الثلاثاء، 18 يوليو 2017

التحدي الحقيقي للحكومات


لا تدري ماذا تفعل الصين لتواجه التحدي العصيب الذي يقف أمام استدامة تنميتها، ولا تعلم كيف تتعامل مع هذه الأزمة الصحية البيئية العقيمة التي تعاني منها منذ أكثر من عقدٍ من الزمان وتقاسي من تداعياتها الكبيرة على المجتمع الصيني برمته، ففي حين أنها نجحت في الماضي في تحقيق المعجزة الاقتصادية المشهودة أمام الجميع وأبهرت العالم بهذا الإنجاز، فشلت حتى الآن في امتحان التحدي الجديد المتمثل في تحقيق الأمان الصحي البيئي لملايين المواطنين الذين يعيشون في المدن الحضرية الكبرى، مثل العاصمة بكين وشنغهاي وغيرهما، كما سقطت في إبداع الحلول الجذرية والمستدامة للقضاء كلياً عليها.

 

فالصين أيقنت اليوم وبعد هذه التجربة المريرة القاسية والخبرة الطويلة أن التحدي الحقيقي للدول لا يكمن في بلوغ النمو الاقتصادي الكبير والسريع فقط، وإنما في كيفية تحقيق هذا النمو الاقتصادي دون تدميرٍ أو إفسادٍ لجوانب أخرى حيوية وهامة جداً، كما يتمثل التحدي في كيفية إحداث التوازن الدقيق بين النمو الاقتصادي المنشود وبين النمو في الجوانب الأخرى في الوقت نفسه، وتجنب إلحاق الضرر والدمار بها، وبالتحديد الجانبين الاجتماعي والبيئي الصحي.

 

فالعمليات التنموية إذا ركزت فقط على الجانب الاقتصادي وأهملت الجوانب الأخرى فإنها ستنقلب حتماً ولو بعد حين إلى دمارٍ وفسادٍ كبيرين، وتصبح وبالاً ونقمة بدلاً من أن تكون ثراءً ونعمة، وتتحول من أداةٍ للخير والبناء إلى أداة للشر والخراب، ومن أداةٍ للرقي والتطور إلى عامل هدمٍ وتأخر.

 

فها هي الصين تجني الثمار الخبيثة للبذور الفاسدة التي زرعتها في الأرض ورعتها وروتها بمياهٍ آسنة أُجاج، فأقامت بشكلٍ عاجلٍ عشوائي وغير مدروس الملايين من المصانع بمختلف أحجامها وأنواعها في معظم بقاع الصين،وأنشأت الآلاف من محطات توليد الكهرباء العملاقة، وأدخلت كافة أنواع وسائل المواصلات في شوارعها وطرقاتها بدرجةٍ لم يسبق لها مثيلاً، وفي الوقت نفسه سمحت لملايين الأطنان من شتى أنواع الملوثات من جميع هذه المصادر من الدخول في كافة الأوساط البيئية، في الهواء والمياه السطحية والجوفية والتربة، دون حسيبٍ أو رقيب،أو نظامٍ رشيد يُقنن دخولها في البيئة.

 

وكانت النتيجة الحتمية والطبيعية لهذا النمط العشوائي للنمو هي التدمير الشامل لكافة الموارد والثروات البيئة وإفساد عام للأمن الصحي للناس. وجاءت مظاهر وصور هذا التدمير في ما يلي:

أولاً: تلوث شديد للهواء الجوي في بعض المدن الكبرى لدرجة أن هذا الهواء تحول من صحةٍ وعافية للناس إلى وباءٍ ومرض، واعترف عُمدة العاصمة الصينية وانج أنشن بهذا الوضع الكارثي للهواء الجوي عندما قال في 28 يناير من 2015 أن:"هواء بكين غير قابل للحياة"، أو بعبارة أخرى هواء العاصمة الصينية لا يمكن العيش فيه بالنسبة للإنسان.

ثانياً: اعترفت التقارير الحكومية الرسمية عن وجود أكثر من500 قرية سرطانية في الصين، أي قرى ترتفع فيها مستويات الإصابة بالسرطان نتيجة لتدهور الهواء، والمياه السطحية والجوفية وتسمم التربة.

ثالثاً: أكدت التقارير الحكومية بأن 19.4% من الأراضي الزراعية، أي نحو 3.33 مليون هكتار، مسمومة بملوثات خطرة تهدد صحة الإنسان والكائنات الفطرية النباتية والحيوانية ، وانعكس هذا التلوث على نوعية المحاصيل وجودتها وصلاحيتها لاستهلاك الإنسان، فزهاء 12 مليون طنٍ من الحبوب والرز التي تم إنتاجها كانت مسمومة بهذه الملوثات، إضافة إلى أن نحو 60% من المياه الجوفية مسمومة وغير صالحة للشرب والاستهلاك الآدمي أو الحيواني أو النباتي، و 85% من أنهار الصين غير صالحة للشرب.

رابعاً: هذا التدمير الشامل انقلب سلباً على النمو الاقتصادي حسب الدراسة المنشورة في مجلة علوم وتقنيات البيئة في أبريل من العام الجاري، تحت عنوان: "التأثيرات الاقتصادية الناجمة عن الانعكاسات الصحية من الجسيمات الدقيقة وتأثيرها على الناتج المحلي الإجمالي".

ونظراً لواقعية هذه الحالة واشتداد معاناة المجتمع الصيني بيئياً وصحياً واجتماعياً واقتصادياً وأمنياً، قال الرئيس الصيني في عام 2014: أنَّ علينَا أن نتعامل مع البيئة بالطريقة نفسها التي نحافظ فيها على حياتنا، وأن البيئة يجب أن لا تعاني من أجل النمو الاقتصادي". ثم جاءت التصريحات التاريخية لرئيس الوزراء الصيني التي أعلن فيها الحرب على التلوث قائلاً: "التلوث مشكلة رئيسة، والحكومة ستعلن الحرب على الضباب الملوث للهواء في المدن من خلال التخلص من السيارات الملوثة للبيئة وإغلاق الأفران التي تعمل بالفحم"، وأضاف قائلاً أن: "التلوث هو التحذير والضوء الأحمر للطبيعة بسبب النمو غير الفاعل والأعمى في بلادنا، ولذلك فإن تبني سياسة النمو البيئي المعقول ضروري وهام لحياة الناس ومستقبل أمتنا".

ولذلك فالصين بعد أن حققت النمو الاقتصادي تواجه اليوم هذا التحدي الحقيقي الذي قد يقضي على نموها في السنوات الماضية، وفي كل يوم نقرأ عن إجراءات جديدة لمكافحة هذا الكرب العظيم، وآخرها في العاشر من يوليو من العام الجاري عندما أعلنت الصين عن إنشاء "مدن الغابات"، والتي تعتمد أساساً على زراعة غابات كثيفة من الأشجار في المباني والمنازل والشوارع وكافة مرافق المدينة بهدف امتصاص الملوثات الموجودة في الهواء الجوي وتحسين نوعية الهواء، إضافة إلى الاعتماد على مصادر الطاقة النظيفة والمتجددة التي لا تنبعث عنها السموم، وبعبارة أخرى فالصين تسعى الآن لتحقيق النمو الاقتصادي ولكن ليس على حساب البيئة ومواردها الحية وغير الحية.

 

فهل تنجح الصين في مواجهة هذا التحدي العظيم وفي حربها ضد التلوث بعد أن استفحل وانتشر الفساد البيئي والصحي في مُدنها وقراها؟

                              

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق