الاثنين، 15 أغسطس 2022

المخلفات البلاستيكية تنشر الأمراض للإنسان

 

في تقديري هناك نوعان من الظواهر الطبيعية والصناعية أي التي من صُنع أيدينا، فالأول هو الظواهر المحسوسة والتي يمكن معرفة وجودها بحواسنا الخمس، فيمكن مشاهدتها أمامنا والتعرف على تفاصيلها بأعيننا، أو بما أنعم الله علينا من قدرات ذاتية أخرى، وفي المقابل هناك الظواهر التي لا يمكننا إثبات وجودها بيننا إلا بالاستعانة بالأجهزة والمعدات الحديثة والدراسات المخبرية والميدانية التي تكتشف وتقدم لنا كافة التفاصيل المتعلقة بها.

ومن الأمثلة التي أستطيع أن أضربها لكم عن الظواهر الصناعية غير المرئية وغير المحسوسة التي نشأت بسبب أنشطتنا وبرامجنا التنموية، والتي تُعد من الأمثلة المستجدة ومن الاكتشافات الحديثة جداً، هي مصير المخلفات البلاستيكية بعد دخولها في بيئتنا، وبالتحديد في المسطحات المائية، ودورها في نقل الكائنات الدقيقة من الميكروبات والجراثيم بكل أنواعها من خلال التصاقها وامتصاصها على سطحها، وتحول سطح هذه المخلفات مع الوقت إلى بيئة ومستعمرة صالحة وجذابة جداً لتكاثر ونمو هذا الكائنات المجهرية على ظهرها، ثم انتقالها إلى بيئاتٍ أخرى وإلى مسافات بعيدة جداً عن مصدرها، وربما إلى أجسام الكائنات الفطرية الحيوانية، وأخيراً إلى جسم الإنسان مع مرور الزمن.

ومن أخطر أنواع المخلفات البلاستيكية وأكثرها تهديداً لصحة الكائنات الحية وسلامة الإنسان هي الجسيمات البلاستيكية الصغيرة الحجم التي لا يمكن أن نتحسسها بحواسنا، فبعضها لا يُرى بالعين المجردة، ويُطلق عليها الميكروبلاستيك، أو الأصغر حجماً وهي النانوبلاستيك. وهذه الجسيمات البلاستيكية الدقيقة هي التي تحولت الآن إلى ظاهرة غير مرئية خطيرة، وأصبحت وسيلة وبيئة خصبة لتكاثر البكتيريا، والفيروسات، والطفيليات، وتحولت إلى آلة أو سفينة تتحرك عليها هذه الكائنات المسببة للأمراض، فتنتقل معها من منطقة إلى أخرى، ومن كائن حي إلى كائنٍ حي آخر. 

ولكي أُبسط لكم هذه الظاهرة، وأُقربُ لكم هذه الصورة الحية التي تحدث في بيئتنا، وأُبين لكم هذا المشهد الواقعي غير المرئي، أَنْقلكم من عالم "الميكرو"، أو العالم الصغير، إلى عالم "الماكرو"، أو العالم الكبير المرئي والمشهود للجميع. فقُم بتجربة بسيطة جداً في منزلك، وهي أخذ ورقة عريضة لأي نبات، أو قطعة بلاستيكية رقيقة كبيرة الحجم، ثم ضع هذه الورقة أو القطعة في بركة السباحة، أو اجعلها تطفو في حوض ماءٍ صغير خارج البيت، ثم اترك هذه الورقة لعدة أيام وراقبها كل يوم، فستجد أمامك جيشاً من الحشرات والكائنات الحية الأخرى التي التصقت بالورقة، أو جلست فوق سطحها. فهذا نموذج ومثال كبير ومشهود بالعين المجردة لما يحصل بالفعل بالنسبة للكائنات الدقيقة المجهرية كالبكتيريا والفيروسات، التي أيضاً تلتصق بأي سطح فوق الماء ولكن دون أن نراها، مثل المخلفات الميكروبلاستيكية، فتعيش عليها، وتستعمرها، وتجعلها بيئة خصبة لها تنمو عليها، وتتكاثر عليها فترة من الزمن، وتعتبرها سفينة بحرية تحملها على بطنها، وتنتقل عليها إلى ما يشاء الله.

 

والعلماء بدأوا بدراسة هذه الظاهرة الخفية وإثبات وجودها في الواقع في بيئاتنا المختلفة. فهناك مقال منشور في الأول من أغسطس 2022 في مجلة "هاكاي" (Hakai Magazine) حول تحرك الكائنات المسببة للأمراض للإنسان على أسطح المخلفات البلاستيكية الطافية، حيث قدَّم المقال بعض الدراسات التي تثبت وجود الجراثيم والميكروبات على أسطح المخلفات البلاستيكية، وقدرتها بعد ذلك على الانتقال إلى بيئات مختلفة ومسافات جغرافية بعيدة. كما نُشرت دراسة في مجلة (The Science of the Total Environment)تحت عنوان:"الاستعمار البكتيري للبلاستيك المنزلي في البيئة الساحلية"، إضافة إلى البحث المنشور في مجلة "تلوث البيئة"(Environmental Pollution) في الأول من سبتمبر 2022، حول علاقة التلوث البلاستيكي في المسطحات المائية بتحرك الفيروسات فوقها، حيث قامت الدراسة بفصل فيروسات معدية من مخلفات بلاستيكية استعمرتها هذه الفيروسات، وأطلقت الدراسة عليها الكرة الحيوية البلاستيكية(plastisphere). فهذه المخلفات البلاستيكية تعد بيئات ثرية للكائنات الدقيقة من بكتيريا وفيروسات حيث تنمو وتتكاثر عليها، وتُكَون مجتمع من الفيروسات المعدية على سطحها وقد تبقي حية لقرابة 3 أيام، مما يعزز النظرية بأن المخلفات البلاستيكية المتناهية في الصغر قد تكون أداة لتنقل الفيروسات من منطقة إلى أخرى ووسيلة لبقائها في البيئة ولنموها وإصابتها للإنسان بالعدوى الفيروسية.

 

كذلك تم نشر دراسة تحت عنوان: "الطفيليات والميكروبلاستيك في مياه البحر وتداعياتها على صحة الإنسان والحياة الفطرية" في مجلة تقارير علمية(Scientific Reports) في 26 أبريل 2022، حيث قام الباحثون بسبر غور العلاقة بين الميكروبلاستيك والجراثيم والكائنات المعدية الملوثة لمياه السواحل، مثل العلاقة بين ثلاثة أنواع من الطفيليات(zoonotic protozoan parasites) المسببة للأمراض والتسمم للإنسان عند استهلاك محار ملوث بها. فقد أثبتت الدراسة بأن هذه المخلفات تلتصق، أو تمتص فوق سطحها الملوثات الحيوية، سواء أكانت طحالب، أو طفيليات، أو بكتيريا، إضافة إلى الملوثات الكيميائية، فتنتقل كل هذه الملوثات الحيوية والكيميائية من مكان إلى آخر، وقد تنتقل إلى جسم الكائنات البحرية وإلى الإنسان في نهاية المطاف، أو قد تتحرك إلى بيئات نائية وبعيدة فتؤثر على الحياة الفطرية هناك. وأخيراً هناك الدراسة المنشورة في مجلة "أبحاث البيئة" في أغسطس 2021 تحت عنوان: "وجود الفيروسات التنفسية على البلاستيك في التربة، والمياه العذبة، والبيئة البحرية".

 

وكل هذه الأبحاث توصلت إلى استنتاجات شبه متطابقة يمكن تلخيصها في النقاط التالية:

أولاً: تأثيرات المخلفات البلاستيكية تخطت البعد البيئي إلى البعد الصحي وتهديد الأمن الصحي للبشر والحياة الفطرية على حدٍ سواء.

ثانياً: وجود المخلفات البلاستيكية بكل أحجامها تُعد بيئة مثالية وخصبة لنمو وتكاثر كافة الأنواع الحيوية النباتية والحيوانية والكائنات الدقيقة المجهرية.

ثالثاً: أسطح المخلفات الميكروبلاستيكية التي لا ترى بالعين المجردة تعتبر مستعمرات حيوية تلتصق عليها الكائنات الدقيقة المسببة للأمراض المعدية وغير المعدية للإنسان، من فيروسات، وبكتيريا، وطفيليات وغيرها.

رابعاً: هذه المخلفات البلاستيكية التي تستعمرها الكائنات الدقيقة لا تبقى ثابتة في مكانها، وإنما هي كالسفينة الحيوية التي تقدم مواصلات مجانية والتي تتحرك بسرعة وتنتقل إلى بيئات بعيدة ونائية عن الأنشطة البشرية فتهدد سلامة الكائنات الفطرية النادرة والمهددة بالانقراض. فمن المعروف أن المادة البلاستيكية لا تتحلل، أي أنها ستظل مستقرة وثابتة في البيئة فترة طويلة من الزمن، فتتراكم على ظهرها الكائنات الدقيقة المسببة للأمراض البشرية، ما يعني مستقبلاً بأن المخلفات البلاستيكية ستكون مصدراً للأوبئة التي ستنزل على البشر.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق