الأحد، 4 سبتمبر 2022

قصة فشل

في العادة يكتبُ الناس عن قصص النجاح والإنجازات، وأنا أكتبُ هنا عن قصص فشل وإخفاق للبشرية جمعاء، وأَهدفُ من ذلك إلى الوقوف أمامها ملياً للتدبر والتفكر في كافة أبعادها المتعلقة بأسباب وعوامل ومصادر فشلها، حتى لا نُكرر السقوط فيها مرة ثانية، فنتعظ بها، ونستفيد منها، ونتعلم من زلاتها وهفواتها، فالمؤمن لا يلدغ من جحرٍ مرتين.

 

وفي الواقع فإن قصص فشل الإنسان في مجال البيئة كثيرة ومتعددة منذ بزوغ فجر الثورة الصناعية الأولى قبل نحو 200 عام، حيث أن رؤيته في التعامل مع البيئة ومكوناتها الحية وغير الحية كانت ضبابية، أو لكي أكون واضحاً أكثر، وصريحاً جداً لم تكن له أية رؤية، وفي الوقت نفسه كان يفتقر أيضاً إلى سياسات مستدامة في إدارة الثروات البيئية الفطرية، فكانت الأعمال التنموية التي يقوم بها عشوائية وغير رشيدة ولا يهمها إلا جمع المكاسب المادية بأية وسيلة وتقديم المنتجات الاستهلاكية مهما كان نوعها للناس، وعدم التفكير كلياً في مرحلة انتهاء عُمر هذه المنتجات ومصيرها عند إلقائها في مكونات البيئة، إضافة إلى تجاهل كل ما ينطلق من هذه العملية الإنتاجية من مخلفات صلبة، أو سائلة، أو غازية وتداعياتها على صحة الإنسان وسلامة وأمن البيئة والحياة الفطرية.

 

فهذا التجاهل جعل الإنسان يتفاجأ بتشبع بيئتنا وعناصرها في كل شبرٍ صغير أو كبير من كوكبنا، سواء أكان قريباً أو بعيداً بالملوثات التي تمخضت عن أنشطته التنموية، كما أن الأدهى والأمر والأشد تأثيراً من تلوث مكونات البيئة هو تسمم كل عضو من جسم الإنسان بهذه الملوثات التي وصلت مع الوقت إلى كل خلية من خلايا جسمه، ولا يعلم أحد الأمراض والأسقام المزمنة التي نزلت علينا بسبب تعرضنا لعقود طويلة لهذه السموم الخطرة والمسببة للسرطان.

 

والحدث الذي وقع في البحرين في 25 أغسطس 2022 ذكَّرني بقصة فشل واحدة من بين القصص الكثيرة التي ارتكبتها أيدي الإنسان طواعية وبمحض إرادته. وقصة الفشل هذه نجمت عن صناعة منتجات استهلاكية خطرة وملوثات سمحنا بإرادتنا أن تنبعث إلى البيئة، وكلها شكَّلت مجموعة من الملوثات التي لا تتحلل بعد أن تنطلق فتمكث وتبقى طويلاً في بيئتنا، أي أنها تقاوم التحلل بفعل العوامل الطبيعية من ضوء، وحرارة، ورياح، وكائنات حية دقيقة. فهذه الملوثات كلها تتميز بصفات منها الثبات والاستقرار في مكونات البيئة، والانتقال لمسافات طويلة عبر التيارات البحرية والرياح الجوية، ومنها أيضاً قدرتها على التراكم والتضخم في مكونات البيئة القريبة والبعيدة من ماء وهواء وتربة والسلسلة الغذائية، وأخيراً قدرتها على الانتقال مع الوقت إلى جسم الإنسان وزيادة تركيزها مع الزمن في أعضائنا، بل وإن هذه المجموعة من الملوثات أخذتْ في الانتقال من الأم الحامل إلى جنينها، أي أننا نتيجة لجهلنا وسوء إدارتنا لبيئتنا ورَّثنا أبناءنا وأحفادنا والأجيال اللاحقة من بعدنا ملوثات تبقى معهم أبد الدهر، وترافقهم طوال سنوات حياتهم من المهد إلى اللحد، فيُعانون من تداعياتها ومن الإعاقات والتشوهات والعلل التي تنتج عنها. 

 

فقد دشنت البحرين الخطة الوطنية للتعامل مع هذه المجموعة السامة للبيئة والإنسان من الملوثات المهددة لصحة الأجيال، والتي يُطلق عليها الملوثات العضوية الثابتة(persistent organic pollutants, POPs). وهذه الخطة مستخلصة من الجهود الدولية لمكافحة ومواجهة أخطاء الإنسان وفشله. فبعد أن سمح الإنسان منذ الثلاثينيات من القرن المنصرم لملايين الأطنان من هذه الملوثات في الانطلاق إلى البيئة بحجة مقاومة الأمراض الناجمة من الآفات والحشرات، أو زيادة إنتاج المحاصيل الزراعية، أو غيرها من الأسباب، تبين له وبعد عقود من تدمير هذه الملوثات لصحة الإنسان وبيئته بأن مضارها أكثر من منافعها، ومفاسدها أشد من محاسنها، وتدميرها أكبر من بنائها. فعندئذٍ اجتمع البشر لإنقاذ أنفسهم من شرور هذه الملوثات معتمدين بذلك على آلية دولية هي المعاهدات والاتفاقيات، والتي تمثلت في هذه الحالة في معاهدة أستوكهولم حول "حماية صحة الإنسان والبيئة من الملوثات العضوية الثابتة" في 22 مايو 2001.

 

وفي هذه المعاهدة تمت الموافقة على التصدي لـ 12 فقط من هذه الملوثات الكثيرة السامة والمسرطنة التي اُطلقَ عليها المجموعة القذرة، أو "الدرزينة القذرة"(Dirty Dozen). ومن هذه السموم التي تم تقيد حركتها وانتشارها الآن هي "بايفينل متعدد الكلور"(بي سي بي) (PCBs) المستخدم في المحولات الكهربائية والأجهزة الكهربائية الأخرى، ومبيدات حشرية عضوية مكلورة في مقدمتها المبيد الحشري المشهور "دِي دي تي"(DDT)، الذي أحدث ضجة دولية وأزمة عالمية عصيبة، تتمثل في تهديد بعض أنواع الطيور بالانقراض، مثل رمز الولايات المتحدة الأمريكية، النسر الأصلع، علاوة على تراكمه وارتفاع تركيزه في جسم الإنسان وحليب الأم وجميع مكونات بيئتنا. كذلك من السموم التي عانينا منها عقود طويلة من الزمن بعض المركبات العضوية متعددة الفلور(بي إف أي إس)(PFAS) والمركبات العضوية الأروماتيكية(بي أي إش)(PAHs)، إضافة إلى أخطر ملوث عرفه الإنسان وهو مجموعة مركبات يُطلق عليها "الديكسين"، والتي تنبعث من عمليات الحرق، سواء حرق القمامة المنزلية أو حرق المخلفات الطبية وغيرهما.

 

 

والغريب في الأمر والمحير هو أن الإنسان سمح لملوثات عضوية كثيرة أخرى ثابتة ولا تتحلل في أن تسرح وتمرح في بيئتنا، وتتراكم في أجسامنا، فيزيد تركيزها في خلايا أعضائنا دون أن يتصدى لها ويمنع استخدامها ودخولها في عناصر البيئة، حتى في مايو 2009، أي بعد 8 سنوات عجاف، عندما أضاف 16 ملوثاً آخر إلى القائمة السوداء السابقة. ومازالت هناك أيضاً ملوثات أخرى تنتظر دورها لكي تُوضع ضمن المجموعة القذرة المحظورة، مما يعني، كما كان عليه الوضع سابقاً لعقود طويلة، فإن هذه الملوثات ستستمر في تدمير صحة الإنسان وتضر بصحته، دون أن يقاوم الإنسان هذا الضرر، أو أن يتصدى له حتى يحين وقتها، وفي هذه الأثناء، ولسنوات طويلة قادمة، فإن هذه الملوثات مسموح استخدامها وإطلاقها إلى بيئتنا دون حسيبٍ أو رقيب، وستبقى حرة وطليقة تفعل بنا ما تشاء!

 

وهذا الفشل نفسه يتكرر سنة بعد سنة منذ أكثر من مائة عام، فيسقط الإنسان في شر أعماله، وفساد أفعاله بحجة التنمية والتطوير والتقدم، فيحل مشكلة من جانب ويخلق في الوقت نفسه مشكلات أخرى أشد وطأة وتنكيلاً بصحتنا وأمن أنظمة بيئتنا من المشكلة السابقة، ولكن في كل مرة مع وجوه جديدة وملوثات ومنتجات أخرى حديثة يصنعها هو بنفسه، أو يسمح لها بدخول بيئتنا والتراكم في أجسامنا، وكأنه لا يريد أن يتعلم من تجاربه السابقة، أو خبراته الكثيرة المتراكمة والممتدة أكثر من قرن من الزمان!

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق