الأربعاء، 3 أغسطس 2022

العنصرية البيئية تحيا من جديد

 

ظاهرة بيئية صحية وحقوقية موجودة في معظم دول العالم، ولكن هذه الظاهرة تتضح وتنكشف معالمها وتفاصيلها أمام الناس بصورة أشد وأكبر في الدول الديمقراطية العريقة التي تتمتع بقدرٍ كبير من الحرية في الرأي، والشفافية في التعبير وإجراء الدراسات والبحوث، فكلما ارتفع سقف الحرية، وزاد مستوى الانفتاح والسماح للتحقيق في قضايا المجتمع بجميع جوانبها، انكشفت هذه الظاهرة فوق السطح وبلغت كافة قطاعات وفئات المجتمع.

 

فهذه الظاهرة التي تُعرف بسميات متعددة هي العدالة البيئية، أو العنصرية البيئية، أو ظاهرة حقوق الإنسان البيئية، تمت إزالة النقاب عنها وتحولت إلى قضية رأي عام في المجتمع منذ مطلع الثمانينيات من القرن المنصرم، وبالتحديد في الولايات المتحدة الأمريكية. ولعل من أهم الحوادث التي أشعلت فتيل هذه الأزمة البيئية الحقوقية على المستوى الشعبي والإعلامي الأمريكي هي تلك التي وقعت في 1982 في مقاطعة وارن(Warren County) بولاية نورث كارولاينا، حيث احتج الآلاف من السود والفقراء المستضعفين في هذه المدينة بسبب اختيار حاكم الولاية لمنطقة "وارن" لدفن المخلفات الخطرة، وهذه المنطقة تسكنها الأقليات من السود وغيرهم من البسطاء وغير المتعلمين ومن لا نفوذ لهم من الناحيتين السياسية والاقتصادية. وهذه الحادثة نفسها فتحت الباب أمام العلماء والمختصين للدخول فيها بعمق، ومنهجية، وموضوعية لسبر أغوارها والتعرف عليها عن كثب، ومعرفة مدى واقعيتها ليست على مستوى مدينة واحدة، أو ولاية، وإنما على المستوى الاتحادي، إضافة إلى معرفة ما إذا كانت هذه الظاهرة فردية وعشوائية وقعت في مدينة واحدة فقط، أم أنها ممنهجة وعامة وموجودة في الكثير من الولايات.

 

ومن أولى الدراسات العلمية الشاملة التي حققت في هذه القضية على المستوى الاتحادي كانت من "هيئة العدالة العنصرية"، ونشرت التقرير في عام 1987 تحت عنوان:" المخلفات السامة والعنصرية في الولايات المتحدة: دراسة قومية حول الخصائص الاجتماعية والاقتصادية والعنصرية للمجتمعات التي بها مواقع للمخلفات الخطرة"، حيث كشف التقرير عن الخصائص الاجتماعية والاقتصادية والعنصرية لمواقع المخلفات الخطرة في الولايات المتحدة، وأكد على إن اختيار المواقع كان على أساس عنصري متعمد، ومعظمها كانت في مناطق الفقراء من السود والهنود الحمر وغيرهم ممن يجهلون حقوقهم المدنية البيئية، وليس لديهم من يدافع عنهم.

 

ومع مرور الوقت وزيادة أعداد الدراسات والتقارير الموثقة الحكومية وغير الحكومية حول علاقة اختيار مواقع دفن المخلفات والمناطق الصناعية بالعنصرية والفقر وتدني المستوى التعليمي وضعف النفوذ السياسي للسكان في هذه المناطق، ارتفعت وتيرة الضغوط الشعبية الجماهيرية على الحكومة الأمريكية، مما أجبرتها إلى إنشاء إدارة خاصة ضمن وكالة حماية البيئة هي مكتب العدالة البيئية، التي تُعنى بجميع الأمور المتعلقة بالتمييز البيئي بين المواطنين على أساس الجنس واللون والحالة الاجتماعية. كما قام الرئيس الأمريكي الأسبق بل كلنتون في 11 فبراير 1994 بإصدار أمر تنفيذي رقم (12898) إلى جميع الإدارات والهيئات الاتحادية لتوجيه اهتمامهم إلى ممارسة العدالة البيئية في مجتمعات الأقليات والمجتمعات الفقيرة، وتمخض عنه بعد أكثر من سنة وضع "استراتيجية العدالة البيئة" لكي تحدد السياسات العامة المراد تطبيقها في جميع الولايات.

 

وبالرغم من هذه الجهود التي بذلتها الحكومة الأمريكية قبل أكثر من عشرين عاماً، إلا أن القضية لم تنته بعد، فهي مازالت ساخنة ومتجذرة في أعماق المجتمع، ومازالت قائمة ومتفشية تنبض بالحياة ويعاني منها الملايين من الفقراء والمستضعفين والأقليات في المجتمع الأمريكي، فلم تنجح أمريكا في استئصال هذه العنصرية البيئية من جذورها، ولم تفلح في القضاء كلياً على التمييز بين الناس من الناحية البيئية على أساس العرق، والدخل، والمستوى العلمي، فلم تحقق أمريكا في نهاية المطاف العدالة البيئية بين كافة فئات وشرائح المستوى الأمريكي.

 

فها هي العنصرية البيئية تحيا بقوة من جديد، وها هي قضية عامة متعلقة بالعدالة البيئية تطفو فوق السطح في رابع أكبر مدينة في الولايات المتحدة الأمريكية، وهي مدنية النفط، مدينة هيوستن بولاية تكساس. فقد نَشَر "مكتب العلاقات العامة" في وزارة العدل في 22 يوليو 2022 مذكرة تحت عنوان: "وزارة العدل تُدشن تحقيقاً في العدالة البيئية في مدينة هيوستن بتكساس". وقد جاء في المذكرة بأن مكتب المدعي العام وقسم الحقوق المدنية فتحا ملفاً خاصاً للتحقيق في شكاوى وادعاءات أحد الأحياء الفقيرة من السود واللاتينو في هيوستن، والمتمثلة في أن منطقتهم تحولت إلى مكبٍ عام وبشكل عشوائي وغير شرعي لكافة أنواع المخلفات الخطرة وغير الخطرة دون أن تقوم المدينة باتخاذ إجراءات صارمة ضد هذه الممارسات البيئية العنصرية. وهذه الشكاوى من السكان مبنية على عدة تقارير ميدانية منها المنشور من "خدمات الدفاع عن العدالة البيئية في تكساس" و"إتحاد العلماء المهتمين"(Union of Concerned Scientists)( Texas Environmental Justice Advocacy Services) في 27 أكتوبر 2016 تحت عنوان: "الخطر المزدوج في هيوستن: يشكل التعرض الحاد والمزمن للمواد الكيميائية مخاطر غير متناسبة على المجتمعات المهمشة".

 

وبنظرة معمقة إلى انكشاف وتجذر ظاهرة العنصرية البيئية في المجتمعات البشرية، أَجدْ بأن السبب الرئيس يكمن في سوء تخطيط أراضي المدن وتصنيفها. فالولايات المتحدة الأمريكية، على سبيل المثال قامت منذ الثلاثينيات من القرن المنصرم بتصنيف الأراضي على أساس عنصري وعرقي ولون وخلفية معظم السكان في تلك المنطقة من المدينة، إضافة إلى دخلهم السنوي ومستوى تعليمهم ونفوذهم السياسي والاجتماعي. وتألف هذا التصنيف من أربعة أقسام، الأول هو الدرجة "أ"(Grade A) وأُعطي اللون الأخضر، ويُعد الأفضل من الناحية الاستثمارية والأقل خطورة وتدهوراً من الناحية البيئية والإسكانية والأمنية، حيث يسكن المنطقة البيض وذوي السلطة والمال والنفوذ، وثانياً  الدرجة "باء"(B)، أو اللون الأزرق، ورابعاً هي المنطقة الأسوأ والأخطر من ناحية الأمن والسلامة ونوعية البيئة والسكان الذين يكونون عادة من السود والأقليات الأخرى الفقيرة وغير المتعلمة، وأُعطيت الدرجة "دال" (D)، أو لون الأحمر الخطر. ومثل هذه التصنيفات العنصرية تحولت إلى واقع تنفيذي موروث، فأسعار الأراضي في المنطقة الخضراء ذات السمعة الطيبة ارتفعت، ولذلك ابتعدت عنها المصانع بجميع أنواعها وأحجامها، فلم يجرؤ أحد على تحويل أي موقع أو عقار في هذه المنطقة إلى دفن المخلفات، أو تأسيس أية منشأة تضر بصحة البيئة وتؤثر على سلامة الإنسان، ولذلك فجميع هذه المنشآت الخطرة التي تُدهور الأمن الصحي والبيئي للإنسان، إضافة إلى خطوط القطارات والسيارات السريعة المزعجة، انتقلت وأخذت من المنطقة الحمراء الرخيصة الثمن مقراً لها ولأنشطتها وعملياتها الملوثة للبيئة. كما أن هذه المنطقة الحمراء لم تحظ بسكان يُدركون خطورة هذه المصانع، ولم تكن لهم السلطة، أو النفوذ، أو المال لمعارضة استيطان هذه المنشآت في مناطقهم. وهناك عدة دراسات أكدت هذه النظرية منها المنشورة في التاسع من مارس 2022 في مجلة "رسائل علوم وتقنية البيئة"، تحت عنوان: "العلاقة التاريخية بين تصنيف الأراضي في المدن الأمريكية وتلوث الهواء".

 

فهذه الظاهرة الجديدة نسبياً، وبخاصة في مجتمعات الدول النامية، كوَّنت عدم المساواة وحالة من التفرقة البيئية بين الشعب الواحد، وشكلت تمييزاً بين المواطنين من عدة أوجه بيئية وصحية. أما الوجه الأول فهو وجود المنشآت شديدة التلوث والخطرة في مناطق الفقراء، والوجه الثاني هو تعرض الفقراء للتلوث أكثر من المواطنين الآخرين من ذوي النفوذ والثراء، وأخيراً ونتيجة لذلك فإن الفقراء أصبحوا أكثر عرضة من غيرهم للإصابة بالأمراض الناجمة عن التلوث.

 

ولعلاج هذه الظاهرة واستئصالها من مجتمعاتنا لا بد من إدماج البعد البيئي ضمن حقوق الإنسان المدنية الرئيسة، كالحق في التعليم، والرعاية الصحية، والتعبير عن الرأي، وغيرها، حتى يعيش جميع المواطنين في البلد الواحد سواسية في بيئة سليمة وصحية، ويتمتعون بهواء نقي، وماء عذب فرات، وتربة صالحة وصافية، كما أتمنى في الوقت نفسه أن يعيش جميع سكان الأرض، الفقراء والأغنياء معاً في بيئات صحية مستدامة. 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق