الأحد، 25 سبتمبر 2022

شوارعنا تشبعت بالسيارات فما تأثيراتها على صحتنا؟

منذ عقود وأنا أُتابع التطورات المتعلقة بمشكلة السيارات في شوارعنا، وأراقب عن قرب الزيادة المطردة الطفرية للسيارات في بلادنا، حيث ألفت كتاباً مفصلاً حول هذه القضية البيئية الصحية، والاجتماعية الاقتصادية في عام 1999 تحت عنوان:" السيارات: المشكلة والحل"، وقدَّمت في ذلك الوقت مجموعة من الحلول المتكاملة والشاملة لمواجهة هذه المشكلة التي تعاني منها معظم المدن الحضرية حول العالم، وبيَّنتُ دور ومسؤولية  كل وزارة، وكل جهة حكومية وغير حكومية لعلاجها والتصدي لها.

ومنذ ذلك الوقت والأوضاع تزداد سوءاً، والمشكلة تزداد تفاقماً، وساعات الازدحام والاكتظاظ المروري تتعاظم كل سنة وفي كل وقت من اليوم، فأعداد السيارات في هذه المساحة الضيقة من بلادنا ترتفع بنسبة كبيرة لا تتناسب مع عدد ومساحة الشوارع، وهذه الزيادة غير الطبيعية في السيارات لا تواكبها في الوقت نفسه زيادة مماثلة في أعداد ونوعية وحجم وطول الشوارع، بحيث إنها تتناسب وتتماشى مع هذه الأعداد المتنامية الرهيبة.

والإحصاءات والمعلومات المتوافرة لدي منذ الخمسينيات من القرن المنصرم تؤكد هذه الحقيقة الواقعة أمامنا، والمشهودة لكل مواطن ومقيم بشكلٍ يومي. فعلى سبيل المثال، عدد السيارات في عام 1954 كان 3396 سيارة، وفي عام 1957 بلغ 5595، وعام  1960 كان العدد 6417، ثم في عام 1977 زاد بنسبة كبيرة بحيث إن العدد وصل إلى 45850 سيارة. ومنذ عام 1977 وأعداد السيارات تقفز مساحات واسعة وتغطي شوارعنا برمتها، حتى تشبعت بها الآن، وربما في السنوات القليلة القادمة لن تتحمل شوارعنا المزيد من هذه السيارات فنحتل بذلك المرتبة الأولى بالنسبة للكثافة المرورية على المستوى الدولي، حيث وصل العدد في عام 2015 إلى 545 ألف، وفي عام 2018 بلغ 640 ألف، ثم قفز إلى 711 ألف في عام 2019. وأخوف ما أخافه الآن وأُحذر منه هو أننا في المستقبل حتى لو أردنا تشييد شوارع جديدة، أو توسعة مساحة وحجم الشوارع القديمة الموجودة حالياً، فإننا مع هذه الزيادة غير المتوقفة والمتنامية لأعداد السيارات، فإننا لن نتمكن من القيام بذلك، لأن مساحة البحرية محدودة وصغيرة جداً مقارنة بأعداد السيارات، ولا توجد حالياً أو في المستقبل المنظور أية مساحة أو قطعة أرض غير مأهولة بالسكان، أو غير مملوكة لأحد لبناء الشوارع عليها.

وبالرغم من هذا الجانب المقلق لارتفاع أعداد السيارات والازدحام الشديد الناجم عنها والذي يؤثر على نفسيتنا، وإنتاجنا، وتنميتنا، فإن هناك بعداً آخر لا يقل تهديداً لنا من الاكتظاظ المروري، بل هو أشد خطورة وتنكيلاً بنا، وهو المتعلق بالأمن الصحي لكل إنسان، الأطفال، والشباب، والشيوخ، وهذا الجانب عادة ما يتم تجاهله من قبل الحكومات وغض الطرف عنه، ولا يُعطي الأولوية من ضمن البرامج السنوية للدول.

فعوادم السيارات، سواء السيارات التي تشتغل بالديزل أو الجازولين، تنبعث عنها ملوثات سامة، وخطرة، ومسرطنة، ومن هذه الملوثات المؤدية إلى الإصابة بالسرطان هي البنزين، وبنزوبيرين، إضافة إلى الدخان، أو الذي نُطلق عليه علمياً بالجسيمات الدقيقة، وبخاصة الجسيمات الصغيرة الحجم التي يقل قطرها عن 2.5 ميكروميتر.

وعوادم السيارات معروفة منذ الأربعينيات من القرن المنصرم بأنها تسبب ظاهرة تنكشف في السماء وتُعرف بالضباب الضوئي الكيميائي، حيث تتحول السماء الزرقاء الصافية الجميلة إلى اللون الأصفر البني المتشبع بالسموم. وهذه السحب عندما تظهر تدق أجراس الإنذار في المدن، وتصيح وسائل الإعلام محذرة الناس من الخروج، أو ممارسة الأنشطة الرياضية في البيئات الخارجية، بل وفي بعض الحالات الحادة تتوقف عجلة التنمية كلياً، وتنشل الحركة المرورية وحركة التنقل والسفر، فالمطارات تُوقف رحلاتها الجوية نتيجة لانعدام الرؤية، والحافلات والقطارات تتجمد في محطاتها، والسيارات الأخرى تبقى في منازلها، وتُغلق المدارس والجامعات، وتتوقف المصانع عن العمل، وتمتلأ المستشفيات وأقسام الطوارئ بالمتضررين صحياً من هذه الغيوم المرضية الكئيبة.

وفي الحقيقة فإن الدراسات حول تأثير الملوثات التي تنطلق من السيارات لم تتوقف منذ أن ولجت السيارات الشوارع، وفي كل يوم تكتشف الأبحاث بُعداً جديداً للسيارات، وبخاصة الجانب المتعلق بالأمن الصحي للناس.

فعلى سبيل المثال، هناك الدراسة التي عُرضت في العاشر من سبتمبر في مؤتمر الجمعية الأوروبية لطب الأورام(European Society for Medical Oncology)، والذي عُقد في باريس في الفترة من 9 إلى 13 سبتمبر 2022، وغطت هذه الدراسة عينة من الناس بلغت  463679 يعيشون في بريطانيا وكوريا الجنوبية وتايوان. فهذه الدراسة هدفت إلى بيان علاقة التلوث من عوادم السيارات بالإصابة بالسرطان، وبالتحديد سرطان الرئة عند غير المدخنين، مع التركيز على دور دخان السيارات، أو الجسيمات الدقيقة المشبعة بالسموم والمواد المسرطنة في الإصابة بسرطان الرئة من بين غير المدخنين.

فمن الحقائق العلمية التي يُجمع عليها العلماء منذ الخمسينيات من القرن المنصرم هي أن التدخين بكل أنواعه يؤدي إلى الإصابة بسرطان الرئة، أي أن هناك علاقة مباشرة وسببية بين المدخنين وتعرضهم لسرطان الرئة، ولكن هذه الدراسة اليوم تُضيف سبباً جديداً ومصدراً حديثاً للإصابة بسرطان الرئة غير المعروف تقليدياً لدى الأطباء، وهو تلوث الهواء الناجم عن السيارات، ودور دخان السيارات بالتحديد في تحفيز خلايا الرئة وتحويلها إلى خلايا سرطانية وأورام قاتلة.

فقد اكتَشفتْ هذه الدراسة بأن الجسيمات الدقيقة تسبب التهابات في خلايا الجهاز التنفسي فتعمل كعامل مساعد ومثير يزيد من احتمال حدوث طفراتٍ في بعض الجينات، وبالتحديد(EGFR and KRAS)، وتحولها إلى أورام خبيثة، ثم الإصابة بنوع خاص من السرطان يُطلق عليه سرطان الرئة ذو الخلايا غير الصغيرة(non-small cell lung cancer (NSCLC)). فوجود الجسيمات الدقيقة أو دخان السيارات وغيرها من المصادر يعمل كوقود في داخل الجسم يُشعل فتيل حدوث الطفرة في انقسام الخلايا وتحولها إلى أورام وخلايا سرطانية في الرئة.

كما أفادت هذه الدراسة الحالية ودراسات أخرى بأن تلوث الهواء بشكلٍ عام يصيب حالة واحدة من بين عشر حالات لسرطان الرئة من الذين لا يدخنون في المملكة المتحدة، ونحو 6000 من هؤلاء المرضى بسرطان الرئة من غير المدخنين يموتون سنوياً. أما على المستوى الدولي فقد قدَّرت منظمة الصحة العالمية بأن نحو 30 ألف يموتون موتاً مبكراً من سرطان الرئة نتيجة لتعرضهم للجسيمات الدقيقة الموجودة في الهواء الجوي.

وبالرغم من ثبوت العلاقة بين تلوث الهواء من السيارات والإصابة بعدة أمراض سرطانية، منها سرطان الرئة، إلا أنني لا أجد هذا الاهتمام من الحكومات بتلوث الهواء عامة يتناسب مع حجم الضرر الصحي والبيئي الناجمين عن السيارات، ولا أجد قضية تلوث الهواء تنزل بقوة ضمن قائمة الأولويات في البرامج الحكومية، فقد تم اختزال هذه القضية العصيبة والمعقدة برمتها في الازدحام في فترة من فترات اليوم! 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق