الخميس، 25 أغسطس 2022

المرض الموسمي للبحيرات


عندما تطول أشهر الصيف في كل سنة، وتتفاقم شدة الموجات الحرارية التي تضرب دول العالم، فترتفع نتيجة لذلك حرارة الجو وتشتد ضراوتها، نُشاهد ظاهرة تحول لون البحيرات الجميلة الطبيعية التي تشرح النفس وتملأ القلب سروراً وبهجة إلى ألوان الطيف المتعددة الغريبة والغامضة، فمنها اللون الأخضر الغامق، ومنها الأحمر كلون الدم الفاقع، ومنها البني الكئيب الذي يُميت القلب والنفس.

 

وهذه الحالة المرضية والظاهرة السقيمة للبحيرات تحولت الآن إلى أعراضٍ مشهودة لا يمكن تجاهلها، فالجميع قد رآها أمامه رأي العين، أو من خلال وسائل الإعلام والاتصال في الكثير من دول العالم، بدءاً بالخلجان المغلقة والبحار الضحلة في مياه الخليج العربي، كخليج توبلي في البحرين وخليج عراد، إضافة إلى المناطق البحرية الصغيرة غير العميقة وشبه المغلقة. وفي بعض الأحيان تكون هذه الحالة السقيمة التي تُصيب البحيرات مقلقة جداً، بل ومخيفة، وبالتحديد عندما تكون مصحوبة بالموت الجماعي للأسماك، فنشاهد منظر الإبادة الجماعية للكائنات البحرية، ونفوق الآلاف منها أمام أعيننا دون أن نعرف أسبابها بالتحديد، أو مرتبطة بحالات تسمم يتعرض لها رواد البحر.

 

ودعوني أُذكركم ببعض الحوادث الخاصة بالموت الجماعي للأسماك في الخليج العربي في مواسم الصيف الحارة، فهناك على سبيل المثال لا الحصر ما وقع في سلطنة عمان في شهر أغسطس عام 2000، وفي الكويت في يوليو عام 2001، وفي البحرين وقعت عدة حوادث في سواحل منطقة عراد وفي خليج توبلي في ساحل النبيه صالح وجرداب وجدعلي والمعامير، مثل حادثة نفوق أسماك الجواف في يونيو 2007، وفي يوم 14 أغسطس 2019 سقطت كميات كبيرة من الأسماك الصغيرة من نوع "العفاطي" صريعة في ساحل المعامير في خليج توبلي.

 

ولهذا المرض الموسمي الذي ينزل على المسطحات المائية حول العالم، تداعيات كثيرة ومتنوعة تتعدى الجانب البيئي المشهود فتصل إلى جوانب خطيرة مهددة لصحة الإنسان والكائنات المائية والطيور البحرية التي تعيش في تلك المساحة المتضررة التي بلغت في بعض البحار آلاف الكيلومترات المربعة، كما أن تداعياتها تبلغ اقتصاد البلاد والعباد، فعندما يتغير لون البحر من اللون الأزرق الطبيعي الجميل إلى الألوان الأخرى المؤذية للنفس والقلب، فإن كل رواد البحر من سياح وصيادي السمك وغيرهم سيهجرون هذه المنطقة كلياً وبشكلٍ جماعي، فتتكبد الدولة والمرافق والتسهيلات السياحية وكل من يعيش ويقتات على هذه المرافق خسائر اقتصادية كبيرة، وربما إفلاس جماعي بسبب نفور الناس وهروبهم من سواحل البحر.

 

فهناك أسباب طبيعية ربما لا دور للإنسان فيها عند وقوع ظاهرة تحول لون المسطحات المائية، وفي المقابل هناك أسباب صنعتها أيدينا ونفذتها أعمالنا التنموية التي لم تأخذ الجانب البيئي الصحي في الاعتبار. فأولاً ارتفاع درجة حرارة الجو في الصيف خاصة هو ظاهرة دورية طبيعية تحدث كل سنة، ولكن هذه الظاهرة المناخية الطبيعية تفاقمت واشتدت نتيجة لتلوث الهواء بغاز ثاني أكسيد الكربون والميثان وغازات أخرى تنبعث كل ثانية من وسائل المواصلات وتوليد الكهرباء والمصانع. وهذه الغازات المعروفة بغازات الدفيئة، أو الاحتباس الحراري تسببت في وقوع أخطر مشكلة عرفها الإنسان حتى الآن، وأكثرها تعقيداً وتهديداً لصحة البشر واستدامة كوكبنا، وهي قضية التغير المناخي وإصابة الأرض بالحمى المزمنة. وارتفاع حرارة الأرض انعكس على مياه البحار، فزادت حرارتها وأدت مع وجود عوامل أخرى إلى بروز ظاهرة النمو غير الطبيعي والطفري للطحالب بشتى أنواعها السامة وغير السامة.

 

وأما السبب الثاني فهو ما نصرفه بأيدينا وبمحض إرادتنا من خليط معقد وسام من ملوثات كيميائية وحيوية مَرَضية إلى السواحل من أنهار، وبحار، وبحيرات، سواء أكانت مياه المجاري غير المعالجة، أو شبه المعالجة، أو مياه الصرف الزراعي، وكل هذه المياه تحتوي على مواد مغذية، كالفسفور والنيتروجين وغيرهما التي تعمل كسماد يؤدي إلى تعجيل نمو النباتات البحرية كالطحالب التي تسبب حالة "الإثراء الغذائي" من مد أحمر يفرز السموم إلى المد الأخضر والبني. 

 

ومياه المجاري في الكثير من الدول اليوم لفتت أنظار العلماء ووسائل الإعلام ووسائل الاتصال الجماعية الاجتماعية نتيجة لصرفها بأحجام ضخمة في المسطحات المائية وتكون مساحات واسعة من الطحالب الخضراء والحمراء السامة التي لا يمكن تجاهلها وغض الطرف عنها. فعلى سبيل المثال، هذه الممارسة غير الحضارية والمُتَخلفة تحولت إلى سلوك يومي في بعض الدول الصناعية المتقدمة، مثل بريطانيا. فوسائل الإعلام البريطانية تغطي هذا الأيام هذه المشكلة البيئية، ومنها التحقيق المنشور في صحيفة الجارديان في 23 أغسطس 2022 تحت عنوان: "رؤية الجارديان حول أزمة المجاري في إنجلترا"، حيث أفاد التحقيق استناداً إلى التقارير البيئية بأنه في الفترة من 2016 إلى 2021 تم صرف نحو 9 ملايين ساعة من مياه المجاري في المسطحات المائية في بريطانيا العظمى، وخلال الخمس سنوات الماضية زاد الصرف بنسبة 2553%.  

 

وهناك عدة أسباب تضطر هذه الدول المتقدمة إلى التخلص من مياه المجاري مباشرة في السواحل، وهذه الأسباب يجب أن نقف عندها ونحللها لأنها قد تقع عندنا في البحرين أو في باقي دول الخليج. فلا شك بأن هناك محطات في هذه الدول خاصة بمعالجة مياه المجاري، ولكن هذه المحطات أصبحت بالية ومستهلكة وطاقتها الاستيعابية قد أصابها التشبع والانهيار، فلا تتحمل الأحجام المتزايدة كل يوم من مياه المجاري من المنازل، والمرافق السياحية من فنادق ومنتجعات، ومن المجمعات المتزايدة، إضافة إلى زيادة أعداد السكان والمقيمين والسياح، فكل هذه المتغيرات والمستجدات التي تزيد يوماً بعد يوم ترفع من أحجام المجاري التي لا تتحملها ولا تطيقها هذه المحطات القديمة ذي الطاقة الاستيعابية المنخفضة، مما يعني صرف جزء من هذه المجاري والتخلص منها في المسطحات المائية دون أية معالجة. وهذه الأحجام التي تدخل البحر تزيد كل يوم إذا لم يتم بناء محطات جديدة، أو رفع الطاقة الاستيعابية للمحطات القديمة وإعادة تأهيلها وصيانتها بشكلٍ كامل. وهذا يعني بأن أية زيادة في السكان، أو عدد السياح، أو الفنادق أو غيرها يجب أن يواكبها في الوقت نفسه زيادة ورفع في الطاقة الاستيعابية لمعالجة مياه المجاري، وإدارة المخلفات البلدية الصلبة، وتوفير مياه الشرب، وزيادة وتوسعة الشوارع، وزيادة المرافق الخدمية، وزيادة المتنزهات والمساحات الخضراء والسواحل العامة، وزيادة إنتاج وتوليد الكهرباء، وغيرها من الخدمات، فهل نقوم في دولنا بالتخطيط الاستراتيجي للتعامل مع كل هذه المستجدات التنموية بشكلٍ عام؟

 

وهناك عدة أعراض مرضية تنكشف على المرض الموسمي للبحيرات، منها ما هو سطحي وظاهري نراها بالعين المجردة كتغيير لون ماء البحر، ونفوق الأسماك، وتسمم الإنسان، ومنها ما هو بحاجة إلى الأجهزة للكشف عنها وتحليلها، مثل انخفاض تركيز الأكسجين الذائب في الماء والذي إذا استمر يحول المنطقة البحرية إلى صحراء جرداء قاحلة لا حياة فيها ومقبرة جماعية للكائنات البحرية، ومنها التعرف على مختلف أنواع السموم التي تفرزها الطحالب، ومنها تركيز المغذيات العضوية وغير العضوية في الماء.

 

فمن الواضح إذن أن هذا المرض الموسمي الذي يُصيب المسطحات المائية في معظم دول العالم له أسباب طبيعية لا يمكننا السيطرة عليها، ولكن في معظمها أسباب ومصادر تحت أيدينا ونستطيع التصرف فيها ونمنع دخولها في المسطحات المائية، فنَقي بذلك هذه البيئات الجميلة، الثرية، والمنتجة من التدهور، كما أننا في الوقت نفسه نمنع هذا المرض الموسمي من أن يتحول إلى وباءٍ مزمن يمكن مشاهدته طوال العام، ولا يمكن عندئذٍ التخلص منه والقضاء عليه كلياً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق