج  النفط والغاز على منع تسرب غاز الميثان الذي يُعد المسؤول الثاني عن سخونة كوكبنا.

 

 وبالرغم من صدور هذا التشريع التاريخي الفريد من نوعه على مستوى الولايات المتحدة، إلا أنه لا يفي كلياً بالتزامات وتعهدات أمريكا المناخية على المستويين القومي والدولي. فقد تعهد بايدن في عدة مناسبات بأنه يهدف إلى خفض انبعاثات أمريكا بنسبة 50% بحلول عام 2030، إلا أن هذا القانون إذا تم تطبيقه بشكلٍ صحيح فإنه يخفض من انبعاثات أمريكا بنسبة 40% فقط من مستويات عام 2005 بحلول 2030. كذلك من عيوب هذا القانون أنه لن يُخلص أمريكا من مصدر وقوع التغير المناخي، وبالتحديد الانبعاثات الناجمة عن الوقود الأحفوري، فمازالت الشركات تنقب وتستخرج الفحم والنفط والغاز الطبيعي، وسيستمر الشعب الأمريكي في استخدامها لسنوات طويلة قادمة. وإضافة إلى ذلك فإن هذا القانون أغفل البند المتعلق بالمساعدات الدولية لصندوق التغير المناخي، والذي تقوم من خلاله الدول الثرية والغنية المتقدمة بمساعدة الدول الفقيرة مالياً وتقنياً على خفض انبعاثاتها والتحول إلى مصادر الطاقة المتجددة.

 

وختاماً ففي تقديري فإن هذا القانون هو أفضل من حالة الفراغ التشريعي للتغير المناخي وعدم وجود القانون الذي يواجه هذا التهديد للكرة الأرضية برمتها كما كان خلال الثلاثة عقود الماضية، فالآن يمكن لأمريكا أن تبدأ من جديد في قيادة سفينة التغير المناخي الدولية، وأتمنى أن تستغل هذه الظروف المناسبة فتكون سريعة في إبحارها، فقد تتغير سرعة وقوة الرياح واتجاهاتها بعد حين.

 

الاثنين، 15 أغسطس 2022

المخلفات البلاستيكية تنشر الأمراض للإنسان

 

في تقديري هناك نوعان من الظواهر الطبيعية والصناعية أي التي من صُنع أيدينا، فالأول هو الظواهر المحسوسة والتي يمكن معرفة وجودها بحواسنا الخمس، فيمكن مشاهدتها أمامنا والتعرف على تفاصيلها بأعيننا، أو بما أنعم الله علينا من قدرات ذاتية أخرى، وفي المقابل هناك الظواهر التي لا يمكننا إثبات وجودها بيننا إلا بالاستعانة بالأجهزة والمعدات الحديثة والدراسات المخبرية والميدانية التي تكتشف وتقدم لنا كافة التفاصيل المتعلقة بها.

ومن الأمثلة التي أستطيع أن أضربها لكم عن الظواهر الصناعية غير المرئية وغير المحسوسة التي نشأت بسبب أنشطتنا وبرامجنا التنموية، والتي تُعد من الأمثلة المستجدة ومن الاكتشافات الحديثة جداً، هي مصير المخلفات البلاستيكية بعد دخولها في بيئتنا، وبالتحديد في المسطحات المائية، ودورها في نقل الكائنات الدقيقة من الميكروبات والجراثيم بكل أنواعها من خلال التصاقها وامتصاصها على سطحها، وتحول سطح هذه المخلفات مع الوقت إلى بيئة ومستعمرة صالحة وجذابة جداً لتكاثر ونمو هذا الكائنات المجهرية على ظهرها، ثم انتقالها إلى بيئاتٍ أخرى وإلى مسافات بعيدة جداً عن مصدرها، وربما إلى أجسام الكائنات الفطرية الحيوانية، وأخيراً إلى جسم الإنسان مع مرور الزمن.

ومن أخطر أنواع المخلفات البلاستيكية وأكثرها تهديداً لصحة الكائنات الحية وسلامة الإنسان هي الجسيمات البلاستيكية الصغيرة الحجم التي لا يمكن أن نتحسسها بحواسنا، فبعضها لا يُرى بالعين المجردة، ويُطلق عليها الميكروبلاستيك، أو الأصغر حجماً وهي النانوبلاستيك. وهذه الجسيمات البلاستيكية الدقيقة هي التي تحولت الآن إلى ظاهرة غير مرئية خطيرة، وأصبحت وسيلة وبيئة خصبة لتكاثر البكتيريا، والفيروسات، والطفيليات، وتحولت إلى آلة أو سفينة تتحرك عليها هذه الكائنات المسببة للأمراض، فتنتقل معها من منطقة إلى أخرى، ومن كائن حي إلى كائنٍ حي آخر. 

ولكي أُبسط لكم هذه الظاهرة، وأُقربُ لكم هذه الصورة الحية التي تحدث في بيئتنا، وأُبين لكم هذا المشهد الواقعي غير المرئي، أَنْقلكم من عالم "الميكرو"، أو العالم الصغير، إلى عالم "الماكرو"، أو العالم الكبير المرئي والمشهود للجميع. فقُم بتجربة بسيطة جداً في منزلك، وهي أخذ ورقة عريضة لأي نبات، أو قطعة بلاستيكية رقيقة كبيرة الحجم، ثم ضع هذه الورقة أو القطعة في بركة السباحة، أو اجعلها تطفو في حوض ماءٍ صغير خارج البيت، ثم اترك هذه الورقة لعدة أيام وراقبها كل يوم، فستجد أمامك جيشاً من الحشرات والكائنات الحية الأخرى التي التصقت بالورقة، أو جلست فوق سطحها. فهذا نموذج ومثال كبير ومشهود بالعين المجردة لما يحصل بالفعل بالنسبة للكائنات الدقيقة المجهرية كالبكتيريا والفيروسات، التي أيضاً تلتصق بأي سطح فوق الماء ولكن دون أن نراها، مثل المخلفات الميكروبلاستيكية، فتعيش عليها، وتستعمرها، وتجعلها بيئة خصبة لها تنمو عليها، وتتكاثر عليها فترة من الزمن، وتعتبرها سفينة بحرية تحملها على بطنها، وتنتقل عليها إلى ما يشاء الله.

 

والعلماء بدأوا بدراسة هذه الظاهرة الخفية وإثبات وجودها في الواقع في بيئاتنا المختلفة. فهناك مقال منشور في الأول من أغسطس 2022 في مجلة "هاكاي" (Hakai Magazine) حول تحرك الكائنات المسببة للأمراض للإنسان على أسطح المخلفات البلاستيكية الطافية، حيث قدَّم المقال بعض الدراسات التي تثبت وجود الجراثيم والميكروبات على أسطح المخلفات البلاستيكية، وقدرتها بعد ذلك على الانتقال إلى بيئات مختلفة ومسافات جغرافية بعيدة. كما نُشرت دراسة في مجلة (The Science of the Total Environment)تحت عنوان:"الاستعمار البكتيري للبلاستيك المنزلي في البيئة الساحلية"، إضافة إلى البحث المنشور في مجلة "تلوث البيئة"(Environmental Pollution) في الأول من سبتمبر 2022، حول علاقة التلوث البلاستيكي في المسطحات المائية بتحرك الفيروسات فوقها، حيث قامت الدراسة بفصل فيروسات معدية من مخلفات بلاستيكية استعمرتها هذه الفيروسات، وأطلقت الدراسة عليها الكرة الحيوية البلاستيكية(plastisphere). فهذه المخلفات البلاستيكية تعد بيئات ثرية للكائنات الدقيقة من بكتيريا وفيروسات حيث تنمو وتتكاثر عليها، وتُكَون مجتمع من الفيروسات المعدية على سطحها وقد تبقي حية لقرابة 3 أيام، مما يعزز النظرية بأن المخلفات البلاستيكية المتناهية في الصغر قد تكون أداة لتنقل الفيروسات من منطقة إلى أخرى ووسيلة لبقائها في البيئة ولنموها وإصابتها للإنسان بالعدوى الفيروسية.

 

كذلك تم نشر دراسة تحت عنوان: "الطفيليات والميكروبلاستيك في مياه البحر وتداعياتها على صحة الإنسان والحياة الفطرية" في مجلة تقارير علمية(Scientific Reports) في 26 أبريل 2022، حيث قام الباحثون بسبر غور العلاقة بين الميكروبلاستيك والجراثيم والكائنات المعدية الملوثة لمياه السواحل، مثل العلاقة بين ثلاثة أنواع من الطفيليات(zoonotic protozoan parasites) المسببة للأمراض والتسمم للإنسان عند استهلاك محار ملوث بها. فقد أثبتت الدراسة بأن هذه المخلفات تلتصق، أو تمتص فوق سطحها الملوثات الحيوية، سواء أكانت طحالب، أو طفيليات، أو بكتيريا، إضافة إلى الملوثات الكيميائية، فتنتقل كل هذه الملوثات الحيوية والكيميائية من مكان إلى آخر، وقد تنتقل إلى جسم الكائنات البحرية وإلى الإنسان في نهاية المطاف، أو قد تتحرك إلى بيئات نائية وبعيدة فتؤثر على الحياة الفطرية هناك. وأخيراً هناك الدراسة المنشورة في مجلة "أبحاث البيئة" في أغسطس 2021 تحت عنوان: "وجود الفيروسات التنفسية على البلاستيك في التربة، والمياه العذبة، والبيئة البحرية".

 

وكل هذه الأبحاث توصلت إلى استنتاجات شبه متطابقة يمكن تلخيصها في النقاط التالية:

أولاً: تأثيرات المخلفات البلاستيكية تخطت البعد البيئي إلى البعد الصحي وتهديد الأمن الصحي للبشر والحياة الفطرية على حدٍ سواء.

ثانياً: وجود المخلفات البلاستيكية بكل أحجامها تُعد بيئة مثالية وخصبة لنمو وتكاثر كافة الأنواع الحيوية النباتية والحيوانية والكائنات الدقيقة المجهرية.

ثالثاً: أسطح المخلفات الميكروبلاستيكية التي لا ترى بالعين المجردة تعتبر مستعمرات حيوية تلتصق عليها الكائنات الدقيقة المسببة للأمراض المعدية وغير المعدية للإنسان، من فيروسات، وبكتيريا، وطفيليات وغيرها.

رابعاً: هذه المخلفات البلاستيكية التي تستعمرها الكائنات الدقيقة لا تبقى ثابتة في مكانها، وإنما هي كالسفينة الحيوية التي تقدم مواصلات مجانية والتي تتحرك بسرعة وتنتقل إلى بيئات بعيدة ونائية عن الأنشطة البشرية فتهدد سلامة الكائنات الفطرية النادرة والمهددة بالانقراض. فمن المعروف أن المادة البلاستيكية لا تتحلل، أي أنها ستظل مستقرة وثابتة في البيئة فترة طويلة من الزمن، فتتراكم على ظهرها الكائنات الدقيقة المسببة للأمراض البشرية، ما يعني مستقبلاً بأن المخلفات البلاستيكية ستكون مصدراً للأوبئة التي ستنزل على البشر.

 

الخميس، 11 أغسطس 2022

ماذا حدث للصحة العقلية للشعب الأمريكي؟


من خلال متابعاتي اليومية لوسائل الإعلامية الأمريكية منذ سنوات، وبالتحديد الصحف والمجلات القومية واسعة الانتشار في المجتمع الأمريكي، وجدتُ أمراً غريباً بعض الشيء، فقد امتلأتْ هذه الصحف والمجلات وتشبعت بمقالات وتحقيقات ودراسات متعلقة بكافة جوانب الصحة العقلية، أو الأمراض العقلية، وركزت على تفشي ظاهرة الإصابة بأعراض ومؤشرات تدهور الصحة العقلية والذهنية والنفسية للشعب الأمريكي.

 

ولا شك بأن أية قضية تصل إلى وسائل الإعلام الجماهيرية فتقوم بتغطيتها وتناولها وسبر غورها، فهذا يؤكد بأن هذه القضية حيوية وخطيرة تمس واقع المجتمع، كما تشير إلى أنها ظاهرة عامة قد تفشت منذ سنوات في كافة شرايين الشعب، وفاحت رائحتها وانتشرت وتغلغلت في أعماق المجتمع حتى قامت وسائل الإعلام بالكتابة عنها والتعرف على دقائقها وتفصيلاتها.

 

فماذا حدث لعقل الشعب الأمريكي، وما الذي طرأ على الصحة العقلية والنفسية لسكان أمريكا حتى تحظى باهتمام ورعاية وسائل الإعلام الشعبية؟

 

فهذا الاهتمام للصحة العقلية للشعب الأمريكي من وسائل الإعلام لم يأت من باب الترف الفكري، أو من باب تقديم المعلومات الثقافية العامة وملء صفحات الجرائد والمجلات، وإنما فرض هذا الاهتمام نفسه لأنها قضية واقعية تهدد حياة شعب برمته، ولأنها قضية تجذرت وتفاقمت تداعياتها منذ عشرات السنين في أعماق الشعب بأكمله من أطفاله، وشبابه، وشيوخه، فالجميع يعاني من إحدى صور ومظاهر هذا الخلل في الصحة العقلية، سواء من الناحية العاطفية، أو السلوكية، أو الاجتماعية، أو من شدة القلق والاكتئاب، والميل نحو الانتحار.

 

وهناك عدة مؤشرات سطحية واضحة تثبت تأصل هذه القضية الصحية العقلية في المجتمع الأمريكي، علاوة على الإحصاءات والتقارير الحكومية الرسمية والدراسات والأبحاث الميدانية المستقلة.

 

فأول هذه المؤشرات هو وجود الخط الساخن، أو خط الحياة الذي يعمل على مدار الساعة للحالات المتعلقة بأزمة الصحة العقلية على مستوى الولايات المتحدة الأمريكية، وهذا الخط تطور من حيث مهماته والحالات التي يستقبلها ويعالجها. فكانت الانطلاقة الأولى لهذا الخط الهاتفي الساخن في عام 2005 حيث كان مخصصاً لحالة عقلية ونفسية واحدة فقط هي التفكير والميل إلى الانتحار، ولكن مع تفاقم أزمة الصحة العقلية عند الشعب الأمريكي، وزيادة مد أعراض الأمراض العقلية التي يعاني منها كل سنة، وقع الرئيس السابق دونالد ترامب في أكتوبر 2020 على قانون لإنشاء خط ساخن عام على غرار الخط الساخن لحالات الطوارئ العامة وهو 911، بحيث تتجاوز حدود هذا الخط الانتحار فقط، لتشمل الحالات الطارئة لكل صور ومظاهر وأعراض الأمراض العقلية والمتعلقة بالصحة العقلية، وهذا الخط سهل جداً يمكن الوصول إليه بسرعة ويسر شديدين ومكون من ثلاثة أرقام هي 988. ولكن هذا الخط لم ير النور، ولم يُفعَّل استخدامه إلا في عهد بايدن، حيث تم تدشينه في 16 يوليو 2022 وتخصيص ميزانية كبيرة لتشغيله بلغت 432 مليون دولار. فتدشين هذا الخط الساخن وتحديد هذه الميزانية الضخمة يثبت في حد ذاته وجود أزمة متفاقمة ومتجذرة منذ سنوات طويلة في قلب الشعب الأمريكي لمواجهة حالات تدهور الصحة العقلية لهذا الشعب المريض نفسياً وعقلياً.

 

وأما المؤشرات الأخرى على فساد الصحة العقلية لعموم الشعب الأمريكي فهي مستخلصة من التقارير الحكومية الرسمية والدراسات والأبحاث العلمية الميدانية، بحيث إن هناك منظمات ومؤسسات حكومية وغير حكومية تتابع وتراقب عن كثب وبمنهجية علمية موضوعية التغيرات في أنماط الصحة العقلية للشعب منذ أكثر من عشر سنوات، وتنشر تقارير دورية عن حالة الصحة العقلية للشعب الأمريكي، منها جمعية غير حكومية تهدف إلى رعاية ومواجهة أمراض الصحة العقلية هي "الصحة العقلية الأمريكية"، (Mental Health America)، حيث تنشر تقارير سنوية تحت عنوان: "حالة الصحة العقلية في أمريكا"(The State of the Mental Health in America)، وكان آخر تقرير لها هو التقرير الثامن، وعنوانه: "تقرير حالة الصحة العقلية في أمريكا 2022"، والمنشور في 19 أكتوبر 2021. كذلك هناك التقارير الدورية التي تنشرها "مراكز التحكم في المرض ومنعه"، ومنها المنشور في 31 مارس 2022 حول انتشار ظاهرة تدهور الصحة العقلية بين طلاب المدارس الثانوية، وبخاصة أثناء وباء كورونا.

 

ومن خلال اطلاعي على هذه التقارير، أُقدم لكم أهم الاستنتاجات العامة التي توصلتْ إليها حتى الآن، كما يلي:

أولاً: النمط العام للصحة العقلية هو تدهورها مع الوقت ومع كل سنة منذ عام 2012، حيث تحولت إلى حالة مزمنة ووباء صحي عام، ففي كل سنة تكون الحالة أشد وأسوأ من السنوات الأخرى، وبخاصة بعد وقوع كارثة الوباء الصحي كورونا. فقد حذَّر الجراح الأمريكي العام(Vivek H. Murthy) في التقرير المنشور في السابع من ديسمبر 2021 من استمرار وقوع الشباب في أزمة فساد صحتهم العقلية، وتفاقمها أثناء الوباء، ووصف هذه الحالة بأنها "أزمة مدمرة"، كما وصف المختصون أيضاً بأنها "الوباء الثاني". وفي أكتوبر 2021 أعلنت عدة جمعيات ومؤسسات مهنية غير حكومية حالة "الطوارئ القومية للصحة العقلية للشباب"، منها "الأكاديمية الأمريكية للأطفال"، و"الأكاديمية الأمريكية للصحة النفسية للأطفال والشباب"، و"جمعية مستشفيات الأطفال".

 

ثانياً: حسب المعلومات المنشورة في عام 2020 فهناك مواطن أمريكي من بين خمسة يعاني ويعيش مع الأعراض المختلفة المتعلقة بالصحة العقلية، أي نحو 52.9 مليون مواطن أمريكي، وهذا يمثل قرابة 20% من سكان أمريكا. وهذا المرض العقلي الذي أصاب الشعب الأمريكي يوقع خسائر اقتصادية تقدر بنحو 193 بليون دولار سنوياً.

ثالثاً: الإناث أكثر عرضة من الذكور في الوقوع في شباك تدهور الصحة العقلية، حيث كانت النسبة في عام 2020 (25.8%) مقارنة بنسبة (15.8%) للذكور، كما أن صغار السن من الشباب هم الأكثر إصابة، حيث بلغت النسبة (30.6%) لمن تتراوح أعمارهم بين 18 إلى 25، مقارنة بنسبة (25.3%) للأعمار من 26 إلى 49، ونسبة (14.5%) للذين تزيد أعمارهم عن الخمسين عاماً.

رابعاً: أما عن نسبة الانتحار كأحد مؤشرات تدهور الصحة العقلية بين الشعب الأمريكي، فقد نشر "المركز القومي للإحصائيات الصحية"( National Center for Health Statistics) و"النظام القومي للإحصائيات الحيوية"(National Vital Statistics System) في مارس 2022 تقريراً تحت عنوان "الانتحار في الولايات المتحدة في الفترة 2000 إلى 2020". وجاء فيه أن نسبة الانتحار زادت في الفترة من عام 2000 إلى 2018، ثم في عام 2018 انخفضت قليلاً من 14.2 لكل مائة ألف إلى 13.5 في عام 2020، فالزيادة العامة من 2000 إلى 2020 هي 30%. فالانتحار كان في المرتبة رقم (12) لسبب الوفيات في عام 2020  لجميع الأعمار، فكل 11 دقيقة يموت مواطن أمريكي بسبب الانتحار، علماً بأنه كان في المرتبة العاشرة في عام 2019. ولكن الانتحار هو السبب الثاني للوفيات للذين تتراوح أعمارهم بين عشر سنوات و 34، وفي المرتبة الخامسة لمن تتراوح أعمارهم من 35 إلى 54. وأما بالنسبة للانتحار بين صفوف الجيش الأمريكي فهو في حالة وباء مستمرة منذ سنوات، ولمزيد من المعلومات يمكن الرجوع إلى مقالي المنشور في أخبار الخليج في 12 يونيو 2022 تحت عنوان: "ظاهرة الانتحار بين الجنود الأمريكيين".

 

فالصحة العقلية التي هي جزء من صحة الإنسان العامة، تُعد من المشكلات الصحية المعقدة جداً والمتشابكة مع عوامل اجتماعية، واقتصادية، وبيئية، فهناك الكثير من العوامل التي تسهم في تدهور الصحة العقلية، منها العوامل الحيوية البيولوجية الطبيعية كالجينات وتعقيدات المخ، ومنها خبرات الإنسان الحياتية والمشكلات التي مرَّ بها وتعرض لها، إضافة إلى التاريخ الأسري حول مشكلات الصحة العقلية. ومن العوامل المؤثرة على الصحة العقلية سلباً أو ايجاباً، وبخاصة في المجتمعات الرأسمالية المادية البحتة، كأمريكا هو الجانب الروحاني والديني في المجتمع بشكلٍ عام، وفي الأسرة والفرد بشكلٍ خاص. وهناك الكثير من الدراسات التي أوجدتْ العلاقة بين الصحة العقلية والروحانيات التي يتمتع ويؤمن بها الفرد، حيث إنها كلما زاد تدين الفرد انخفضت عنده نسبة الإصابة بأمراض الصحة العقلية، مثل الدراسة المنشورة في 22 نوفمبر 2018 في مجلة "تقارير علمية" تحت عنوان: "العلاقة بين الروحانيات والدين والصحة العقلية"، حيث أُجريت الدراسة على 1252 من البالغين البرازيليين، وأشارت إلى أن الروحانيات والتدين تخفض من مستوى القلق والاكتئاب عند الفرد وتجعله أكثر سعادة، أي تعزز من سلامة الصحة العقلية.

 

فوباء الصحة العقلية الذي نزل على الشعب الأمريكي واقع ومحسوس، فكيف ستعالج هذه الدول العظيمة هذه الأزمة الصحية العقيمة؟

 

الأربعاء، 3 أغسطس 2022

العنصرية البيئية تحيا من جديد

 

ظاهرة بيئية صحية وحقوقية موجودة في معظم دول العالم، ولكن هذه الظاهرة تتضح وتنكشف معالمها وتفاصيلها أمام الناس بصورة أشد وأكبر في الدول الديمقراطية العريقة التي تتمتع بقدرٍ كبير من الحرية في الرأي، والشفافية في التعبير وإجراء الدراسات والبحوث، فكلما ارتفع سقف الحرية، وزاد مستوى الانفتاح والسماح للتحقيق في قضايا المجتمع بجميع جوانبها، انكشفت هذه الظاهرة فوق السطح وبلغت كافة قطاعات وفئات المجتمع.

 

فهذه الظاهرة التي تُعرف بسميات متعددة هي العدالة البيئية، أو العنصرية البيئية، أو ظاهرة حقوق الإنسان البيئية، تمت إزالة النقاب عنها وتحولت إلى قضية رأي عام في المجتمع منذ مطلع الثمانينيات من القرن المنصرم، وبالتحديد في الولايات المتحدة الأمريكية. ولعل من أهم الحوادث التي أشعلت فتيل هذه الأزمة البيئية الحقوقية على المستوى الشعبي والإعلامي الأمريكي هي تلك التي وقعت في 1982 في مقاطعة وارن(Warren County) بولاية نورث كارولاينا، حيث احتج الآلاف من السود والفقراء المستضعفين في هذه المدينة بسبب اختيار حاكم الولاية لمنطقة "وارن" لدفن المخلفات الخطرة، وهذه المنطقة تسكنها الأقليات من السود وغيرهم من البسطاء وغير المتعلمين ومن لا نفوذ لهم من الناحيتين السياسية والاقتصادية. وهذه الحادثة نفسها فتحت الباب أمام العلماء والمختصين للدخول فيها بعمق، ومنهجية، وموضوعية لسبر أغوارها والتعرف عليها عن كثب، ومعرفة مدى واقعيتها ليست على مستوى مدينة واحدة، أو ولاية، وإنما على المستوى الاتحادي، إضافة إلى معرفة ما إذا كانت هذه الظاهرة فردية وعشوائية وقعت في مدينة واحدة فقط، أم أنها ممنهجة وعامة وموجودة في الكثير من الولايات.

 

ومن أولى الدراسات العلمية الشاملة التي حققت في هذه القضية على المستوى الاتحادي كانت من "هيئة العدالة العنصرية"، ونشرت التقرير في عام 1987 تحت عنوان:" المخلفات السامة والعنصرية في الولايات المتحدة: دراسة قومية حول الخصائص الاجتماعية والاقتصادية والعنصرية للمجتمعات التي بها مواقع للمخلفات الخطرة"، حيث كشف التقرير عن الخصائص الاجتماعية والاقتصادية والعنصرية لمواقع المخلفات الخطرة في الولايات المتحدة، وأكد على إن اختيار المواقع كان على أساس عنصري متعمد، ومعظمها كانت في مناطق الفقراء من السود والهنود الحمر وغيرهم ممن يجهلون حقوقهم المدنية البيئية، وليس لديهم من يدافع عنهم.

 

ومع مرور الوقت وزيادة أعداد الدراسات والتقارير الموثقة الحكومية وغير الحكومية حول علاقة اختيار مواقع دفن المخلفات والمناطق الصناعية بالعنصرية والفقر وتدني المستوى التعليمي وضعف النفوذ السياسي للسكان في هذه المناطق، ارتفعت وتيرة الضغوط الشعبية الجماهيرية على الحكومة الأمريكية، مما أجبرتها إلى إنشاء إدارة خاصة ضمن وكالة حماية البيئة هي مكتب العدالة البيئية، التي تُعنى بجميع الأمور المتعلقة بالتمييز البيئي بين المواطنين على أساس الجنس واللون والحالة الاجتماعية. كما قام الرئيس الأمريكي الأسبق بل كلنتون في 11 فبراير 1994 بإصدار أمر تنفيذي رقم (12898) إلى جميع الإدارات والهيئات الاتحادية لتوجيه اهتمامهم إلى ممارسة العدالة البيئية في مجتمعات الأقليات والمجتمعات الفقيرة، وتمخض عنه بعد أكثر من سنة وضع "استراتيجية العدالة البيئة" لكي تحدد السياسات العامة المراد تطبيقها في جميع الولايات.

 

وبالرغم من هذه الجهود التي بذلتها الحكومة الأمريكية قبل أكثر من عشرين عاماً، إلا أن القضية لم تنته بعد، فهي مازالت ساخنة ومتجذرة في أعماق المجتمع، ومازالت قائمة ومتفشية تنبض بالحياة ويعاني منها الملايين من الفقراء والمستضعفين والأقليات في المجتمع الأمريكي، فلم تنجح أمريكا في استئصال هذه العنصرية البيئية من جذورها، ولم تفلح في القضاء كلياً على التمييز بين الناس من الناحية البيئية على أساس العرق، والدخل، والمستوى العلمي، فلم تحقق أمريكا في نهاية المطاف العدالة البيئية بين كافة فئات وشرائح المستوى الأمريكي.

 

فها هي العنصرية البيئية تحيا بقوة من جديد، وها هي قضية عامة متعلقة بالعدالة البيئية تطفو فوق السطح في رابع أكبر مدينة في الولايات المتحدة الأمريكية، وهي مدنية النفط، مدينة هيوستن بولاية تكساس. فقد نَشَر "مكتب العلاقات العامة" في وزارة العدل في 22 يوليو 2022 مذكرة تحت عنوان: "وزارة العدل تُدشن تحقيقاً في العدالة البيئية في مدينة هيوستن بتكساس". وقد جاء في المذكرة بأن مكتب المدعي العام وقسم الحقوق المدنية فتحا ملفاً خاصاً للتحقيق في شكاوى وادعاءات أحد الأحياء الفقيرة من السود واللاتينو في هيوستن، والمتمثلة في أن منطقتهم تحولت إلى مكبٍ عام وبشكل عشوائي وغير شرعي لكافة أنواع المخلفات الخطرة وغير الخطرة دون أن تقوم المدينة باتخاذ إجراءات صارمة ضد هذه الممارسات البيئية العنصرية. وهذه الشكاوى من السكان مبنية على عدة تقارير ميدانية منها المنشور من "خدمات الدفاع عن العدالة البيئية في تكساس" و"إتحاد العلماء المهتمين"(Union of Concerned Scientists)( Texas Environmental Justice Advocacy Services) في 27 أكتوبر 2016 تحت عنوان: "الخطر المزدوج في هيوستن: يشكل التعرض الحاد والمزمن للمواد الكيميائية مخاطر غير متناسبة على المجتمعات المهمشة".

 

وبنظرة معمقة إلى انكشاف وتجذر ظاهرة العنصرية البيئية في المجتمعات البشرية، أَجدْ بأن السبب الرئيس يكمن في سوء تخطيط أراضي المدن وتصنيفها. فالولايات المتحدة الأمريكية، على سبيل المثال قامت منذ الثلاثينيات من القرن المنصرم بتصنيف الأراضي على أساس عنصري وعرقي ولون وخلفية معظم السكان في تلك المنطقة من المدينة، إضافة إلى دخلهم السنوي ومستوى تعليمهم ونفوذهم السياسي والاجتماعي. وتألف هذا التصنيف من أربعة أقسام، الأول هو الدرجة "أ"(Grade A) وأُعطي اللون الأخضر، ويُعد الأفضل من الناحية الاستثمارية والأقل خطورة وتدهوراً من الناحية البيئية والإسكانية والأمنية، حيث يسكن المنطقة البيض وذوي السلطة والمال والنفوذ، وثانياً  الدرجة "باء"(B)، أو اللون الأزرق، ورابعاً هي المنطقة الأسوأ والأخطر من ناحية الأمن والسلامة ونوعية البيئة والسكان الذين يكونون عادة من السود والأقليات الأخرى الفقيرة وغير المتعلمة، وأُعطيت الدرجة "دال" (D)، أو لون الأحمر الخطر. ومثل هذه التصنيفات العنصرية تحولت إلى واقع تنفيذي موروث، فأسعار الأراضي في المنطقة الخضراء ذات السمعة الطيبة ارتفعت، ولذلك ابتعدت عنها المصانع بجميع أنواعها وأحجامها، فلم يجرؤ أحد على تحويل أي موقع أو عقار في هذه المنطقة إلى دفن المخلفات، أو تأسيس أية منشأة تضر بصحة البيئة وتؤثر على سلامة الإنسان، ولذلك فجميع هذه المنشآت الخطرة التي تُدهور الأمن الصحي والبيئي للإنسان، إضافة إلى خطوط القطارات والسيارات السريعة المزعجة، انتقلت وأخذت من المنطقة الحمراء الرخيصة الثمن مقراً لها ولأنشطتها وعملياتها الملوثة للبيئة. كما أن هذه المنطقة الحمراء لم تحظ بسكان يُدركون خطورة هذه المصانع، ولم تكن لهم السلطة، أو النفوذ، أو المال لمعارضة استيطان هذه المنشآت في مناطقهم. وهناك عدة دراسات أكدت هذه النظرية منها المنشورة في التاسع من مارس 2022 في مجلة "رسائل علوم وتقنية البيئة"، تحت عنوان: "العلاقة التاريخية بين تصنيف الأراضي في المدن الأمريكية وتلوث الهواء".

 

فهذه الظاهرة الجديدة نسبياً، وبخاصة في مجتمعات الدول النامية، كوَّنت عدم المساواة وحالة من التفرقة البيئية بين الشعب الواحد، وشكلت تمييزاً بين المواطنين من عدة أوجه بيئية وصحية. أما الوجه الأول فهو وجود المنشآت شديدة التلوث والخطرة في مناطق الفقراء، والوجه الثاني هو تعرض الفقراء للتلوث أكثر من المواطنين الآخرين من ذوي النفوذ والثراء، وأخيراً ونتيجة لذلك فإن الفقراء أصبحوا أكثر عرضة من غيرهم للإصابة بالأمراض الناجمة عن التلوث.

 

ولعلاج هذه الظاهرة واستئصالها من مجتمعاتنا لا بد من إدماج البعد البيئي ضمن حقوق الإنسان المدنية الرئيسة، كالحق في التعليم، والرعاية الصحية، والتعبير عن الرأي، وغيرها، حتى يعيش جميع المواطنين في البلد الواحد سواسية في بيئة سليمة وصحية، ويتمتعون بهواء نقي، وماء عذب فرات، وتربة صالحة وصافية، كما أتمنى في الوقت نفسه أن يعيش جميع سكان الأرض، الفقراء والأغنياء معاً في بيئات صحية مستدامة.