الجمعة، 7 يوليو 2017

هل هناك حَدٌ آمِنْ للتلوث؟



عباراتٌ ومصطلحات تتردد على ألسن الكثير من المسئولين ومن المثقفين والكُتاب منها عبارة "الحد الآمن للتلوث"، أو "المعايير البيئية الآمنة"، أو "المواصفات البيئية المسموح بها دولياً"، وكل هذه المصطلحات غير صحيحة وتقدم مفاهيم غير سليمة للناس، وأثبتت آخر الدراسات العلمية والأبحاث الميدانية على خطئها، بل وأَجْمعتْ على أنها لا تتفق مع الحقائق البيئية والعلمية التي توصلت إليها حديثاً.

فعندما نستخدم عبارة "الحد الآمن للتلوث" فإننا نُشيع للناس فكرة غير دقيقة، ومبدأً خاطئ وغير سليم، وهو أن الملوثات التي نُطلقها بأيدينا ونسمح لها بالدخول في عناصر بيئتنا من مصادرها التي لا تعد ولا تحصى لا تؤثر على مكونات بيئتنا الحية وغير الحية ولا تضر بصحتنا إذا وُجدتْ بمستويات محددة وبتراكيز معينة منخفضة.

كما أننا عندما نُطلق على الملأ مصطلح وعبارة "المعايير البيئية الآمنة" ونكررها في كل مناسبة، فإننا في الواقع نخدع الناس بأن المعايير البيئية الخاصة بالهواء، أو الماء، أو التربة تحقق الأمن الصحي للإنسان والكائنات الحية التي تعيش معه، وتمنع عنه شر الوقوع في شباك الملوثات القاتلة والأمراض المستعصية.

كذلك عندما نستخدم عبارة "المواصفات والملوثات البيئية المسموح بها دولياً" فإننا نُرسخ في أذهان عامة الناس بأن هناك مواصفات بيئية دولية قد أجمعت عليها دول العالم وأقرتها في مؤتمرات خاصة نُظمت لهذا الغرض، مما لا يتوافق مع الواقع، إذ لا توجد هناك معايير بيئية متفق عليها دولياً خاصة بالنسبة لجودة الهواء أو الماء، فكل دولة تضع المعايير البيئية التي تتناسب مع ظروفها البيئية، وأوضاعها الاقتصادية، وأهوائها السياسية والحزبية، وإمكاناتها الفنية والتقنية. وعلاوة على هذا، فإن تَبَني استخدام هذا المصطلح يُوحي بأن هناك مستويات للتلوث مسموح بها للدخول في بيئتنا، وأننا لا نمانع من انبعاث الملوثات عند مستويات معينة إلى الهواء الجوي، أو مياه البحار والأنهار والبحيرات، أو إلى المياه الجوفية، أو إلى التربة الزراعية وغير الزراعية.

فالحقائق العلمية التي انكشفت خلال السنوات القليلة الماضية تؤكد على ما يلي:
أولاً: لا يوجد حد آمن للتلوث في البيئة، فالملوثات جميعها تهلك جسد الإنسان وتدمر الحرث والنسل، ولو كانت بنسبٍ منخفضة جداً، ولو كان تركيزها أقل من المعايير والمواصفات الخاصة بعناصر البيئة.
ثانياً: المواصفات البيئية التي تضعها الدول ليست جامدة وثابتة، فهي تتغير مع الوقت واستناداً إلى المعلومات العلمية والبيئية التي تنكشف يوماً بعد يوم حول أضرار وتأثيرات الملوثات على الإنسان وبيئته، فوضع المعايير البيئية عملية ديناميكية متجددة، وتحتاج إلى التحديث من وقتٍ إلى آخر وتغيير تركيز الملوثات البيئية في هذه المواصفات، كما حدث بالفعل لبعض الملوثات، منها مواصفة غاز الأوزون في الهواء الجوي.

وآخر الدراسات التي تُثبت هذه الحقائق، ما قامت بها جامعة هارفرد الأمريكية العريقة ونشرتها في 29 يونيو من العام الجاري في المجلة الطبية المعروفة نيو إنجلند(New England Journal of Medicine) تحت عنوان: “تلوث الهواء وأعداد الموتى في الولايات المتحدة الأمريكية". فقد شملت الدراسة عينة ضخمة من المواطنين الأمريكيين بلغت 60 مليون يتعرضون لتلوث الهواء الجوي يومياً، وتابعت التطورات في حالتهم الصحية لمدة 12 عاماً، حيث أكدت هذه الدراسة على أن تلوث الهواء الجوي، وبالتحديد من غاز الأوزون ومن الدخان أو الجسيمات الدقيقة يؤدي إلى الموت المبكر ولو كان بنسبٍ منخفضة وأقل من المواصفات الأمريكية الخاصة بجودة الهواء. فالجسيمات الدقيقة بشكلٍ خاص تكمن خطورتها في أمرين، الأول في أنها متناهية في الصغر فتتمكن من النفاذ إلى أعماق الجهاز التنفسي في الرئتين والتراكم في الحويصلات النهائية وسد فتحاتها، والثاني فهذه الجسيمات تمتص على سطحها الملوثات الخطرة والمسرطنة الموجودة في الهواء الجوي وتُدخلها إلى أجسامنا عن طريق التنفس، فآثارها المهلكة عندئذٍ لا تنعكس على الجهاز التنفسي فحسب وإنما تمتد إلى الأوعية القلبية فتنقل الإنسان قبل أوانه إلى مثواه الأخير.

فهذه الاكتشافات الحديثة حول تلوث الهواء الجوي ودور الملوثات المشهود في تحطيم أجسادنا من المفروض أن تجعلنا نُشمر جميعاً للقضاء عليه كلياً أينما كان، ونمنع دخول الملوثات إلى كل مكونات بيئتنا، مهما كان تركيزها، فالملوثات كلها خطرة وضارة وليس هناك حد آمن أو تركيز سليم لا يؤثر على الصحة العامة.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق