الخميس، 18 أغسطس 2022

تحليل قانون التغير المناخي الأمريكي الجديد

 

منذ ثلاثين عاماً، وبالتحديد عند انطلاقة قضية التغير المناخي بشكلٍ رسمي في قمة الأرض في ريو دي جانيرو بالبرازيل عام 1992، والولايات المتحدة تُمسك بدفة سفينة التغير المناخي الدولية، فتارة تأخذها إلى الأمام لتحقيق أهدافها في طريقها الطويل والشاق إلى الوصول إلى بر الأمان، وتارة أخرى تسير بها إلى الخلف سنوات طويلة فتُعرقل مسيرتها وموعد وصولها وبلوغ أهدافها.

 

فالبداية كانت مبشرة بالخير، وانطلاقة المسيرة الماراثونية في عام 1992 كانت مشجعة بقيادة الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الأب عندما وقع على الاتفاقية الإطارية للتغير المناخي مع باقي دول العالم. فكل الأخبار حول التغير المناخي التي كانت تصل من الولايات المتحدة الأمريكية ومن سائر دول العالم تفيد بأن السفينة تبحر في هذا البحر اللجي المتلاطم الأمواج بأمان واطمئنان وبخطوات إيجابية مستقيمة حتى بلغت المحطة الأولى من رحلتها الطويلة، وهي اجتماع كيوتو في اليابان، والذي تمخض عنه بروتوكول كيوتو لعام 1997، حيث تعهدت دول العالم الصناعية المتطورة والمعنية والمسؤولة عن وقوع التغير المناخي واصابة الأرض بالسخونة والحمى المرتفعة بخفض انبعاثاتها من الغازات الملوثة والمتهمة برفع حرارة الأرض.

 

وبعد أن أبحرت سفينة التغير المناخي مرة ثانية للتوجه إلى المحطة الثانية، صادفتها عاصفة هوجاء ورياح قوية غيَّرت جذريا من وجهتها وأرجعتها مرة ثانية إلى الخلف وإلى محطة ريو دي جانيرو من حيث أبحرت لأول مرة، فقد تغيَّرت القيادة السياسية التنفيذية في أمريكا، حيث تولى الحكم الجمهوري جورج بوش الإبن ورفض التصديق على البروتوكول الذي وقع عليه الديمقراطي بيل كلينتون، مما جعل سفينة التغير المناخي تنحرف عن بوصلتها، وتسير في بحر مجهول وفي خطٍ لا يعرف أحداً نهايته. ومن جديد حاولت الولايات المتحدة قيادة السفينة عندما وصلت إلى محطة باريس لعام 2015 حيث تزعم أوباما تفاهمات تصب في مصلحة التغير المناخي ومنع ارتفاع سخونة الأرض أكثر من درجة ونصف الدرجة المئوية، فمسك الرئيس الأمريكي بدفة السفينة ليبحر بها إلى الأمام. ولكم ما أن سارت السفينة إلى وجهتها الصحيحة نحو مكافحة تداعيات التغير المناخي حتى جاء ترمب الجمهوري، القبطان الجديد، فمسك قيادة السفينة وقيادة البيت الأبيض فأوقف عجلة السفينة ومنعها من التحرك والإبحار على المستويين القومي الأمريكي والدولي، وانسحب كلياً من تفاهمات باريس ومن أية التزامات أو تعهدات أمريكية لخفض انبعاثاتها من غازات الاحتباس الحراري.

 

ولحسن الحظ أن هذا الربان الأمريكي لم يدم طويلاً، إذ تولي الحكم في أمريكا الديمقراطي بايدن الذي وضع مرة أخرى السفينة في طريقها السليم، وشرع في قيادتها دولياً وعلى المستوى الاتحادي الأمريكي.

 

وقيادة أمريكا للسفينة مهمة جداً لتحقيق أهداف مواجهة التغير المناخي لسببين رئيسين. الأول قُدرة أمريكا وقوتها على زعامة العالم في جميع القطاعات، ومنها القطاع البيئي المتمثل في الضغط على دول العالم أجمع وتشجيعهم على خفض انبعاث الغازات المناخية. والثاني فهو أن أمريكا تاريخياً تتحمل المسؤولية الأولى الكبرى في رفع درجة حرارة كوكبنا وتعرضها للحمى المزمنة، فهي أكبر دولة من حيث انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون والميثان، وأية جهود تقوم بها أمريكا تؤثر ايجاباً وبشكلٍ مباشر على خفض حرارة الأرض برمتها فيستفيد منها كل سكان الأرض من إنسان وكائنات فطرية، مما يؤكد بأن قيادة أمريكا وعملها على خفض انبعاثاتها على المستوى القومي هي نصر لقضية التغير المناخي وتحقيق أهدافها على المستوى الدولي.

 

فالولايات المتحدة وافقت ممثلة في مجلس الشيوخ في السابع من أغسطس 2022 ثم مجلس النواب في 12 أغسطس على قانونٍ تاريخي بالنسبة للتغير المناخي، وهذا القانون عانى من مخاضٍ طويل وشاق واستغرق أكثر من سنة واحدة من المفاوضات الشاقة، والتنازلات الصعبة، والقرارة التوافقية من الحزبين ومن كافة الجهات المعنية، حتى جاءت الولادة الصعبة والعسيرة.

 

فهذا القانون جاء تحت عنوان: "خفض التضخم"(Inflation Reduction Act)، وهو عبارة عن حزمة من التشريعات تصب في عدة جوانب منها صحية وضريبية، ومنها اقتصادية متعلقة بخفض نسبة التضخم، ومنها بالأخص الجانب الذي يهمني في هذا المقال والمتعلق بالتغير المناخي والاستثمار في هذه القضية على مدى عشر سنوات بمبلغ نحو 369 بليون دولار، إضافة إلى الأدوات والآليات المقترحة لمواجهتها على المستوى القومي الاتحادي الداخلي.

 

فبنود هذا التشريع المتعلقة بمكافحة التغير المناخي وتبني مصادر الطاقة الخضراء النظيفة والمتجددة تستند إلى عدة سياسات منها السياسة الوقائية وتبني استراتيجية منع انبعاث غازات التغير المناخي من مصادرها، ومنها السياسة العلاجية التي تقوم على التحكم في الملوثات بعد إنتاجها من مصادرها ومنع دخولها إلى الهواء الجوي، إضافة إلى استخدام الأدوات الاقتصادية.

 

فمن هذه البنود الاستثمار في قطاع الطاقة المتجددة مثل الطاقة الشمسية، وطاقة الرياح، والهيدروجين، إضافة إلى الطاقة النووية من خلال دعم استمرار تشغيل محطات الطاقة النووية التي تنوي الإغلاق، والعمل على إنشاء محطات جديدة. ولتحفيز الاستثمار في هذه المجالات تقوم الحكومة بفرض أداة الإعفاء الضريبي للشركات التي تعمل في هذه المصادر المتجددة الخضراء للطاقة. كما أن من البنود التحول تدريجياً نحو السيارات الكهربائية وتقديم الدعم للشركات المصنعة، إضافة إلى إعفاء المواطن العادي من الضرائب عند شراء هذه السيارات، أو شراء أجهزة ومعدات توفر الطاقة وتشتغل بالطاقة الكهربائية. كذلك هناك البنود المتعلقة بقطاع البناء من خلال تبني واستخدام سياسة المبنى الأخضر المستدام الذي يعمل على ترشيد استهلاك الطاقة واستخدام الطاقة المتجددة عند البناء وعند تشغيل المباني، إضافة إلى القطاع الزراعي من خلال حماية وتأهيل الغابات لامتصاص الملوثات والقيام بالزراعة المستدامة، وقطاع الإنتاج الصناعي وتبني سياسة الإنتاج النظيف.

 

كذلك من بنود القانون التي تصب في السياسة العلاجية هي تركيب أجهزة على مداخن المصانع ومحطات توليد الكهرباء تقوم بجمع غاز ثاني أكسيد الكربون ومنعه من الانبعاث إلى الغلاف الجوي، وتُعرف بتقنيات جمع الكربون( carbon capture technology). وفي المقابل أيضاً تحفيز شركات إنتاج  النفط والغاز على منع تسرب غاز الميثان الذي يُعد المسؤول الثاني عن سخونة كوكبنا.

 

 وبالرغم من صدور هذا التشريع التاريخي الفريد من نوعه على مستوى الولايات المتحدة، إلا أنه لا يفي كلياً بالتزامات وتعهدات أمريكا المناخية على المستويين القومي والدولي. فقد تعهد بايدن في عدة مناسبات بأنه يهدف إلى خفض انبعاثات أمريكا بنسبة 50% بحلول عام 2030، إلا أن هذا القانون إذا تم تطبيقه بشكلٍ صحيح فإنه يخفض من انبعاثات أمريكا بنسبة 40% فقط من مستويات عام 2005 بحلول 2030. كذلك من عيوب هذا القانون أنه لن يُخلص أمريكا من مصدر وقوع التغير المناخي، وبالتحديد الانبعاثات الناجمة عن الوقود الأحفوري، فمازالت الشركات تنقب وتستخرج الفحم والنفط والغاز الطبيعي، وسيستمر الشعب الأمريكي في استخدامها لسنوات طويلة قادمة. وإضافة إلى ذلك فإن هذا القانون أغفل البند المتعلق بالمساعدات الدولية لصندوق التغير المناخي، والذي تقوم من خلاله الدول الثرية والغنية المتقدمة بمساعدة الدول الفقيرة مالياً وتقنياً على خفض انبعاثاتها والتحول إلى مصادر الطاقة المتجددة.

 

وختاماً ففي تقديري فإن هذا القانون هو أفضل من حالة الفراغ التشريعي للتغير المناخي وعدم وجود القانون الذي يواجه هذا التهديد للكرة الأرضية برمتها كما كان خلال الثلاثة عقود الماضية، فالآن يمكن لأمريكا أن تبدأ من جديد في قيادة سفينة التغير المناخي الدولية، وأتمنى أن تستغل هذه الظروف المناسبة فتكون سريعة في إبحارها، فقد تتغير سرعة وقوة الرياح واتجاهاتها بعد حين.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق