الأحد، 30 يوليو 2017

الدول المتقدمة وتوفير مياه الشرب


قبل أن تَفْرُض البيئة وهمومها نفسها على الساحة الدولية كورقة قوية وفاعلة لا يمكن تجاهلها أو غض الطرف عنها أو الاستهانة بها، كان العامل الاقتصادي هو سيد الموقف أولاً وأخيراً، وهو المحدد والموجه لأي قرارٍ دولي أو إقليمي أو على المستوى القومي، وكان البعد الاقتصادي وحده هو المسيطر كلياً على مجريات الأمور في الدول، وهو الذي يؤخذ في الاعتبار دون الرجوع إلى أية جوانب أخرى، كما كان العامل الاقتصادي البحت ونمو الدولة اقتصادياً هو الذي يَضع أية دولة ضمن قائمة الدول المتقدمة وفي مصاف الدول العظمى المتطورة.

 

فمنظمات الأمم المتحدة والبنك الدولي اعتمدت كلياً على المؤشرات الاقتصادية لتُقدم تعريفها للدول المتطورة والمتقدمة، فالبنك الدولي على سبيل المثال يعتمد في تصنيفه للدول المتقدمة والمتطورة على أساس الدخل القومي الإجمالي للفرد ويعتبر هذا المعيار هو الذي يفرق ويميز بين الدولة المتقدمة والدولة النامية والفقيرة، وصندوق النقد الدولي يعتمد على نصيب الفرد من الدخل القومي، إضافة إلى درجة التنوع في الصادرات ومستوى الاندماج في النظام المالي الدولي.

 

ولذلك اعتماداً على هذا التعريف، إذا أرَادتْ أية دولة أن تدخل في قائمة "النخبة"، وهي قائمة الدول الراقية والمتطورة، فكل ما عليها القيام به هو النمو الاقتصادي السريع والتركيز على مؤشرات النمو الاقتصادية البحتة، كرفع الناتج المحلي الإجمالي وإجمالي الناتج القومي ورفع المستوى المعيشي المادي للأفراد.

 

فبناءً على هذه الأسس لتصنيف تقدم الدول، لا حرج في أن تكون الدولة متأخرة في جوانب أخرى، وفي تقديري هي أهم من الجانب الاقتصادي المادي البحت، وهو الجانب المتعلق بحماية الموارد البيئية وصيانة ثرواتها الطبيعية من ماءٍ وهواءٍ وتربة، وحمايتها جميعها من التدهور النوعي والكمي، أي في نهاية المطاف حماية صحة الإنسان.

 

فالدولة ستظل متطورة ومتقدمة حسب تعريف المجتمع الدولي للتقدم، حتى ولو فشلت في توفير ماء الشرب العذب الزلال الصافي لكل مواطن وفي جميع مدن وقرى هذه الدولة، فلا حرج في أي يشرب المواطن ماءً ملحاً أجاج،أو ماءً آسِن يُضعف جسده، ويصيبه بالأمراض والأسقام بدلاً من أن يكون هذا الماء عوناً له على تقوية بدنه وصحة أعضاء جسمه.

 

واستناداً إلى هذا التعريف ستستمر الدولة متطورة ومتقدمة حتى ولو سقطت في امتحان توفير الهواء النظيف النقي للمواطن، فلا عيب ولا ينتقص من قوة الدولة وتصنيفها إذا استنشق المواطن في كل ثانية هواءً مشبعاً بشتى أنواع السموم والمواد المسرطنة، فيتحول الهواء عندئذٍ من عامل بناءٍ وقوة للبدن إلى عامل فسادٍ وضعف وأسقامٍ وعلل. 

 

واعتماداً على هذا التعريف لا حرج على هذه الدول المتقدمة أن تهمل صحة ثرواتها المائية الطبيعية، من بحارٍ وأنهارٍ وبحيراتٍ ومياه جوفية، فلا عَيبَ في أن تسمح للملوثات من أن تسرح وتمرح في جسدها فتؤذي الناس وتؤدي إلى هلاك صحتهم.

 

ودعوني أضرب لكم مثالاً واحداً فقط من بين أمثلة كثيرة لا يمكن حصرها هنا، ومن أعظم دولة متقدمة على وجه الأرض، وبالنسبة لقضيةٍ بيئية واحدة فقط وهي مدى نجاح هذه الدولة المتطورة في توفير مياه الشرب النظيفة والصحية للمواطنين في جميع أنحاء الولايات. فقد نشرت مجلة التايم تحقيقاً في التاسع من يونيو من العام الجاري تحت عنوان: "تقرير يفيد بأن مياه الشرب لـ 15 مليون أمريكي ملوثة بمادة كيميائية سامة"، حيث أشارت المجلة إلى أن نحو 15 مليون أمريكي في 27 ولاية يشربون مياهاً غير آمنة وملوثة بمادة كيميائية عضوية متعددة الفلور تُستخدم في المئات من الأدوات المنزلية ولها انعكاسات صحية على الإنسان.كما نشر مجلس دفاع الموارد الطبيعية(Natural Resources Defense Council تقريراً في 28 يونيو 2016 أكد فيه بأن أكثر من 18 مليون مواطن أمريكي يشربون مياهاً لا تتوافق مع المواصفات الخاصة بمياه الشرب، وتتجاوز الحدود الآمنة لمستويات الرصاص والنحاس. وعلاوة على هذا، فقد نَشرت صحيفة "أمريكا اليوم"، أو "يو إس إيه توداي" في 16 مارس 2016 تحقيقاً شاملاً وموسعاً غطى فترة زمنية من عام 2012 حتى 2015 حول انتشار ظاهرة ارتفاع تركيز الرصاص في مياه الشرب على مستوى مدن أمريكا، حيث كشف التحقيق أن هناك نحو 75 مليون وحدة سكنية في أمريكا تم بناؤها قبل عام 1980 ومعظم هذه الوحدات تحتوي على أنابيب قديمة مصنوعة من الرصاص، وهذا يعني تعرض المواطن الأمريكي لمياه مشبعة بالرصاص بدرجاتٍ متفاوتة، وهذا بدوره ينعكس على دم الإنسان الأمريكي وغذائه ويتراكم الرصاص في نهاية المطاف في الدم أو في العظام، ويسبب أزمات صحية مزمنة، وبخاصة بالنسبة للأطفال. وجدير بالذكر أن هذا الرصاص الموجود في مياه الشرب ينعكس على غذاء الإنسان، حيث نشر صندوق الدفاع البيئي تقريراً في 15 يونيو من العام الجاري أكد فيه أن 20% من عينات غذاء الأطفال كانت مسمومة بالرصاص.

 

والآن هل يمكن أن أُصنِّف دولة ما بأنها متقدمة ومتطورة وراقية إذا لم تنجح في تقديم أبسط الخدمات للناس وهي مياه الشرب الصحية والآمنة الخالية من الأسقام؟ وماذا يفيد هذا التقدم للناس إذا أُصيبوا بأمراض مستعصية لا يمكن علاجها مهما كان هؤلاء الناس أغنياء ولديهم ثروات طائلة؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق