الأحد، 30 يوليو 2017

الدول المتقدمة وتوفير مياه الشرب


قبل أن تَفْرُض البيئة وهمومها نفسها على الساحة الدولية كورقة قوية وفاعلة لا يمكن تجاهلها أو غض الطرف عنها أو الاستهانة بها، كان العامل الاقتصادي هو سيد الموقف أولاً وأخيراً، وهو المحدد والموجه لأي قرارٍ دولي أو إقليمي أو على المستوى القومي، وكان البعد الاقتصادي وحده هو المسيطر كلياً على مجريات الأمور في الدول، وهو الذي يؤخذ في الاعتبار دون الرجوع إلى أية جوانب أخرى، كما كان العامل الاقتصادي البحت ونمو الدولة اقتصادياً هو الذي يَضع أية دولة ضمن قائمة الدول المتقدمة وفي مصاف الدول العظمى المتطورة.

 

فمنظمات الأمم المتحدة والبنك الدولي اعتمدت كلياً على المؤشرات الاقتصادية لتُقدم تعريفها للدول المتطورة والمتقدمة، فالبنك الدولي على سبيل المثال يعتمد في تصنيفه للدول المتقدمة والمتطورة على أساس الدخل القومي الإجمالي للفرد ويعتبر هذا المعيار هو الذي يفرق ويميز بين الدولة المتقدمة والدولة النامية والفقيرة، وصندوق النقد الدولي يعتمد على نصيب الفرد من الدخل القومي، إضافة إلى درجة التنوع في الصادرات ومستوى الاندماج في النظام المالي الدولي.

 

ولذلك اعتماداً على هذا التعريف، إذا أرَادتْ أية دولة أن تدخل في قائمة "النخبة"، وهي قائمة الدول الراقية والمتطورة، فكل ما عليها القيام به هو النمو الاقتصادي السريع والتركيز على مؤشرات النمو الاقتصادية البحتة، كرفع الناتج المحلي الإجمالي وإجمالي الناتج القومي ورفع المستوى المعيشي المادي للأفراد.

 

فبناءً على هذه الأسس لتصنيف تقدم الدول، لا حرج في أن تكون الدولة متأخرة في جوانب أخرى، وفي تقديري هي أهم من الجانب الاقتصادي المادي البحت، وهو الجانب المتعلق بحماية الموارد البيئية وصيانة ثرواتها الطبيعية من ماءٍ وهواءٍ وتربة، وحمايتها جميعها من التدهور النوعي والكمي، أي في نهاية المطاف حماية صحة الإنسان.

 

فالدولة ستظل متطورة ومتقدمة حسب تعريف المجتمع الدولي للتقدم، حتى ولو فشلت في توفير ماء الشرب العذب الزلال الصافي لكل مواطن وفي جميع مدن وقرى هذه الدولة، فلا حرج في أي يشرب المواطن ماءً ملحاً أجاج،أو ماءً آسِن يُضعف جسده، ويصيبه بالأمراض والأسقام بدلاً من أن يكون هذا الماء عوناً له على تقوية بدنه وصحة أعضاء جسمه.

 

واستناداً إلى هذا التعريف ستستمر الدولة متطورة ومتقدمة حتى ولو سقطت في امتحان توفير الهواء النظيف النقي للمواطن، فلا عيب ولا ينتقص من قوة الدولة وتصنيفها إذا استنشق المواطن في كل ثانية هواءً مشبعاً بشتى أنواع السموم والمواد المسرطنة، فيتحول الهواء عندئذٍ من عامل بناءٍ وقوة للبدن إلى عامل فسادٍ وضعف وأسقامٍ وعلل. 

 

واعتماداً على هذا التعريف لا حرج على هذه الدول المتقدمة أن تهمل صحة ثرواتها المائية الطبيعية، من بحارٍ وأنهارٍ وبحيراتٍ ومياه جوفية، فلا عَيبَ في أن تسمح للملوثات من أن تسرح وتمرح في جسدها فتؤذي الناس وتؤدي إلى هلاك صحتهم.

 

ودعوني أضرب لكم مثالاً واحداً فقط من بين أمثلة كثيرة لا يمكن حصرها هنا، ومن أعظم دولة متقدمة على وجه الأرض، وبالنسبة لقضيةٍ بيئية واحدة فقط وهي مدى نجاح هذه الدولة المتطورة في توفير مياه الشرب النظيفة والصحية للمواطنين في جميع أنحاء الولايات. فقد نشرت مجلة التايم تحقيقاً في التاسع من يونيو من العام الجاري تحت عنوان: "تقرير يفيد بأن مياه الشرب لـ 15 مليون أمريكي ملوثة بمادة كيميائية سامة"، حيث أشارت المجلة إلى أن نحو 15 مليون أمريكي في 27 ولاية يشربون مياهاً غير آمنة وملوثة بمادة كيميائية عضوية متعددة الفلور تُستخدم في المئات من الأدوات المنزلية ولها انعكاسات صحية على الإنسان.كما نشر مجلس دفاع الموارد الطبيعية(Natural Resources Defense Council تقريراً في 28 يونيو 2016 أكد فيه بأن أكثر من 18 مليون مواطن أمريكي يشربون مياهاً لا تتوافق مع المواصفات الخاصة بمياه الشرب، وتتجاوز الحدود الآمنة لمستويات الرصاص والنحاس. وعلاوة على هذا، فقد نَشرت صحيفة "أمريكا اليوم"، أو "يو إس إيه توداي" في 16 مارس 2016 تحقيقاً شاملاً وموسعاً غطى فترة زمنية من عام 2012 حتى 2015 حول انتشار ظاهرة ارتفاع تركيز الرصاص في مياه الشرب على مستوى مدن أمريكا، حيث كشف التحقيق أن هناك نحو 75 مليون وحدة سكنية في أمريكا تم بناؤها قبل عام 1980 ومعظم هذه الوحدات تحتوي على أنابيب قديمة مصنوعة من الرصاص، وهذا يعني تعرض المواطن الأمريكي لمياه مشبعة بالرصاص بدرجاتٍ متفاوتة، وهذا بدوره ينعكس على دم الإنسان الأمريكي وغذائه ويتراكم الرصاص في نهاية المطاف في الدم أو في العظام، ويسبب أزمات صحية مزمنة، وبخاصة بالنسبة للأطفال. وجدير بالذكر أن هذا الرصاص الموجود في مياه الشرب ينعكس على غذاء الإنسان، حيث نشر صندوق الدفاع البيئي تقريراً في 15 يونيو من العام الجاري أكد فيه أن 20% من عينات غذاء الأطفال كانت مسمومة بالرصاص.

 

والآن هل يمكن أن أُصنِّف دولة ما بأنها متقدمة ومتطورة وراقية إذا لم تنجح في تقديم أبسط الخدمات للناس وهي مياه الشرب الصحية والآمنة الخالية من الأسقام؟ وماذا يفيد هذا التقدم للناس إذا أُصيبوا بأمراض مستعصية لا يمكن علاجها مهما كان هؤلاء الناس أغنياء ولديهم ثروات طائلة؟

المثوى الأخير للبلاستيك الذي تَتَخلصُ منه


هل فكرتَ يوماً ما في مصير المخلفات البلاستيكية التي ترميها في البر أو البحر، وهل جاءك الفضول لتعرف أين تذهب مخلفاتك البلاستيكية وكيف تنتقل بعد أن تخلصت منها، وأين سيكون مثواها الأخير؟

 

الإجابة عن هذا السؤال ستجعلك مندهشاً حائراً ومستغرباً من وصول مخلفاتك إلى مناطق لا تخطر على بالك أبداً، وتقع خارج نطاق تفكيرك.

 

فهناك مجموعة كبيرة من الدراسات التي تَابعتْ وراقبت عن كثب حركة وتنقلات المخلفات البلاستيكية بعد أن نرميها في البحر، منها على سبيل المثال دراسة تابعت وراقبت عن قرب تحرك وانتقال زجاجة بلاستيكية رُميت في سواحل شنجهاي في الصين، حيث حملتها يوماً بعد يوم تيارات المحيط الهادئ الشمالي لآلاف الكيلومترات حتى حَطتْ رِحالها أخيراً بالقرب من السواحل الشرقية الأمريكية، ودراسة أخرى مشت خطوة بخطوة مع زجاجة ألقيت على سواحل مدينة كورنوال البريطانية إلى أن وصلت إلى محطتها النهائية في مقبرةٍ جماعية في غرب المحيط الأطلسي الشمالي، ودراسة ثالثة أكدت بأن المخلفات البلاستيكية التي تلقى في مدينة مومباي الهندية ستكون مثواها الأخير في مقبرة المحيط الهندي.

 

فهناك الآن في محيطات العالم وبحارها ست مقابر جماعية تتجمع وتتراكم فيها المخلفات منذ أن دخل البلاستيك إلى أسواقنا، من أشهرها وأكبرها المقبرة الجماعية الهائلة الموجودة في قلب المحيط الهادئ، ويُطلق عليها بقعة المخلفات العظيمة(Great Pacific Garbage Patch)، وهذه المخلفات ومنذ عقودٍ طويلة من الزمن تسرح وتمرح في هذه المقابر وتحوم حول نفسها وتدور في سجنٍ كبير مغلق الأبواب ولا يمكن الخروج منه، ودائرة هذا السجن تتسع ساعة بعد ساعة إلى درجة أن التقارير المنشورة من الأمم المتحدة تفيد بأن كمية البلاستيك في المحيطات والبحار ستكون في المستقبل القريب المنظور أعلى من كمية الأسماك!

 

وفي المقابل هناك المقبرة الجماعية التي بدأت تتكون مؤخراً في القطبين الشمالي والجنوبي، حيث أكدت دراسة نُشرت في 19 يونيو من العام الجاري في مجلة علوم البيئة الكلية(Science of the Total Environment) على انكشاف ظاهرةٍ خطيرة جداً تتمثل في أن كمية المخلفات البلاستيكية الصغيرة الحجم(الميكروبلاستيك) الموجودة في هذه المناطق النائية والمنعزلة والبعيدة عن أعين وأيدي البشر أعلى بخمسة أضعاف من مناطق الأنشطة البشرية، مما يؤكد لنا جميعاً أن المخلفات التي نرميها ولا نُلقي لها بالاً تصل إلى أكثر البيئات بُعداً عن توقعاتنا، فلا تؤثر علينا نحن فحسب وإنما ستؤثر على أحفادنا والأجيال المتلاحقة من بعدنا، ونكون قد ورثْناهم مخلفات هُم في غِنى عنها. 

                                                                                                              

 

الثلاثاء، 25 يوليو 2017

الشعب الأمريكي مُخدَّر


لفتت انتباهي واستغرابي صورة نُشرت في معظم الصحف الأمريكية، وهذه الصورة تُشاهد فيها منظراً عجيباً غريباً ليس علي شخصياً فحسب وإنما ربما على المجتمع الغربي عامة، فتُشاهد الطابور الطويل من الشعب الأمريكي الواقف بلهفةٍ شديدة لساعاتٍ طويلة أمام أحد المحلات، وهذا المحل ليس لشراء الحاجيات الحياتية الأساسية التي لا يعيش بدونها الإنسان ولا يستغني عنها يوماً واحداً كرغيف الخبز أو الحليب، وإنما أَرهق هذا الإنسان نفسه واقفاً ومنتظراً وصابراً من أجل حاجةٍ أخرى أدمن عليها واعتمد عليها كلياً، فلا تستقيم حياته اليومية بدون اقتنائها وتناولها.

 

فما أن أُعلنَ عن بيع الحشيش أو الماريوانا رسمياً في ولاية نيفادا لأغراض الترويح عن النفس والتسلية في الأول من يوليو من العام الجاري حتى هَبَّ الناس سراعاً على شكل سيولٍ بشرية، وهجموا في ساعات الصباح الباكر للاصطفاف في طوابير عريضة وطويلة امتدت لمسافات أمام مراكز ومحلات بيع الحشيش، واستمر الحال على هذا الحال البائس لعدة أيام فقط حتى أن رفوف الحشيش أصبحت فارغة في هذه المحلات وبسرعةٍ شديدة، ونفد الحشيش كلياً من جميع مراكز ومحلات البيع.       

 

ولمواجهة احتياجات الناس من "الحشيش"، ونظراً لشدة الطلب المتزايد على هذا المخدر، اضطرت ولاية نيفادا وبعد أسبوعين فقط من السماح ببيع الماريوانا لأغراض الترويح عن النفس والتسلية، وبالتحديد في 13 يوليو ممثلة في "هيئة ضرائب نيفادا" إلى الموافقة على "إجراء طارئ" لسد هذا النقص والعجز في مخزون الحشيش وتسهيل انتقاله إلى محلات البيع.

 

وربما يقول البعض بأن هذا المنظر يمثل حالة واحدة فريدة قد وقعت في هذه الولاية، وليس نمطاً ومشهداً سائداً في المجتمع الأمريكي وفي ولاياتها الخمسين.

 

وللإجابة عن هذا السؤال أُقدم لكم بعض الحقائق حول واقعية استخدام الحشيش في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث إن هناك حالياً وحتى كتابة هذه السطور 28 ولاية إضافة إلى العاصمة مقاطعة واشنطن تسمح باستعمال الحشيش لأغراض طبية ولعلاج المرضى، وهناك حتى الآن تسع ولايات قد سمحت باستخدام الحشيش للاستعمال الشخصي ولأغراض الترويح والتسلية، وأعداد الولايات في ازدياد مطرد كل سنة، وعلاوة على هذا فإن أعداد الأمريكيين الذين يوافقون على السماح لاستخدام الحشيش لأغراض طبية أو للترويح عن النفس في ازدياد مستمر كل سنة. وفي الإحصاء المنشور في العشرين من أبريل من العام الجاري في صحيفة الواشنطن تايمس، أكد 71% من الأمريكيين موافقتهم على السماح لاستخدام الحشيش بشكلٍ عام، و 83% منهم وافق على استخدامه لأغراض طبية في حين أن 49% وافق لأغراض شخصية وللترويح عن النفس. والآن في الولايات التي تسمح لاستخدام الحشيش لأغراض شخصية، تشاهد فيها أجهزة الصراف الآلي للحشيش منتشرة في الشوارع، كما ترى بشكلٍ ملحوظ محلات لبيع الحشيش دون أن تخرج من سياراتك، كما تشتري الهامبيرجر!

 

وفي المقابل هناك في الولايات المتحدة الأمريكية إدمان على نوعٍ آخر من المخدرات وصل إلى درجة "الوباء"، كالأفيون والهيروين، والعلماء والأطباء والمختصون يصرخون ويحذرون من استفحال هذا الوباء في المجتمع الأمريكي كانتشار النار في الهشيم. فقد جاء في مقالين في صحيفة النيويورك تايمس التحذير من هذا الوباء، حيث نُشر المقال الأول في السادس من يناير من العام الجاري تحت عنوان: "نظرة من الداخل لوباء المخدرات: مشهد من أزمة إدمان أمريكا على الأفيون"، والثاني في الثامن من يناير من العام الجاري وعنوانه: "مد الأفيون من الساحل الشرقي إلى الساحل الغربي"، كما نُشر أيضاً مقال في 22 يونيو من العام الجاري حول الأفيون القاتل الجماعي للشعوب، وفي هذه المقالات تم التأكيد على عدة حقائق منها أن هناك ارتفاعاً مشهوداً ومتزايداً كل سنة في عدد الموتى من الشعب الأمريكي بسبب تعاطي الأفيون أو الهيروين، وبخاصة الذين تقل أعمارهم عن الخمسين عاماً، ففي عام 2015،وباء الأفيون قضى على 33 ألف أمريكي، وارتفع عدد الموتى في عام 2016 إلى 59 ألف بسبب الجرعة الزائدة، علماً بأن إحصاءات المركز القومي حول استخدام المخدرات والصحة يفيد بأن هناك 1.35 مليون أمريكي من الفقراء ذوي الدخل المحدود يعانون من وباء الأفيون. وفي الأول من يوليو من العام الجاري نشرت صحيفة النيويورك تايمس خبراً حول تخصيص الحكومة لمبلغ وقدره 45 بليون لمحاربة الإدمان في المجتمع الأمريكي على المخدرات، وبخاصة الأفيون، ومعالجة ضحايا هذا الوباء، كما نشرت الصحيفة نفسها تحقيقاً في 13 يوليو من العام الجاري حول ظاهرة جديدة بدأت تتفشى وهي ولادة أطفال مدمنين على المخدرات، وبالتحديد الأفيون، وعنوانه:" مدٌ كبير من الأطفال المولودين حديثاً والمدمنين على المخدرات"، حيث أكد على أنه في الفترة من 2003 إلى 2012 ارتفع عدد الأطفال المولودين وهم يعانون من الإدمان خمسة أضعاف، ففي ولاية كنتكي، على سبيل المثال، 15 طفلاً من بين ألف طفل يعانون من هذه الحالة، وهناك الآن نحو 2.5  مليون طفل تحت العناية الخاصة لعلاج ظاهرة الإدمان منذ الولادة.

 

والآن وبعد هذه الإحصاءات الرسمية والحقائق الدامغة يشك أي إنسان بأن الشعب الأمريكي يعاني من وباء المخدرات بشكلٍ عام، وأنه شعب مخدر؟

الثلاثاء، 18 يوليو 2017

التحدي الحقيقي للحكومات


لا تدري ماذا تفعل الصين لتواجه التحدي العصيب الذي يقف أمام استدامة تنميتها، ولا تعلم كيف تتعامل مع هذه الأزمة الصحية البيئية العقيمة التي تعاني منها منذ أكثر من عقدٍ من الزمان وتقاسي من تداعياتها الكبيرة على المجتمع الصيني برمته، ففي حين أنها نجحت في الماضي في تحقيق المعجزة الاقتصادية المشهودة أمام الجميع وأبهرت العالم بهذا الإنجاز، فشلت حتى الآن في امتحان التحدي الجديد المتمثل في تحقيق الأمان الصحي البيئي لملايين المواطنين الذين يعيشون في المدن الحضرية الكبرى، مثل العاصمة بكين وشنغهاي وغيرهما، كما سقطت في إبداع الحلول الجذرية والمستدامة للقضاء كلياً عليها.

 

فالصين أيقنت اليوم وبعد هذه التجربة المريرة القاسية والخبرة الطويلة أن التحدي الحقيقي للدول لا يكمن في بلوغ النمو الاقتصادي الكبير والسريع فقط، وإنما في كيفية تحقيق هذا النمو الاقتصادي دون تدميرٍ أو إفسادٍ لجوانب أخرى حيوية وهامة جداً، كما يتمثل التحدي في كيفية إحداث التوازن الدقيق بين النمو الاقتصادي المنشود وبين النمو في الجوانب الأخرى في الوقت نفسه، وتجنب إلحاق الضرر والدمار بها، وبالتحديد الجانبين الاجتماعي والبيئي الصحي.

 

فالعمليات التنموية إذا ركزت فقط على الجانب الاقتصادي وأهملت الجوانب الأخرى فإنها ستنقلب حتماً ولو بعد حين إلى دمارٍ وفسادٍ كبيرين، وتصبح وبالاً ونقمة بدلاً من أن تكون ثراءً ونعمة، وتتحول من أداةٍ للخير والبناء إلى أداة للشر والخراب، ومن أداةٍ للرقي والتطور إلى عامل هدمٍ وتأخر.

 

فها هي الصين تجني الثمار الخبيثة للبذور الفاسدة التي زرعتها في الأرض ورعتها وروتها بمياهٍ آسنة أُجاج، فأقامت بشكلٍ عاجلٍ عشوائي وغير مدروس الملايين من المصانع بمختلف أحجامها وأنواعها في معظم بقاع الصين،وأنشأت الآلاف من محطات توليد الكهرباء العملاقة، وأدخلت كافة أنواع وسائل المواصلات في شوارعها وطرقاتها بدرجةٍ لم يسبق لها مثيلاً، وفي الوقت نفسه سمحت لملايين الأطنان من شتى أنواع الملوثات من جميع هذه المصادر من الدخول في كافة الأوساط البيئية، في الهواء والمياه السطحية والجوفية والتربة، دون حسيبٍ أو رقيب،أو نظامٍ رشيد يُقنن دخولها في البيئة.

 

وكانت النتيجة الحتمية والطبيعية لهذا النمط العشوائي للنمو هي التدمير الشامل لكافة الموارد والثروات البيئة وإفساد عام للأمن الصحي للناس. وجاءت مظاهر وصور هذا التدمير في ما يلي:

أولاً: تلوث شديد للهواء الجوي في بعض المدن الكبرى لدرجة أن هذا الهواء تحول من صحةٍ وعافية للناس إلى وباءٍ ومرض، واعترف عُمدة العاصمة الصينية وانج أنشن بهذا الوضع الكارثي للهواء الجوي عندما قال في 28 يناير من 2015 أن:"هواء بكين غير قابل للحياة"، أو بعبارة أخرى هواء العاصمة الصينية لا يمكن العيش فيه بالنسبة للإنسان.

ثانياً: اعترفت التقارير الحكومية الرسمية عن وجود أكثر من500 قرية سرطانية في الصين، أي قرى ترتفع فيها مستويات الإصابة بالسرطان نتيجة لتدهور الهواء، والمياه السطحية والجوفية وتسمم التربة.

ثالثاً: أكدت التقارير الحكومية بأن 19.4% من الأراضي الزراعية، أي نحو 3.33 مليون هكتار، مسمومة بملوثات خطرة تهدد صحة الإنسان والكائنات الفطرية النباتية والحيوانية ، وانعكس هذا التلوث على نوعية المحاصيل وجودتها وصلاحيتها لاستهلاك الإنسان، فزهاء 12 مليون طنٍ من الحبوب والرز التي تم إنتاجها كانت مسمومة بهذه الملوثات، إضافة إلى أن نحو 60% من المياه الجوفية مسمومة وغير صالحة للشرب والاستهلاك الآدمي أو الحيواني أو النباتي، و 85% من أنهار الصين غير صالحة للشرب.

رابعاً: هذا التدمير الشامل انقلب سلباً على النمو الاقتصادي حسب الدراسة المنشورة في مجلة علوم وتقنيات البيئة في أبريل من العام الجاري، تحت عنوان: "التأثيرات الاقتصادية الناجمة عن الانعكاسات الصحية من الجسيمات الدقيقة وتأثيرها على الناتج المحلي الإجمالي".

ونظراً لواقعية هذه الحالة واشتداد معاناة المجتمع الصيني بيئياً وصحياً واجتماعياً واقتصادياً وأمنياً، قال الرئيس الصيني في عام 2014: أنَّ علينَا أن نتعامل مع البيئة بالطريقة نفسها التي نحافظ فيها على حياتنا، وأن البيئة يجب أن لا تعاني من أجل النمو الاقتصادي". ثم جاءت التصريحات التاريخية لرئيس الوزراء الصيني التي أعلن فيها الحرب على التلوث قائلاً: "التلوث مشكلة رئيسة، والحكومة ستعلن الحرب على الضباب الملوث للهواء في المدن من خلال التخلص من السيارات الملوثة للبيئة وإغلاق الأفران التي تعمل بالفحم"، وأضاف قائلاً أن: "التلوث هو التحذير والضوء الأحمر للطبيعة بسبب النمو غير الفاعل والأعمى في بلادنا، ولذلك فإن تبني سياسة النمو البيئي المعقول ضروري وهام لحياة الناس ومستقبل أمتنا".

ولذلك فالصين بعد أن حققت النمو الاقتصادي تواجه اليوم هذا التحدي الحقيقي الذي قد يقضي على نموها في السنوات الماضية، وفي كل يوم نقرأ عن إجراءات جديدة لمكافحة هذا الكرب العظيم، وآخرها في العاشر من يوليو من العام الجاري عندما أعلنت الصين عن إنشاء "مدن الغابات"، والتي تعتمد أساساً على زراعة غابات كثيفة من الأشجار في المباني والمنازل والشوارع وكافة مرافق المدينة بهدف امتصاص الملوثات الموجودة في الهواء الجوي وتحسين نوعية الهواء، إضافة إلى الاعتماد على مصادر الطاقة النظيفة والمتجددة التي لا تنبعث عنها السموم، وبعبارة أخرى فالصين تسعى الآن لتحقيق النمو الاقتصادي ولكن ليس على حساب البيئة ومواردها الحية وغير الحية.

 

فهل تنجح الصين في مواجهة هذا التحدي العظيم وفي حربها ضد التلوث بعد أن استفحل وانتشر الفساد البيئي والصحي في مُدنها وقراها؟

                              

الجمعة، 14 يوليو 2017

البقرة في قَفَص الاتهام!


هذه البقرة الذلُول المطيعة التي تخدم البشرية جمعاء منذ أن خلق الله الأرض ومن عليها، فنستفيد من حليبها، ومن لحمها، ومن جلدها، ومن كل قطعةٍ صغيرة أو كبيرة من جسمها، وهي في الوقت نفسه التي تحرث الأرض، وتُنعش التربة، وتنمي الزرع، فقد عِشْنا على خيراتها سنواتٍ طويلة كما عاش الأقدمون، وستظل هذه البقرة معطاءة ومنتجة للأجيال اللاحقة.

فهذه البقرة أصبحت اليوم حَبِيسة في قفص الاتهام، ليس لها من يدافع عنها وعن حقوقها وعن تاريخها المشرِّف العريق، فالتُهمة الموجهة إليها الآن أنها وبعد قرونٍ طويلةٍ من العطاء، أصبحت غير "صديقة للبيئة"، فهي تنبعث عنها مخلفات غازية تؤثر على درجة حرارة الأرض وتُكوِّن ظاهرة التغير المناخي المشهودة، بل وإن الكثير من العلماء يُطلقون عليها بـ "القنبلة المناخية".

فتفاصيل هذه التهمة تتلخص في عدة نقاط. أما الأولى فهي انبعاث غاز الميثان من الأبقار نتيجة لعملية مضغ وهضم الطعام وتحلله في الجهاز الهضمي، حيث يخرج هذا الغاز من جسم البقرة من خلال "التَجَشؤ" والتنفس، وهذا الغازيعتبر من أشد الغازات والملوثات وطأةً وتأثيراً على الكرة الأرضية من حيث وقوع ظاهرة التغير المناخي وسخونة الأرض، فلهذا الغاز قدرة أكثر من23 مرة من الغازات الأخرى المتهمة برفع درجة حرارة الأرض، وبالتحديد غاز ثاني أكسيد الكربون. أما تركيز ونسبة الميثان التي تنطلق من الأبقار فتعتمد على نوعية الأعلاف التي تستهلكها هذه الأبقار وتتغذى عليها حسب الدراسة التي نشرتها منظمة "الحدائق الملكية البريطانية" ومركز أبحاث سينكبيرج للمناخ والتنوع الحيوي في 29 مارس من العام الجاري، حيث أكدت الدراسة على أهمية نوع الغذاء والعلف في حجم انبعاث الميثان من الأبقار، فكلما زادت صعوبة هضم البقرة للنبات أو العلف ارتفعت نسبة الميثان، لأن الأكل يستغرق في المعدة وقتاً أطول لهضمه.

وأما التهمة الثانية فهي أن مخلفات الأبقار الصلبة والسائلة عند تحللها وتعرضها للهواء الجوي ومتغيرات الطقس من حرارة وضوء وغيرهما تنبعث منهما أيضاً مجموعة من غازات الدفيئة، أو الغازات التي ترفع درجة حرارة كوكبنا، منها على سبيل المثال غاز أُكسيد النيتروز، وهو أقوى بـ 298 مرة من ثاني أكسيد الكربون، أي أن له قدرة شديدة ومرتفعة جداً على إحداث التغير المناخي في الكرة الأرضية. وأما النقطة الثالثة فتتعلق في تربية الأبقار والمواشي وما يصاحبها من استخدام واسع النطاق للمبيدات الحشرية بأنواعها المختلفة في زراعة الأعلاف، إضافة إلى استعمال الوقود الأحفوري في عملية الزراعة بشكلٍ عام، والتي تنبعث عنها ملوثات، وبخاصة ثاني أكسيد الكربون، المتهم الرئيس في وقوع ظاهرة التغير المناخي.

فالأبقار والمواشي بشكلٍ عام يتحملون مسؤولية 18% من مجموع انبعاث غازات الدفيئة والغازات التي تؤدي إلى سخونة الأرض على المستوى الدولي، حسب أحدث تقارير منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة(الفاو).

وفي السياق نفسه، نشرتَ منظمة بيئية دولية غير ربحية يُطلق عليها مجلس الدفاع عن الموارد الطبيعية تقريراً في 20 مايو من العام الجاري حول علاقة المواد الغذائية التي يستهلكها المواطن الأمريكي بالتغير المناخي ورفع درجة حرارة الأرض، وقد شملت قائمة مكونة من عشرة أنواع من أكثر المواد الغذائية الرئيسة التي يستهلكها يومياً.

وقد جاءت نتائج الدراسة لتُؤكد التهمة الموجهة للبقرة، وتُثبت دورها الرئيس ومساهمتها الكبيرة في التغير المناخي، حيث أفادت بأن لحم البقر يقع في المرتبة الأولى من بين الأغذية التي يتناولها الأمريكي، فالكيلوجرام من لحم البقر ينبعث منه إلى الهواء الجوي قرابة 26.5 كيلوجرام من ثاني أكسيد الكربون، في حين أن استهلاك كيلوجرامٍ من لحم الغنم يولِّد 22.9 كيلوجرام من ثاني أكسيد الكربون، أي يحتل المرتبة الثانية بعد لحم البقر، ولحم الخنزير ينطلق منه قرابة 7.9 كيلوجرام من ثاني أكسيد الكربون إلى الهواء الجوي مقارنة بالدجاج والديك الرومي الذي ينبعث منه قرابة 5 كيلوجرامات من ثاني أكسيد الكربون.

ولذلك يوجه العلماء أبحاثهم الآن نحو كيفية الحد من انبعاث هذه الملوثات من الأبقار من أجل خفض تأثيرها على كوكبنا، منها إنتاج مادة كيميائية ضد "التجشؤ"، أو في الأقل أنها تُقلل من عدد مرات تجشؤ البقرة، فتُوضع هذه المادة الكيميائية مع العلف والمواد الغذائية التي تُقدم للأبقار ويُطلق عليها نيترو أوكسي بروبانول(3-nitrooxypropanol)، ومنها جمع غاز الميثان من الأبقار واستخدامه كمصدر للطاقة، حيث إنه من المعروف أن غاز الميثان هو الغاز الطبيعي الذي يستخرج من باطن الأرض ويستخدم في توليد الكهرباء وكمصدر للوقود.

الاثنين، 10 يوليو 2017

أمريكا تَعْزل نفسها مناخياً


اختارتْ الولايات المتحدة الأمريكية بمحض إرادتها أن تَتَقَوقع عن العالم الخارجي، وتنطوي على نفسها، وتعزل جسمها عن محيطها الخارجي من دول العالم بسياستها التي تبنتها منذ تولي ترمب سدة الحكم تحت شعار "أمريكا أولاً"، وهذه السياسة الحِمائية والانعزالية تغطي مجالات وقطاعات واسعة من بينها السياسات والاستراتيجيات الخاصة بحماية البيئة ومواردها وثرواتها العامة المشتركة، وبالتحديد تلك المتعلقة بالتغير المناخي ورفع درجة حرارة الأرض.

 

وقد تجلت هذه العُزلة المناخية للولايات المتحدة الأمريكية بشكلٍ جلي وواضح في اجتماع دول مجموعة العشرين الذي أُسدل الستار عن أعماله في الثامن من يوليو من العام الجاري، حيث تمخضت عنه وثيقة ختامية تحت عنوان: “إعلان مجموعة العشرين: تَشكِيل لِعَالم مُتصل"، وجاءت في الإعلان بنود لا شك فيها تؤكد على القطيعة الأمريكية لقضية التغير المناخي خاصة، وتؤكد في الوقت نفسه إجماع واتفاق الدول كلها باستثناء الولايات المتحدة الأمريكية على التعهد بتنفيذ اتفاقية باريس الخاصة بالتغير المناخي، ومن هذه البنود التي وردت في الإعلان:"نحن قد لاحظنا قرار الولايات المتحدة الأمريكية الانسحاب من معاهدة باريس حول التغير المناخي.....ونحن قادة الدول نُؤكد على أن الاتفاقية غير قابلة للمراجعة ونهائية، ونُكرر التزامنا القوي بهذه الاتفاقية".

 

وجدير بالذكر أن هذه العزلة المناخية الطوعية والانشقاق عن الإجماع الدولي ليست وليدة اليوم، وإنما هي سياسة عامة يسير على نهجها الحزب الجمهوري منذ عقود ولكنها تكرست وتعمقت بشكلٍ أشد وأكثر قوة ووضوح في عهد الرئيس ترمب، فانسحاب الولايات المتحدة الأمريكية في الأول من يونيو من العام الجاري من اتفاقية باريس حول التغير المناخي والتي وقعت عليها 195 دولة، سبقها انسحاب آخر من بروتوكول كيوتو لعام 1996 حول التغير المناخي في عهد الرئيس الأسبق جورج بوش الابن.

 

ولكن في هذه الحالة التي نشاهدها أمامنا اليوم، قرر المجتمع الدولي أن يُعلن بدء مسيرة قطار التغير المناخي، وأن يتحرك هذا القطار في اتجاه تنفيذ بنود اتفاقية باريس للتغير المناخي حتى بدون أن تركب الولايات المتحدة الأمريكية هذا القطار وتتخلف عنه.

 

فقد وجد العالم "فرصة" عظيمة يجب عدم تفويتها واستغلالها، وهي ليست فرصة لحماية مكونات البيئة الحية وغير الحية ومنع سخونة الأرض والتداعيات العصيبة التي تنجم عنها فحسب، وإنما هي في الوقت نفسه فرصة اقتصادية ثرية، وسوق مالية غنية وواسعة ستَتَكون على المستوى الدولي عند الالتزام باتفاقية باريس وتنفيذ بنودها بشكلٍ جماعي مشترك، وذلك من حيث التوجه نحو "الاقتصاديات الخضراء" والمتمثلة في اقتصاديات الطاقة النظيفة وأنواع الوقود المتجددة والصديقة للبيئة، مثل الطاقة الشمسية، وطاقة الرياح، وطاقة المخلفات العضوية، والطاقة المائية، إضافة إلى الأنواع النظيفة ومنخفضة التلوث من الوقود الأحفوري، كالغاز الطبيعي، والغاز الطبيعي المـُسال.

 

فعند ولوج دول العالم برمتها نحو الاقتصاد الأخضر من خلال تحقيق أمن الطاقة وتطوير واستخدام والاستثمار في كافة أشكال وأنواع مصادر الطاقة المتجددة والنظيفة بيئياً، فعندها يضرب المجتمع الدولي عصفورين بحجرٍ واحد. أما الأول فيتمثل في تحسين نوعية البيئة التي نعيش فيها، وبالتحديد بيئة الهواء الجوي، فنتخلص في الوقت نفسه من المظاهر البيئية الكارثية التي لها علاقة بجودة الهواء، وبخاصة ظاهرة التغير المناخي وارتفاع درجة حرارة كوكبنا والتي لها تداعيات وانعكاسات وخيمة على الإنسان وبيئته على مستوى الأرض برمتها، مثل ارتفاع درجة حرارة المحيطات وارتفاع مستوى سطح البحر، ونزول الفيضانات والأعاصير المهلكة للحرث والنسل، وظهور الأمراض المعدية والمستعصية على العلاج. وكل هذه المردودات البيئية تضرب اقتصاد الدول، وترهق ميزانياتها وتدخل العالم في حالةٍ من الركود وعدم الاستقرار الاقتصادي. وفي الوقت نفسه فإن لهذه المردودات أبعاد أمنية خطيرة تهدد استقرار الدول وتزعزع الأمن على المستوى المحلي، والإقليمي، والدولي.   

 

أما الثاني فإن التوجه نحو تقانات مصادر الطاقة الحديثة نسبياً وخلق سوقٍ مستقل لها، يكون الملايين من الوظائف التي تحتاج إليها دول العالم قاطبة لتخفيف حدة البطالة وتحسين الاقتصاد ورفع مستوى معيشة الأفراد والمجتمعات.

 

ولذلك أيقنت دول العالم مَعالم وخيوط هذه الفرصة الذهبية السانحة، وتأكدت بأن لحظة القرار الدولي الجماعي المشترك قد جاءت ويجب عدم التفريط فيه، حتى لو كانت بدون الولايات المتحدة الأمريكية التي تُعد من أكبر اقتصاديات العالم ولها تأثير فاعل على الساحة الدولية.

 

فهل ستركب الولايات المتحدة الأمريكية قطار التغير المناخي لاحقاً، أم أنها ستبقى خارج المجتمع الدولي في قضية التغير المناخي؟