الثلاثاء، 30 يناير 2024

توجيهات جلالة الملك والإدارة المتكاملة للثروة السمكية

 

أكد جلالة الملك في 28 يناير 2024 على ضرورة عمل ضوابط لتنمية الثروة السمكية وحمايتها، والاستمرار في عملية الاستزراع السمكي بما يفي متطلبات واحتياجات السوق المحلي، بالإضافة إلى وضع الإجراءات التي من شأنها المحافظة على الثروة السمكية وتنميتها باعتبارها من الموارد المهمة للمواطنين، وضمان استدامتها وحماية مواردها باعتبارها ثروة وطنية وإحدى ركائز الأمن الغذائي في البلاد.

 

وفي الحقيقة فإن هذه التوجيهات البالغة الأهمية لحماية وتنمية ثروة غذائية فطرية غنية ومتجددة، قد جاءت في الوقت المناسب والحرج جداً قبل أن تنبض هذه الثروة السمكية وتنقرض كلياً من مياه البحرين، فمؤشراتها وشواهدها الميدانية تتضح وتتعمق سنة بعد سنة من ناحية انخفاض الصيد السمكي، وانكماش مساحة الصيد، والتدهور الكمي والنوعي في الأسماك الموجودة في المياه الإقليمية البحرينية، إضافة إلى تدمير المصائد السمكية من فشوت وشعاب مرجانية وحشائش بحرية.

 

كما أن هذه التوجيهات قد أسست قواعد بناء ما أُطلق عليه "الإدارة المتكاملة والشاملة لحماية الثروة البحرية"، والتي تعني إدارة هذه الثروة الحية بأسلوب متكامل وشامل يغطي كل الجوانب والقطاعات المتعلقة بالحفاظ عليها وضمان استدامتها لنا وللأجيال القادمة من بعدنا، كما تشتمل على تَحَمُل كل جهة حكومية من وزارة وهيئات مسؤوليتها ودورها في هذه الحماية.

 

فالإدارة المتكاملة تعني الجانب القانوني والتشريعي لحماية الثروة البحرية المتعلق بتنظيم الصيد البحري ومراقبة ومحاسبة المخالفين لكل ما يؤدي إلى تدمير هذه الثروة البحرية المتجددة، وتعني أيضاً الجانب البيئي المتعلق بالحفاظ على جودة مياه البحر ومنع كل ما يؤدي إلى تدهورها والتأثير على الأحياء البحرية من الناحيتين النوعية والكمية. كما تعني الإدارة المتكاملة لحماية الثروة البحرية الجانب الإداري المتعلق بتقوية الإدارة المعنية مباشرة بالثروة السمكية من الناحيتين الإدارية والمالية والبشرية، إضافة إلى تشجيع وتحفيز القطاع الخاص ودعمه مالياً ومعنوياً للاستثمار في كل ما له علاقة بالثروة السمكية وتنميتها وحمايتها، مثل إنشاء مزارع الأسماك الساحلية. 

 

وكل هذه المهمات والواجبات المتنوعة والمختلفة التي تقع ضمن الإدارة المتكاملة للثروة البحرية لا يمكن أن تحْمِلها وزارة واحدة فقط معنية بالثروة البحرية السمكية، فهي لكي تنجح في أداء رسالتها ومهماتها تحتاج إلى تعاون وتنسيق حثيث ودائم، سواء التنسيق الداخلي، أي بين وزارة وهيئات الحكومة، أو التنسيق الخارجي بين الجهات الحكومية والقطاع الخاص، حتى تقوم كل جهة بدورها حسب اختصاصها، فكل جهة تكمل الجهة الأخرى، فلا يكون هناك نقص أو ثغرات في الأداء والعمل الإداري والميداني والتشريعي.

 

ومن أهم محاور وقواعد الإدارة المتكاملة والشاملة للثروة السمكية هو الإدارة المعنية مباشرة بحماية الثروة البحرية السمكية. فهذه الإدارة منذ ولادتها ونشأتها في الستينيات من القرن المنصرم كانت "يتيمة" تحت مسمى "مكتب الثروة السمكية" التابع لوزارة الخدمات الهندسية، فهي إذن وُلدت وتعاني من ضعفٍ جسدي وهوانٍ عضوي ونفوذ بسيط. وبعد سنواتٍ انتقل هذا المكتب الصغير في السبعينيات من القرن العشرين إلى وزارة المالية، فلم يلبث هناك فترة طويلة ليحس بالأمان والاستقرار والراحة الجسدية والنفسية فيتمكن من العطاء والإنتاج، فنُقل بعد أن كبر في السن قليلاً إلى وزارة التجارة والزراعة تحت مسمى "إدارة الثروة السمكية"، ثم شاءت الأقدار والظروف أن يُرحل إلى ملاذٍ آخر هو وزارة الأشغال والزراعة التي لم تتمكن من تبنيه طويلاً فنُقل إلى وزارة الإسكان والزراعة. وفي عام 2002 تغير اسمه إلى "إدارة الثروة البحرية" ونُقل إلى ملجأ جديد لم يُعرف من قبل هو "الهيئة العامة لحماية الثروة البحرية والبيئة والحياة الفطرية"، فاستمر في هذا الملجأ فترة قصيرة ولم يستقر فيه، فأُلحق بعد ذلك وبالتحديد في عام 2012 بوزارة الأشغال وشؤون البلديات والتخطيط العمراني، وأخيراً وصل به المطاف ليكون ضيفاً على وزارة شؤون البلديات والتخطيط العمراني، والآن يسمى "وكالة الزراعة والثروة البحرية" بوزارة شؤون البلديات والزراعة. 

 

وهكذا نرى أمامنا وبكل وضوح الوضع الإداري والتنظيمي غير المستقرين، وتغير تبعية هذه الجهة المعنية بإدارة وتنظيم هذا المورد الحيوي الفطري غير الناضب والمتجدد المتمثل في الموارد البحرية الغنية والثروة السمكية الثرية، وهذا الوضع ينعكس مباشرة على قدرة وإنتاجية هذا الجهاز للاهتمام بهذه الثروة وصيانتها ورعايتها لنا وللأجيال اللاحقة.

 

والمحور الثاني المتعلق بجهاز البيئة المعني بحماية البيئة البحرية بشكلٍ عام من التلوث الكيميائي والحيوي، ومنع كافة أشكال التدهور النوعي والكمي للبيئة البحرية والثروة التجارية التي تعيش تحت ظلها، فهو الذي من المفروض أن يمنع أو يقنن أكبر مهدد للبيئة البحرية وكل ما فيها من ثروة حية حيوانية ونباتية، وهو عمليات حفر ودفن السواحل، وعليه أيضاً التأكد من صحة وسلامة كل ما يصرف في البحر من مخلفات مياه المجاري، أو الصناعي، أو الزراعي، كما عليه التأكد من سلامة البيئات البحرية الثرية والمنتجة، وبالتحديد الفشوت، والشعاب المرجانية، وبيئات الحشائش البحرية وبيئات المد والجزر.

 

والمحور الثالث فهو وزارة الداخلية وتعاونها مع إدارة الثروة السمكية لضبط ومراقبة ومعاقبة كل ما يدور في البحر، وكل ما تُرتكب من مخالفات لقانون الثروة البحرية، سواء من شباك ومعدات الصيد المحظورة، أو الصيد في الأوقات الممنوعة، أو مواقع الصيد وهوية الصيادين ومن يُسمح لهم بممارسة مهنة الصيد التجاري.

 

والمحور الرابع فهو القطاع الخاص ودعمه للاستثمار في كل ما يصب في مصلحة حماية الثروة البحرية وتنمية الثروة السمكية من الاستزراع السمكي، أو غيره من المشاريع السمكية.

 

فبتنفيذ هذه المحاور التي هي أساس الإدارة المتكاملة والشاملة للثروة البحرية سننجح في الحفاظ على تبقى من الثروة السمكية ونؤمن النوعية السليمة والمنتجة لمياه البحر، وسنضمن عطاءها لنا وللأجيال اللاحقة، كما نحقق في الوقت نفسه الأمن الغذائي الفطري للبحرين الذي هو جزء لا يتجزأ من الأمن السياسي وتجنب الاعتماد على الآخرين في غذائنا ومائنا.

 

الخميس، 25 يناير 2024

وبدأ العد التنازلي لاحتلال ثروات قاع البحر المشتركة

 نشرتْ مجلة "الطبيعة"(Nature) مقالاً في 16 يناير 2024 تحت عنوان: "موافقة النرويج على التعدين في قاع البحر يقوِّض جهود حماية المحيط"، حيث أكد المقال أن البرلمان النرويجي صوَّت في 9 يناير 2024 بواقع 80 صوتاً مقابل 20 صوتاً، أي بالإجماع، لصالح السماح للشركات التجارية الكبرى الجشعة للبدء في عمليات الاستكشاف عن نوعية وحجم المعادن المخزنة في قاع بحر النرويج.

 

وهذه الموافقة الرسمية من البرلمان والحكومة النرويجية تُعد الخطوة الأولى دولياً في هذا المجال التجاري الاقتصادي، وسيَفْتح الباب على مصراعيه للدول الأخرى بالاقتداء بالنرويج والسماح لشركاتها، أو الشركات المتعددة الجنسيات التي تلهث سريعاً وراء الولوج في هذا القطاع الاقتصادي الثري والغني، والمضمون من ناحية الأرباح الاقتصادية من جهة، والسيادة السياسية والنفوذ القوي من جهة أخرى.

 

فقد بدأ منذ سنوات السباق الدولي المحتدم على تحقيق السبق في تصدير المعادن الضرورية لإنتاج الطاقة المتجددة النظيفة، والتي تدور معاركها في ساحة قاع أعالي البحار، سواء في المياه الإقليمية للدول والتي تخضع لسيادتها، أو في مياه المحيطات الخارجة عن حدود وسلطة الدول، ولا تقع تحت سيادة لأحد، ولذلك فهي تعتبر ثروة طبيعية فطرية عامة ومشتركة للبشرية وكافة دول العالم.

 

ولكن موافقة النرويج لها أبعاد سلبية تهدد استدامة عطاء وانتاجية الموارد والثروات القابعة في قاع المحيطات، وبعض هذه الأبعاد سياسي وبعضها بيئي. أما البعد السياسي فهذا السماح للاستكشاف في قاع البحار يعد مخالفة لتعهدات النرويج السابقة في مجال حماية المحيطات والإدارة الاقتصادية المستدامة لهذه المحيطات، سواء على المستوى القطري، حيث تعارضتْ هذه التوجهات الجديدة مع مواقف والتزامات وكالة حماية البيئة النرويجية وآراء العلماء النرويجيين، أو على المستوى الدولي حيث تزعمت النرويج لجنة تم تأسيسها في سبتمبر 2018 تحت مسمى "الهيئة العليا للاقتصاديات المستدامة للمحيط"، والتي يُطلق عليها الآن "مجلس المحيطات"(Ocean Panel). وهذا المجلس الدولي يهدف إلى بذل الجهود لمنع عمليات الاستكشاف، والتنقيب، واستخراج كنوز قاع البحار الثرية قبل التأكد من سلامة واستدامة كل هذه العمليات على البيئة البحرية القاعية والحياة الفطرية التي تسكن تلك المناطق بشقيها النباتي والحيواني.

 

وأما البعد البيئي فمتعلق بسبر غور ملايين الكيلومترات المربعة من قاع البحر التي توجد فيها الكنوز المعدنية ولم تمسها أيدي البشر من قبل ولم تفسد أو تعبث فيها، ففي هذه المناطق المظلمة، شديدة البرودة العذراء البكر لا زال العلم في مهده لاستكشاف الأنظمة البيئية الموجودة هناك، إضافة إلى الحياة الفطرية والتنوع الحيوي في تلك المناطق، كذلك العلاقة بين الأنظمة البيئية الموجودة وكيفية تفاعلها مع بعض وارتباطها ببعض. فهناك انطباع عام خاطئ بأن هناك فقراً شديداً في التنوع الحيوي في تلك البيئات القاسية والنائية، ولذلك لا أهمية لها من الناحية البيئية، ولكن هناك دراسة قدَّمت رأياً وانطباعاً آخر، ونُشرت في 19 يونيو 2023 في مجلة "علم الأحياء الحالية"(Current Biology) تحت عنوان:" أنواع الميتازوات التي تعيش في أكبر منطقة لاستكشاف المعادن". وقد أَجْرتْ هذه الدراسة مسحاً للأحياء الحيوانية القاعية متعددة الخلايا(Metazoa) في منطقة(Clarion Clipperton Zone) التي مساحتها تتراوح بين 4.5 إلى 6 ملايين كيلومتر مربع في المحيط الهادئ وتحتوي على الترسبات متعددة المعادن بحجم البطاطس في قاع المحيط (deposit-rich polymetallic nodules). وهذه من المناطق المشتركة للبشرية جمعاء، فهي لا تخضع لسيطرة أحد ولا سيادة لأحدٍ عليها، وموجودة بالقرب من هاواي والمكسيك على سواحل أمريكا الغربية، وعمقها يتراوح بين 4 إلى 6 كيلومترات. وقد كشفت الدراسة الميدانية عن 5142 نوعاً جديداً غير معروف علمياً من أصل 5578 نوعاً تم الكشف عنها. فمن استنتاجات هذه الدراسة هي أن هذه المناطق البحرية النائية في قاع البحر والتي قد تبدو لأول وهلة صحراء جرداء قاحلة لا حياة فيها، أنها في الحقيقة تزخر بالحياة الفطرية، وهي بيئات حية ومنتجة ومثمرة من ناحية التنوع الحيوي، وقد تكون لهذه الكائنات الفطرية الفريدة من نوعها والجديدة مردودات صحية من ناحية استخراج الأدوية والعقاقير للبشر لعلاج الأمراض المستعصية.

 

 وعلاوة على موافقة النرويج لاستكشاف قاع البحار، فإن الولايات المتحدة بدأت تضغط في هذا الجانب باستغلال نفوذها السياسي القوي على الساحة الدولية، وهي الآن في طريقها إلى الدخول في هذا القطاع الجديد نسبياً لتحقيق المراكز الأولى في السباق الدولي، والتنافس والتفوق على الصين والدول الصناعية المتقدمة الأخرى في الاستحواذ والهيمنة على سوق المعادن التي تعتبر قاعدة انطلاق الثورة الصناعية الجديدة، المتمثلة في مصادر الطاقة المتجددة والنظيفة في السيارات الكهربائية، وألواح الطاقة الشمسية وطاقة الرياح وغيرها.

 

وقد أكدت صحيفة "وال ستريت جورنل" في 11 يناير 2024 على هذه الحقيقة في المقال المنشور تحت عنوان: "تزايد الدعم السياسي للولايات المتحدة الأمريكية للتنقيب في أعماق البحار". وفي هذا الإطار ومن أجل تحقيق هدف استغلال ثروات قاع المحيطات، وجه أعضاء مجلس الشيوخ خطاباً إلى وزارة الدفاع جاء فيه:" على الولايات المتحدة أن تضمن بأن الصين لن تكون لها السيطرة غير المقيدة على الموارد المعدنية في أعماق البحار". كذلك اتخذت الولايات المتحدة خطوة ثانية في إطار السيطرة على موارد وخيرات قاع البحر، وذلك من خلال توسعة ومَدْ مساحة الجرف القاري تحت البحر لمساحات واسعة جداً بحيث تصبح جزءاً لا يتجزأ من مساحة الدولة تحت البحر. فقد أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية في 19 ديسمبر 2023 في المنشور الصادر تحت عنوان: "إعلان عن الحدود الخارجية الممتدة للجرف القاري للولايات المتحدة"، عن الحدود الخارجية للجرف القاري للولايات المتحدة في مناطق تتجاوز 200 ميل بحري من الساحل، ويُطلق عليها "الجرف القاري الممتد"(Extended Continental Shelf). وهذه المساحة اللامتناهية التي ضمتها أمريكا إلى مساحتها تُقدر بنحو مليون كيلومتر مربع، وتحتوي هذه المساحة العظيمة الواقعة في القطب الشمالي وبحر برنج (Bering Sea)على ثروات بحرية فطرية كسرطان البحر، والشعاب المرجانية، إضافة إلى النفط والغاز، والموارد والثروات المعدنية. وجدير بالذكر أن الولايات المتحدة أخذت أيضاً مساحات إضافية في مناطق أخرى في المحيط الأطلسي وخليج مكسيكو تحت مبرر وحجة الجرف القاري.

 

فالأحداث الجارية حالياً تؤكد لي بأن السباق قد بدأ الآن فعلياً في الشروع في نهب واستنزاف الثروات والخيرات المشتركة العامة للبشرية جمعاء، حتى قبل اعتماد ضوابط ومعايير دولية بيئية تقنن عمليات الاستكشاف، والتنقيب التجاري واستخراج المعادن من قاع المحيطات. وهذا السباق تشارك فيه الدول الصناعية المتقدمة الكبرى التي تمتلك الآليات والمعدات المتطورة والحديثة اللازمة لهذه العمليات، كما إنها تمتلك الخبرات والمعلومات التقنية والفنية اللازمة للبدء فيها واحتكارها لتنمية دولها وشعوبها، كما فعلت سابقاً في ثروات وموارد ما فوق الأرض وما باطنها.

 

ولكن ما هو نصيب الدول النامية من هذه الثروات المعدنية المشتركة للإنسانية برمتها؟

 

الإجابة عن هذا السؤال تأتي في الدراسة المنشورة في مجلة "سياسة البحار"(Marine Policy)في مايو 2023 تحت عنوان: "المساواة في المشاركة في فوائد التنقيب في أعماق البحار". وقد خلصت الدراسة إلى أن توزيع الثروات بشكل عادل ومتساوي مالياً واقتصادياً على كافة الدول هي من اختصاصات ومهمات السلطة الأممية لقاع البحر(International Seabed Authority)، وكما هو متعارف بالنسبة لوكالات وهيئات الأمم المتحدة فإنها ليست لديها السلطة والقدرة على فرض قراراتها على أية دولة، وبخاصة الدول المتنفذة والقوية عسكرياً وسياسياً، ولذلك في تقديري فإن الدول غير المشاركة ميدانياً في السباق ستكون خارج حصص توزيع الثروات والموارد الحية وغير الحية المخزنة في أعماق البحار، أي بعبارة أخرى لن يكون لها أي نصيب في هذه الخيرات البشرية العامة والمشتركة.

 


الثلاثاء، 16 يناير 2024

مخلفات بلاستيكية في مياه الشرب المعدنية

 

دراسة مخبرية نُشرت في مجلة أمريكية علمية مرموقة، ونظراً لأهميتها وعلاقتها وارتباطها المباشر بواقعنا اليومي البيئي والصحي فقد تناقلتها معظم وسائل الإعلام حول العالم، فهي دراسة تسبب القلق لكل إنسان أينما يعيش على كوكبنا لانعكاساتها البيئية الخطيرة، ومردوداتها العقيمة المهددة لصحة كل إنسان يعيش على سطح الأرض، وتتلخص نتائج الدراسة الميدانية في الكشف عن مئات الآلاف من المخلفات البلاستيكية المجهرية في مياه الشرب المعدنية التي يشربها الجميع في كل بلاد العالم.

 

ولكن كيف لهذه المخلفات البلاستيكية التي نتخلص منها أن تصل إلى مياه الشرب النقية والصافية العذب الزلال الموجودة في عبوات محكمة الإغلاق فتلوثها وتسمم أجسادنا؟

 

وفي الحقيقة فإن هذه ليست الدراسة الأولى التي توثِّق وجود المخلفات البلاستيكية في منتجاتنا الاستهلاكية اليومية، أو حتى في أعضاء أجسامنا وخلايا وأنسجة أبداننا، فهناك دراسات اكتشفتْ وجود البلاستيك في الجهاز التنفسي العلوي والسفلي للإنسان، ودراسات أخرى أكدت وجودها في خلايا المخ وأنسجة القلب، إضافة إلى الدراسات التي كشفت النقاب عن وجود هذه المخلفات البلاستيكية في مشيمة المرأة الحامل، مما يعني انتقالها إلى الجنين وهو في بطن أمه.

 

وفي الحقيقة وحتى قبيل عدة سنوات لم أستوعب شخصياً كيفية انتقال المخلفات البلاستيكية الكبيرة الحجم التي نتخلص منها إلى المنتجات التي نستخدمها بشكلٍ يومي، سواء المشروبات أو المأكولات، أو دخولها في خلايا أجسادنا المتناهية في الصغر والتي لا ترى بالعين المجردة، ولكن التجربة الشخصية التي خضتُها عندما كنتُ أسبح في البحر علمتني عملياً، وقدَّمت لي درساً واقعياً بسيطاً في كيفية وصول وانتقال هذه الملوثات البلاستيكية إلى كل هذه المنتجات وإلى أعضائنا الجسدية.

 

فأثناء السباحة وعندما كنتُ أغوص لمشاهدة الكائنات البحرية التي تسبح في عمود الماء وتعيش في قاع البحر وفي داخل التربة القاعية، لاحظتُ عن بُعد شيئاً أبيض اللون جاثماً فوق سطح التربة، ويُطل برأسه إلى الأعلى، فأخذني الفضول وحبُ الاستطلاع للاقتراب من هذا الشيء الغريب بحذر وتأني شديدين، فربما يكون كائناً بحرياً ساماً ومؤذياً يسبب لي جرحاً عميقاً وحاداً.

 

وعندما اقتربتُ أكثر من هذا الجسم الأبيض المجهول، وبدأتْ ملامحه تظهر شيئاً فشيئاً، وتتضح الصورة أكثر، وتنكشف هويته بدقة أشد، وإذا بهذا الشيء الغريب عبارة عن مخلفات بلاستيكية على شكل صحنٍ بلاستيكي كبير أبيض اللون تم التخلص منه بأيدي بشرية آثمة ومؤذية للرؤية، فشوه منظر البحر الفطري الجميل، ولوث التربة القاعية. فقررتُ عندئذٍ من باب الحفاظ على نظافة البيئة البحرية وحمايتها من الأجسام والملوثات الغريبة الضارة للبشر والحياة الفطرية البحرية، إزالة هذا الصحن البلاستيكي من قاع البحر، وعندما حاولتُ الإمساك بهذا الصحن وإذا به، ولا أقول بأنه تكسر إلى قطعٍ وأجزاء أصغر، وإنما تهشم كلياً وتفتت بين يدي ولم أستطيع الإمساك به، فتحول إلى مسحوقٍ أبيض كلياً، وإلى جسيمات متناهية في الصغر قد لا يُرى بعضها بالعينة المجردة. فنزلتْ هذه الجسيمات البلاستيكية وانتشرت في عمود الماء أولاً ثم ترسبت فوق سطح التربة القاعية، وستصبح هذه الجسيمات البلاستيكية مع الوقت جزءاً من السلسلة الغذائية في البيئة البحرية التي تنتهي بالإنسان.

 

فهذه التجربة الميدانية البحرية هي إحدى الطرق التي من خلالها تتهشم وتتفتت المخلفات البلاستيكية الكبيرة إلى قطعٍ وأجزاء أصغر ثم إلى جسيمات دقيقة قد لا يمكن مشاهدتها بالعين المجردة، فتنتقل مع الزمن إلى منتجاتنا الغذائية ثم إلى أعضاء أجسامنا. وهناك طرق كثيرة مماثلة تحدث في أوساط بيئية أخرى كالتربة والهواء، وتبين تَنَقُل وحركة المخلفات البلاستيكية من هذه الأوساط البيئية إلى الجسم البشري، وهذه المخلفات والجسيمات البلاستيكية الصغيرة يُطلق عليها الآن بالميكروبلاستيك، وإذا كانت أصغر حجماً فتُسمى النَانوبلاستيك، وهذه الجسيمات المجهرية هي التي تُشكل تهديداً مزمناً وحقيقياً للحياة الفطرية وللإنسان.

 

ولذلك يجب أن لا نستغرب الآن من النتائج التي كشفتها الدراسة الحالية حول وجود عشرات الآلاف من الجسيمات البلاستيكية الدقيقة في عبوات مياه الشرب. وهذه الدراسة منشورة في مجلة اسمها "وقائع الأكاديمية الأمريكية القومية للعلوم" (Proceedings of the National Academy of Sciences) تحت عنوان: "التصوير الكيميائي السريع الأحادي للجسيمات النانوبلاستيكية بوساطة مجهر SRS" في 4 يناير 2024. وقد تراوح تركيز الجسيمات البلاستيكية المجهرية بين 110 آلاف إلى 400 ألف، وبمعدل 240 ألف جسيم بلاستيكي دقيق في اللتر الواحد من مياه الشرب المعدنية في العبوات البلاستيكية، علماً بأن 90% من هذه الجسيمات البلاستيكية كانت بحجم النانو، أي أقل من مايكرومتر واحد، والنانو يساوي جزء من البليون من المتر، كما أن 10% من الجسيمات كانت بحجم المايكرو وهو جزء من المليون من المتر، ولتوضيح الحجم أكثر فإن شَعْر الإنسان حجمه قرابة 80 مايكرومتراً.

 

وهذه الدراسة أكدت وكررت نتائج بعض الدراسات السابقة التي قامت بتحليل مياه الشرب المعبأة وكشفت عن وجود مخلفات بلاستيكية دقيقة فيها. ومن هذه الدراسة المنشورة في 11 سبتمبر 2018 في مجلة "الكيمياء التحليلية"، تحت عنوان: "التلوث بالمواد المتبلمرة الصناعية في مياه الشرب"، حيث تم تحليل 11 نوعاً من عبوات مياه الشرب المختلفة التي تباع في الأسواق، وعددها الإجمالي 259 تم أخذها من 19 موقعاً في تسع دول لمعرفة تركيز ونوعية المخلفات البلاستيكية في المياه. وقد خلصت النتائج إلى أن 93% من عينات مياه الشرب في العبوات البلاستيكية كانت تحتوي على الجسيمات البلاستيكية الدقيقة، حيث تراوح العدد من صفر إلى أكثر من 10 آلاف، وبمعدل 325 جسيماً بلاستيكياً في اللتر من مياه الشرب. كما كشفت الدراسة إلى أن أكثر الأنواع البلاستيكية كانت البولي بروبلين المستخدم في صناعة غطاء العبوات البلاستيكية، إضافة إلى أن المصدر الثاني هو المرشحات التي تستخدم في تحلية وتنقية المياه. وهناك أيضاً الدراسة المنشورة في 24 فبراير 2022 في المجلة الدولية لأبحاث البيئة والصحة العامة (International Journal of Environmental Research and Public Health) تحت عنوان: "وجود الميكروبلاستيك في مياه الصنبور والمياه المعدنية".

 

فهذه الملايين من المخلفات البلاستيكية الصغيرة والمجهرية الموجودة في الأوساط البيئية وفي معظم المنتجات الاستهلاكية التي نستخدمها يومياً سواء أكانت مشروبات أم مواد غذائية، سيكون مصيرها في نهاية اليوم الانتقال والدخول إلى جسم الإنسان، سواء عن طريق الفم، أو الأنف، أو الجلد، وكلما صغر حجم هذه المخلفات فإن قدرتها على تخطي الحواجز والموانع الحيوية في جسم الإنسان سترتفع وتزيد وتنجح في تخطى حاجز خلايا وأنسجة الجسم والتراكم فيها، ثم التأثير على وظيفتها ودورها في التفاعلات الحيوية في الجسم، والعلم مازال في مهده وفي الخطوات الأولى بالنسبة للتعرف على نوعية وحجم هذه التأثيرات والأمراض التي ستنزل على الإنسان بسبب هذه الجسيمات البلاستيكية المجهرية.