الثلاثاء، 13 سبتمبر 2022

السرقة جهاراً نهاراً

اجتمع الممثلون من دول العالم في المقر الرئيس للأمم المتحدة في نيويورك في الفترة من 15 إلى 26 أغسطس 2022، ولكن خرج هؤلاء المندوبون من الاجتماع كما دخلوا فيه دون أية نتائج ملموسة، أو حدوث أي تطور وتقدم ملموس في التصدي لإحدى القضايا البيئية والاقتصادية الحيوية جداً، علماً بأن هذا الاجتماع ليس هو الأول من نوعه لكي نُقدم المبررات، ونُعذر الدول والوفود المشاركة لعدم الوصول إلى نتيجة حاسمة وقرار جماعي مشترك، وإنما هو الجولة الخامسة من المفاوضات والمناقشات حول هذه القضية التي استمرت عشرات السنين حتى يومنا هذا.

 

وفي تقديري فإن حساسية هذه القضية بالنسبة للدول، وبخاصة الدول الصناعية الإنتهازية المتقدمة التي تلهث وراء موارد وثروات الأرض أينما كانت فوق الأرض، أو تحت الأرض، أو في أعماق المحيطات، أو في الفضاء العليا، وتجري نحو استغلالها والسيطرة عليها قَبْلَ الآخرين، إضافة إلى البعد الاقتصادي الكبير واللامحدود لهذه القضية، وعلاوة على الجانب البيئي والتنوع الحيوي، فإن كل هذه الجوانب تجعل الوصول إلى اتفاق مشترك ممثلاً في معاهدة دولية لمواجهة هذه القضية، وملزمة للجميع، أمراً صعباً ومعقداً، وربما مستحيلاً على المدى القريب.

 

فدول العالم تسعى إلى بلوغ مرئيات توافقية لإدارة منطقة بحرية تشترك فيها كافة دول العالم، فهي منطقة عامة لا تخص أية دولة بعينها، وهي تراث طبيعي للإنسانية جمعاء وليست لأيةِ دولة السيادة والهيمنة الشرعية والقانونية عليها، وهي بالتحديد مناطق أعالي المحيطات والبحار، ولذلك أَطلقتْ الأمم المتحدة على هذه المفاوضات التي تجرى بين الدول بمعاهدة البحار العليا (Treaty of the High Seas)، والتي تُعرف اختصاراً بمعاهدة "بي بي إن جي(BBNJ Treaty). وهذه المعاهدة الدولية تهدف إلى الاستخدام المستدام وحماية التنوع الحيوي في المناطق البحرية التي لا تخضع لسيادة أحد، أو حُكم وسلطة أية دولة، أي المياه الدولية خارج الحدود الجغرافية للدول، وخارج المنطقة البحرية الاقتصادية(exclusive economic zones).

 

ومناطق أعالي البحار المشتركة والعامة التي من المفروض أن ينتفع منها الجميع، تمثل نحو 64% من إجمالي مساحة المحيطات، وهذه المناطق العميقة الشاسعة العظيمة ليست خالية وميتة، أو صحراء بحرية قاحلة، كما يظنها الكثير من الناس، وإنما هي مناطق مزدهرة بالحياة، ومناطق الشعاب المرجانية الثرية بالكائنات البحرية السمكية التجارية، وغنية بالتنوع الحيوي والموارد الجينية الفريدة من نوعها، كذلك فإن أعماق هذه المناطق بشكلٍ خاص ليست كما يحسبها البعض فقط بأنها منبسطة ومظلمة وشديدة البرودة ومرتفعة الضغط، وإنما هناك كنز من الثروات المعدنية المختلفة تحت سطح البحر على أعماق كيلومترات طويلة تحت سطح البحر. فهناك مخزون عظيم من المعادن النفيسة والغنية التي يحتاج إليها البشر حالياً للدخول في سباق عصر الطاقة الخضراء النظيفة واستعمال السيارات الكهربائية التي لا تنبعث عنها الملوثات، وتحقيق السبق والريادة في كل هذه القطاعات. ولذلك فهذه المناطق الاقتصادية الواعدة هي التي تدور حولها المفاوضات، وهي التي لن تتخلى عنها الدول الصناعية المتقدمة وشركاتها المتنفذة القوية، وستنزل بكل ما أوتيت من قوة وضغوط سياسية، ونفوذ دبلوماسي على الحصول على حصة الأسد من هذه الموارد والخيرات الموجودة في أعماق المحيطات، وستترك الفتات للآخرين وللدول النامية النائمة والمستضعفة، كما فعلت من قبل ومازالت تفعل بالضبط بالنسبة للموارد فوق سطح الأرض، وفي أعماق تحت الأرض، وفي الفضاء العالي.

 

 فالدول المتقدمة تتبنى منذ فترة طويلة من الزمن سياسة المماطلة والتأجيل في اتخاذ القرار النهائي في اجتماعات الأمم المتحدة حول أعالي البحار، وهي بذلك أثناء غياب القانون الدولي والتقييد التشريعي الأممي ستعمل على سرقة ثروات المحيطات، ونهب خيرات الأمم والشعوب نهاراً جهاراً تحت أعين الأمم المتحدة، وستستمر عقوداً طويلة في عملية السطو البحري واستغلال خيرات المحيطات العامة والمشتركة من أجل تنمية دولهم ورفاهية شعوبهم. فهناك الآن ومنذ عقود سباق محتدم بين عددٍ صغير ومعروف من الشركات العملاقة التي تهيمن على ساحة التنقيب واستغلال الثروات المعدنية في أعماق المحيطات، وتحتكر كلياً هذه العملية برمتها وتعمل على الاستفراد باستنزاف هذه الخيرات المدفونة في أعماق المحيطات. فهي التي تمتلك المعلومات العلمية المتقدمة والسرية منذ أكثر من قرن عن دقائق مناطق أعالي البحار من العمق، والحرارة، والتيارات المائية، والحياة الفطرية النباتية والحيوانية والكائنات البحرية المجهرية الدقيقة، كما تعرف بالتفصيل مواقع وجود هذه الثروات ونوعية وكمية المعادن القابعة في كل مكان، وهي في الوقت نفسه الشركات الوحيدة التي تمتلك القدرات الفنية والتقنية والأجهزة والمعدات الباهظة الثمن المستخدمة في الاستكشاف والتنقيب واستخراج هذه المعادن من المواقع البحرية النائية والبعيدة على عمق عشرات الكيلومترات تحت سطح المحيط.   

 

وهناك عدة بنود في معاهدة أعالي البحار تعمل الدول المتقدمة على تأجيل وتأخير البت فيها، وعدم اتخاذ القرار بشأنها إلى أن تستتب وتخضع لهم كافة الأمور المتعلقة بالتنقيب عن الموارد القاعية. ومن هذه البنود تقييم الأثر البيئي لعمليات التنقيب عن المعادن، ووضع إطار قانوني دولي لإنشاء محميات طبيعية بحرية لحماية التنوع الحيوي البحري ومنع فقدان المزيد من ثروة الحياة الفطرية البحرية، حيث تهدف المعاهدة إلى حماية نحو 30% من مساحة المحيطات وتصنيفها كمحميات بحرية بحلول عام 2030، ومنها أيضاً تقنين والإشراف على الصيد البحري التجاري، ومنع دولة أو دول متنفذة بعينها من استغلال هذه الثروة الغذائية الاقتصادية الوفيرة والمتجددة والانتفاع بها فقط لصالح هذه الدول دون أن تستفيد الدول الفقيرة من هذا التراث الوفير المشترك. كذلك من البنود التي لها بعد اقتصادي واستثماري كبيرين هو حماية الموارد الجينية والاستفادة منها جميعاً كثروة عامة مشتركة، حيث إن هناك الكثير من الأدوية والعقاقير، ومواد الزينة والتجميل والتبرج، ومنتجات تجارية أخرى كثيرة يمكن أن تُستخلص من هذه الموارد الجديدة والفريدة من نوعها. 

 

فهذه المفاوضات الدولية حول "كعكة" أعالي المحيطات وكيفية تقسيمها وتوزيعها، أفرزتها محاولات وجهود دولية مضنية، من أهمها قانون البحار لعام 1982، والذي من بين أهدافه تأسيس إطار دولي شرعي للأنشطة البحرية هو السلطة الدولية لقاع البحار(International Seabed Authority) ، كما قسم القانون المناطق البحرية إلى خمس مناطق هي المياه الداخلية، والإقليمية، والمنطقة الاقتصادية، وأعالي البحار.

 

كذلك في 24 ديسمبر 2017 قررت الجمعية العمومية للأمم المتحدة الدعوة إلى عقد مؤتمر شبه حكومي تحت رعاية الأمم المتحدة للإعداد لأداة دولية ملزمة تحت مظلمة معاهدة الأمم المتحدة لقانون البحار من أجل إدارة مستدامة ومنصفة وعادلة لمنطقة أعالي المحيطات، حيث كان الاجتماع الأول، أو الجولة الأولى من المفاوضات في الفترة من 4 إلى 17 سبتمبر 2018، والخامسة والأخيرة الفاشلة كانت في أغسطس من العام الجاري.

 

فأعالي المحيطات تحتضن ثروة هائلة، وفي بطنها موارد طبيعية حيوية وغير حيوية عظيمة، فهي مخزن لا ينضب للمعادن التي تقوم عليها الصناعات القادمة، ولذلك فإن الدول الصناعية المتقدمة التي تلهث وتتعطش لأي مورد طبيعي جديد لاستدامة أعمالها التنموية لن تُفرط في هذه الخيرات الوفيرة، ولن تسمح للدول النامية الضعيفة التي لا قوة لها ولا نفوذ على المستوى الدولي من التمتع والمشاركة معها بأية قطعة من هذه الكعكة الكبيرة، فقَطْع وتوزيع هذه الكعكة سيكون فقط بين الدول المتقدمة المتنافسة التي تمتلك سلاح العلم والمعرفة الدقيقة والسرية بخفايا هذه المنطقة، وتمتلك في الوقت نفسه الأدوات والأجهزة المكلفة والمعقدة اللازمة لاستخراج هذه الثروة ومعالجتها والاستفادة منها. وأما الدول المستضعفة فعليها كالعادة الانتظار طويلاً حتى تفرغ الدول المتنفذة الكبرى من قَطْع الكعكة وتوزيعها وأكلها، فقد يتبقى لها شيء بسيط بعد ذلك من بقايا ومخلفات هذه الكعكة.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق