الثلاثاء، 28 نوفمبر 2023

هل صندوق المناخ سيرى النور في اجتماع التغير المناخي؟

 

من البنود العالقة منذ أكثر من 30 عاماً، وتُعتبر في تقديري الأكثر تعقيداً وسخونة والتي سيتعرض لها المفاوضون في اجتماع التغير المناخي، أو كوب 28، والمنعقد الآن في دبي، هو البند المتعلق بالجانب المالي وبالتحديد صندوق المناخ، أو ما أُطلق عليه رسمياً في اجتماع شرم الشيخ في نوفمبر 2022(كوب 27) بصندوق الخسائر والأضرار(loss and damage).

 

فالصراع محتدم منذ أكثر ثلاثة عقود، والمعارك تتجدد في كل اجتماع للدول الأطراف في الاتفاقية الاطارية حول التغير المناخي التي وقع عليها معظم دول العالم في قمة الأرض في ريود دي جانيرو في عام 1992. وهذه المعارك غير المتكافئة يشترك فيها قطبان كبيران على المستوى الدولي، وهو القطب الغني والثري الذي يتمتع بالنفوذ والقوة والمتمثل في الدول الصناعية المتقدمة التي بدأت أنشطتها التنموية منذ قرابة 200 عام فلوثت البيئة برمتها وتسببت في وقوع ظاهرة التغير المناخي، والقطب الثاني هو القطب الفقير والمستضعف الذي لم ير نور التنمية إلا منذ قرابة 50 عاماً، وليس له ناقة ولا جمل في وقوع التغيرات المناخية وتداعياتها الكارثية العظيمة على الكرة الأرضية، والتي تتضرر منها بشكل رئيس هذه الدول الفقيرة، وبخاصة الدول الجزرية الصغيرة التي تضررت كثيراً من تداعيات التغير المناخي وسخونة الأرض، وبالتحديد من جانب ارتفاع مستوى سطح البحر.

 

ولذلك فإن الدول التي عانت منذ قرون من المردودات الكارثية للتغير المناخي تحث الدول الصناعية المتقدمة التي تسببت في وقوع هذه الكوارث المناخية على تحمل مسؤوليتهم التاريخية والأخلاقية تجاه الدول الفقيرة النامية المتضررة، وتعمل على تخصيص مبالغ مالية لتعويضها عن هذه الخسائر المادية والبشرية، ومساعدتها في دفع فواتير تدمير البنية التحتية الساحلية، والممتلكات والمرافق العامة، إضافة إلى دعمها للتكيف مع هذه الظروف المناخية الجديدة والتصدي لها والتخفيف من حدة وشدة تأثيراتها على البشر والحجر والشجر.

 

وقد عَقدتْ الدول الجزرية في المحيط الهندي والهادئ العديد من الاجتماعات في مطلع التسعينيات من القرن المنصرم لمناقشة دعم الدول الغنية لها لمواجهة ما ارتكبتها أيديها الآثمة من فساد عام لبيئة الكرة الأرضية برمتها. وقد جاءت الإشارة الرسمية الأولى لنوعية هذا الدعم من خلال تبني مصطلح هو "الخسائر والأضرار" في الاجتماع الذي عُقد عام 1991، أي قبل 32 عاماً، حيث دَعتْ الدول الجزرية الصغيرة الدول الصناعية الغنية إلى الدفع والمساهمة للخسائر والأضرار التي لحقت بها بسبب ارتفاع مستوى سطح البحر، إضافة إلى حاجتها الملحة للتكيف مع هذه التداعيات والاستعداد لها للتخفيف من آثارها المدمرة، من فيضانات، وأعاصير، وتسونامي، وحرائق الغابات، والموجات الحارة.

 

فهذا المصطلح (الخسائر والأضرار) اختفى بعد ذلك في وثائق وأدبيات الأمم المتحدة الخاصة بالتغير المناخي، بدءاً بقمة الأرض في عام 1992 التي دعت إلى مساعدة الدول النامية لتجاوز الكوارث المناخية الناجمة عن تداعيات التغير المناخي، ولكن دون الإشارة إلى آلية محددة، وأداة واضحة لتحقيق هذه المساعدة.

 

واستمرت الدول النامية الفقيرة في الضغط على الدول الصناعية للقيام بواجبها وتحمل مسؤولياتها لدعمها في مشكلة لا دور لها في تكوينها ووقوعها، ولكنها هي أكثر وأشد المتضررين منها. وقد بدأت هذه الجهود الماراثونية المتواصلة لعدة عقود تؤتي أكلها، ولكن ليس بشكلٍ دائم، حيث وافقت الدول الصناعية وفي مقدمتهم الولايات المتحدة الأمريكية في اجتماع كوبنهاجن(كوب 15) في نوفمبر 2009 على دفع 100 مليار دولار أمريكي سنوياً بدءاً بعام 2020، بحيث يغطي تكاليف خفض انبعاث الملوثات المناخية(mitigation)، وتكاليف التكيف مع الظروف الجديدة((adaptation من خلال بناء بنية تحتية قوية قادرة على تحمل التأثيرات الناجمة عن التغير المناخي، ولكن في الوقت نفسه لم تكن هناك أية إشارة إلى مصطلح "الخسائر والأضرار"، أي التعويض عن الأضرار التي تلحق بالبنية التحتية، والخسائر الناجمة عنها.

 

وكالعادة فإن الدول النامية المتضررة لم تحصل من هذا الدعم الموعود والذي تعهدت به الدول المتقدمة إلا الفتات القليل الذي لا يحقق هدف الحماية من الكوارث المناخية، فهي في نهاية المطاف هي مساعدة "طوعية" غير ملزمة لأية دولة، فيتفضل بها الدول الغنية على الفقراء، ولا يمكن لأحد اجبارها على المساهمة في هذا الدعم، ولذلك كان لا بد بشكلٍ مستمر من التذكير، واحياء هذا الدعم في كل مناسبة وكل اجتماع حول التغير المناخي. ففي اجتماع باريس للتغير المناخي عام 2015 جاءت الإشارة إلى الدعم في البند رقم(8)، حيث ورد فيه بأن الدول الأطراف في تفاهمات باريس: "تَعْترف بأهمية تجنب وخفض والتصدي للخسائر والأضرار الناجمة عن تداعيات التغير المناخي"، ولكن لم يدخل البند في أية تفاصيل دقيقة حول آلية الدعم.

 

ولذلك كان على الدول النامية الفقيرة مواصلة جهودها العقيمة لنيل حقوقها من الدول المتطورة الغنية، حيث خطا موضوع الدعم المالي خطوة جادة إلى الأمام في الاجتماع الذي عقد في مدينة شرم الشيخ(كوب 27) في عام 2022، وتمكن من كسر الجليد الجاثم فوق هذه الجهود عندما وافق المجتمعون على فكرة تأسيس صندوق مناخي تحت مسمى "الخسائر والأضرار"، أي تم تحقيق هذا الصندوق الداعم للدول الفقيرة بعد عمل دؤوب لم ينقطع،  وبعد خوض معارك محتدمة شديدة استمرت أكثر من 30 عاماً. وفي تقديري فإن هذا البريق من النور الذي سطع في شرم الشيخ مازال في بداية الطريق، وستكون هناك عوائق عصيبة تقف حجر عثرة أمام رؤيتها على أرض الواقع، ثم ستكون هناك صعوبات أخرى أمام تفعيلها وأخيراً وصول أموال الدعم إلى مستحقيها من الدول الفقيرة المتضررة.

 

فاجتماع شرم الشيخ الذي أقر فكرة الصندوق، شكَّل في الوقت نفسه لجنة انتقالية حول تشغيل الصندوق الجديد والترتيبات للأضرار والخسائر من أجل رفع التصورات التفصيلية حول هذا الصندوق إلى اجتماع كوب 28 في دبي. وهذه اللجنة التي تم تشكيلها اجتمعت خمس مرات، كان آخرها الاجتماع الطارئ الذي عقد في أبوظبي من 3 إلى 4 نوفمبر 2023، حيث اتخذت عدة توصيات منها أن يكون مقر الصندوق في البنك الدولي بصفة مؤقتة ولمدة أربع سنوات، وتكون المساهمة في الصندوق اختيارية وطوعية.

 

والآن أم المعارك حول هذا الصندوق ستكون في الاجتماع الحالي، وستتمحور حول الأسئلة التالية: من سيدفع للصندوق، هل الدول المتقدمة فقط، أم بعض الدول النامية الغنية كدول الخليج والصين؟ وكم المبلغ؟ ومن هي الجهات المستحقة للدعم، وما هي معايير الاستحقاق؟ وما هي مجالات الدعم؟ وهل الدعم المالي سيكون منحة أم قرض؟ وهل المساهمة الزامية على الدول المتقدمة الثرية، أم طوعية واختيارية لم يرغب؟

 

فالاتفاق حول هذه التفاصيل المتعلقة الصندوق هي مَرْبَط الفرس، وهي العقدة الشائكة التي يصعب حلها، وهي التي بيدها النجاح في تحويل فكرة الصندوق إلى واقع مشهود تستفيد منه الدول النامية الفقيرة والمتضررة التي صبرت وصابرت أكثر من 30 عاماً، ثم بعد كل ذلك هل ستقوم الدول التي تعهدت بالدفع أثناء الاجتماع القيام فعلياً بالتطوع في المساهمة السنوية لصندوق المتضررين من التغيرات المناخية؟

 

الخميس، 23 نوفمبر 2023

وضع البترول في اجتماعات التغير المناخي


من أهم محاور اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية حول التغير المناخي التي وقع عليها معظم دول العالم في مدينة ريو دي جانيرو البرازيلية في قمة الأرض في عام 1992 هو المحور المتعلق بمكافحة المصادر والعوامل التي تؤدي إلى وقوع ظاهرة التغير المناخي وارتفاع درجة حرارة الأرض.

 

وقد أجمع العلماء بأن السبب الرئيس لسخونة الأرض هو حرق الوقود الأحفوري المتمثل في البترول، والفحم، والغاز الطبيعي وانبعاث غازات الدفيئة، أو غازات الاحتباس الحراري عند حرق هذا النوع من الوقود في السيارات، والطائرات، والمصانع، ومحطات توليد الكهرباء وغيرها، وبالتحديد انطلاق غاز ثاني أكسيد الكربون.

 

فهذا الغاز موجود طبيعياً في الهواء الجوي، أي خلقه الله سبحانه وتعالى بقدر واعتدال بتركيز قرابة 280 جزءاً من ثاني أكسيد الكربون في المليون جزء من الهواء الجوي، بحيث يقوم بواجبه ودوره على أكمل وجه، سواء من ناحية تكوين الغذاء للحياة الفطرية النباتية، أو إحداث التوازن في مناخ كوكبنا وفي درجة حرارتها. ولكن هذا التوازن الرباني اختل وانكسر بعد أن أطلقَ الإنسان من مصادر لا تعد ولا تحصى منذ زهاء 200 عام وفي معظم دول العالم غاز ثاني أكسيد الكربون إلى الهواء الجوي بشكلٍ مستمر وفي كل ثانية من اليوم، حتى بلغ التركيز أكثر من 422 جزءاً من ثاني أكسيد الكربون في المليون جزء من الهواء. وهنا وعندما زاد تركيزه إلى مستويات مرتفعة جداً، تحول هذا الغاز من داعمٍ للحياة على سطح الأرض إلى غازٍ ملوث للهواء الجوي يحبس الحرارة المنطلقة من سطح الأرض فيمنع انتشارها وتخفيفها ويرفع من حرارتها وسخونتها، ويسبب نتيجة لذلك كوارث مناخية عقيمة يشهد الآن الجميع تداعياتها الاقتصادية والأمنية والاجتماعية والصحية.

 

ونتيجة لهذه الحالة الكارثية المؤثرة على استدامة عطاء كوكبنا، كان لا بد من الحد من انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون عن طريق خفض، أو منع الانبعاثات كلياً عند حرق الفحم، أو النفط، أو الغاز الطبيعي، أو بعبارة الأخرى التخلي على المدى البعيد عن استخدام كل أنواع الوقود الأحفوري ووضع حد زمني لذلك. ومنذ أن وافق المجتمع الدولي على هذه السياسة العامة في عام 1992، أي قبل ثلاثين عاماً، مازال الوقود الأحفوري يراوح في مكانه، ومازال يفرض نفسه على كل دول العالم كالوقود الأفضل والأكثر ثقة ومصداقية لتحريك عجلة التنمية، ولذلك لم يتمكن المجتمع الدولي على الاجماع في التخلص من الوقود الأحفوري، ولم ينجح في وضع سقفٍ زمني للتخلص منه كلياً، فالبديل، أو البدائل الأفضل غير متوافرة حتى الآن، ولا يمكن الاعتماد عليها كلياً.

 

فعلى سبيل المثال وبعد أكثر من 30 عاماً، وبالتحديد في الاجتماع رقم (26) أو كوب 26 الذي عُقد في مدينة جلاسجو البريطانية في نوفمبر عام 2021، وبعد مناقشات ماراثونية عصيبة استمرت أكثر من 14 يوماً لم يتمكن المفاوضون على الموافقة على قرار جماعي مشترك لدفن الوقود الأحفوري ونقله إلى مثواه الأخير. وفي الدقائق الأخيرة قبل اغلاق الاجتماع، توصلت الوفود المشاركة باقتراح من الهند والدول النامية إلى صيغة قرار ضعيفة ومخففة ومرنة ومكونة أساساً من كلمة واحدة تحتوي على ثلاثة حروف فقط، وهي الخفض التدريجي لاستخدام الوقود الأحفوري عبر السنوات القادمة إلى مستويات تكون مقبولة بالنسبة للانبعاثات التي تنطلق منه(phase down)، بدلاً من الصيغة الأولية وهي التوقف عن استخدام الوقود الأحفوري والتخلص منه نهائياً بعد فترة محددة من الزمن(phase out)، أي أن المناقشات الطويلة دارت حول كلمتي (down) و (out).

 

وفي تقديري فإن هذه السياسة الدولية المتعلقة بالوقود الأحفوري من حيث الاستمرار في استعماله لن تتغير على المدى القريب، وإدمان دول العالم على استخدام الفحم، أو البترول، أو الغاز الطبيعي لن يتوقف قريباً، فالوقود الأحفوري سيظل مرافقاً لكل دول العالم سنوات طويلة قادمة.

 

والوقائع الحالية تؤكد هذه الرؤية سواء من ناحية تمويل البنك الدولي والشركات الاستثمارية لمشاريع الفحم والنفط والغاز، أو من ناحية الاستمرار في برامج استخراج الوقود الأحفوري من تحت الأرض أو البحر، ومعظم الدول التي أعلنت في السنوات الماضية بأنها ستمتنع عن استخدام الوقود الأحفوري، عادت من جديد في تمويل المشاريع المتعلقة باستخراج الفحم، أو النفط، أو الغاز الطبيعي.

 

أما بالنسبة لتمويل البنوك لمشاريع الوقود الأحفوري، فقد كَتبتْ صحيفة "الفايننشال تايمس" المتخصصة في الأمور الاقتصادية في 31 أكتوبر 2023 بأن البنوك أقرضت شركات الوقود الأحفوري أكثر من 150 بليون دولار في عام 2022 للقيام بعمليات وبرامج لها علاقة بنوع من أنواع الوقود الأحفوري من تنقيب، واستخراج، وتكرير، وإنشاء محطات توليد الطاقة.

فعلى سبيل المثال لا الحصر، أعلنت ألمانيا على لسان وزير شؤون الاقتصاد والمناخ في 10 أغسطس 2023 بأنها ستبدأ من جديد استخراج الفحم من المناجم، وستعمل على إعادة تشغيل ومَدِ عُمر محطات إنتاج الطاقة بالفحم إلى أجل غير مسمى، والتي تم إغلاقها في السنوات السابقة، من أجل تزويد ألمانيا بالطاقة التي تحتاج إليها للاستمرار في مشاريع التنمية وتوليد الكهرباء، أي أن سياسة ألمانيا ودول كثيرة أخرى في التخلص من الوقود الأحفوري(Phase out) والمتمثل في الفحم سيتم تأجيلها إلى سنوات قادمة غير محددة.

 

وهذه الردة الدولية الجديدة نحو الوقود الأحفوري يعني بأن اجتماع دبي للتغير المناخي لن ينجح في المساس بمستقبل الوقود الأحفوري، وسيفشل في وضع حدود، أو سقف زمني للتخلص من هذا النوع من الوقود. وهذا يعني أيضاً بأن ملوثات المناخ ستستمر في الانبعاث من مصادر حرق الوقود الأحفوري، وستزيد نتيجة لذلك سخونة الأرض والتداعيات الأخرى للتغير المناخي إلى مستويات كارثية، حسب ما يؤكد على هذه الحقيقة التقرير المنشور في 20 نوفمبر 2023 من برنامج الأمم المتحدة للبيئة، حيث أفاد بأن سخونة الأرض سترتفع من 2.5 إلى 2.9 درجة مئوية بحلول نهاية القرن (21) فوق مستويات ما قبل الثورة الصناعية.

 

ولذلك فسيركز الاجتماع بهدف خفض انبعاث غازات المناخ على تشجيع الدول لاستخدام الوقود النظيف والمتجدد، كلما تيسر ذلك للدول، وكان متاحاً لهم ومتوافراً بكثرة وبأسعار رخيصة، إضافة إلى الجانب المتعلق بتقنيات التخلص من ثاني أكسيد الكربون(carbon capture technologies) قبل انبعاثه إلى الهواء. وعلاوة على ذلك فستَطرح الدول النامية الموضوع المؤجل منذ عقود وهو تمويل الدول الصناعية المتقدمة الغنية لصندوق الخسائر والأضرار، وستكون هناك مفاجئة غير سارة ستفرضها الدول الغنية، وبخاصة الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، وهي الضغط على دول الخليج والصين إلى المساهمة بحصة الأسد في هذا الصندوق العليل.

 

 

الخميس، 16 نوفمبر 2023

هل سيفتح اجتماع التغير المناخي في الإمارات الباب لإنجازات طال انتظارها؟


بعد مضي أكثر من ثلاثين عاماً على دخول قضية التغير المناخي في جدول الأعمال الأممي، مازال العالم يدور في حلقة مفرغة لا يستطيع الخروج منها، ولا يتمكن من أن يتخذ القرارات الحاسمة والإجراءات الدامغة التي تستطيع بشكلٍ جماعي مشترك من مواجهة وعلاج هذه المعضلة الشائكة والمهددة لاستدامة عطاء كوكبنا، وبقاء الحياة عليه، فتارة يتقدم خطوة إلى الأمام، وتارة أخرى يتأخر مائة خطوة، بل ويرجع إلى نقطة الصفر.

ففي عام 1992، في قمة الأرض التاريخية التي عُقدت في مدينة ريو دي جانيرو البرازيلية، وقعتْ معظم دول العالم على اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية حول التغير المناخي، وكان هذا التوقيع والاجماع الدولي تمهيداً لعمل المجتمع الدولي لتطوير معاهدة دولية ملزمة تقوم من خلالها دول العالم بوضع حدود وأهداف واضحة لخفض انبعاثاتها من الغازات المتهمة بحدوث التغير المناخي وارتفاع سخونتها، وبالتحديد غاز ثاني أكسيد الكربون، إضافة إلى وضع آلية، أو صندوق خاص بالمناخ يُمول من الدول الصناعية المتقدمة والغنية المسؤولة تاريخياً عن وقوع التغير المناخي، وذلك من أجل مساعدة الدول النامية والفقيرة المتضررة والمنكوبة على مواجهة هذه التداعيات المناخية العقيمة، ودعمها مالياً وتقنياً على التأقلم والتكيف مع تداعيات التغير المناخي كارتفاع مستوى سطح البحر، ووقوع الكوارث المناخية المتمثلة في الفيضانات، والأعاصير، وحرائق الغابات، والجفاف والتصحر.

فقد جاء اجتماع الدول الأطراف الأول، كوب 1(COP 1) لتطوير معاهدة دولية مشتركة والتفاوض عليها في برلين بألمانيا في 1995، حيث توصلوا بعد عامين في كيوتو باليابان في عام 1997 على بروتوكول "كيوتو" الذي وضع أهدافاً وحدوداً للانبعاث للدول الصناعية المتطورة والمتقدمة بحيث تُخفض هذه الدول الانبعاثات من الغازات الملوثة بنسبة 5% من مجموع الانبعاثات بحلول عام 2012. ولكن هذا البروتوكول لم يكن جامعاً وشاملاً، فقد استثنى الدول النامية بما فيها الصين من هذا الالتزام والتعهد بخفض الانبعاث. وكانت النتيجة أن هذا البروتوكول لم ير النور من حيث شمولية التنفيذ، فلم تطبق الكثير من الدول هذا البروتوكول، ولم تلتزم ببنوده، بل وإن الدولة التي تعتبر تاريخياً المتهمة برفع سخونة الأرض، والتي تنبعث منها النسبة الأعلى من ملوثات المناخ وهي الولايات المتحدة الأمريكية لم تُصادق عليه، مما قل من قيمته على المستوى الميداني والتشريعي، فاضطر المجتمع الدولي من جديد إلى البحث عن معاهدة أخرى تشمل جميع دول العالم وتكون ملزمة. وعلاوة على ذلك فإن الدول الصناعية الغنية والثرية لم تف بالتزاماتها المالية التي تعهدت بها للمساهمة في صندوق المناخ الداعم للدول النامية الفقيرة التي لا ناقة لها ولا جمل في وقوع الكوارث المناخية وسخونة الأرض.

وبعد اجتماعات سنوية فاشلة استمرت 18 عاماً، توصلت دول العالم في اجتماع باريس عام 2015 إلى تفاهمات ضعيفة طوعية وغير ملزمة لأحد، بحيث تقوم كل دولة حسب ظروفها، وامكاناتها، إلى وضع أهداف وحدود تُخفض فيها من مستوى الملوثات التي تنبعث منها، وتقوم بوضع خطة وطنية تتضمن هذه الأهداف والحدود وكيفية بلوغها، وأُطلق عليها "المساهمات القومية المحددة"(Nationally Determined Contributions, NDCs). وكان الهدف من ذلك هو منع ارتفاع درجة حرارة الأرض أكثر من درجتين من مستويات ما قبل الثورة الصناعية، علماً بأن درجة حرارة الأرض حسب التقديرات العلمية ارتفعت قرابة 1.1 إلى 1.8 درجة مئوية.

ولكن هذه الخطوة البسيطة لإنقاذ كوكبنا من شرور سخونتها أيضاً لم تنفذ ولم تر النور لسببين رئيسين. أم الأول فإن الكثير من الدول، وبخاصة التي لها الدور الكبير في وقوع التغير المناخي وارتفاع انبعاثاتها لم تقدم أية خطط وطنية، ولم تخفض من نسبة انبعاثاتها، وثانياً فإن الولايات المتحدة الأمريكية التي تعد الأولى من ناحية التلوث المناخي على المستوى الدولي فقد انسحبت من هذه التفاهمات في عهد الرئيس السابق ترمب، مما يعني بأن أهداف التفاهمات المعنية بعدم رفع درجة حرارة الأرض لن تتحقق ميدانياً، بل وإن تقارير الهيئة شبه الحكومية حول التغير المناخي قدَّرت بأن الأرض تسير نحو ارتفاع حرارتها قرابة 3 درجات مئوية فوق مستويات ما قبل الثورة الصناعية.

ومن جانب آخر فإن دول العالم فشلت أيضاً في تفعيل صندوق المناخ طوال العقود الماضية منذ قمة الأرض في 1992، وبالتحديد من ناحية مساهمة الدول الصناعية المتقدمة في تمويل الصندوق حسب الاتفاقيات التي تمت في الاجتماعات. ولذلك تم إحياء موضوع الصندوق من جديد، وبالتحديد في اجتماع شرم الشيخ(كوب 27)  الذي أَطلق موضوع الصندوق تحت مسمى جديد هو "الخسائر والأضرار"(Loss and Damage)، وشكَّل لجنة انتقالية لوضع تفاصيل الصندوق، ومن بينها الدولة التي ستستضيف هذا الصندوق، وهل سيتم تعويض الدول الفقيرة المتضررة، وما هي الدول التي ستستحق التعويض، ومن الذي سيسهم وما هي النسبة، وهل هذه المساعدات تكون على شكل منح أم قروض، علماً بأن هذه اللجنة حتى الآن لم تصل إلى أية توصيات محددة بالإجماع، ولذلك سيتحول الموضوع برمته إلى اجتماع دبي، أو كوب 28 في 30 نوفمبر.

ولكن هناك تطورات على الساحة الدولية قرأتُ عنها مؤخراً حول الدول التي ستساهم في الصندوق، حيث إن المفهوم السابق المستمر لأكثر من ثلاثين عاماً كان يصب في أن الدول الصناعية الثرية المسؤولة عن وقوع ظاهرة التغير المناخي هي التي ستتحمل العبء الأكبر من ميزانية الصندوق، فهي مسؤولة أخلاقياً أمام العالم، وبالتحديد أمام الدول الفقيرة والنامية المتضررة كثيراً من الكوارث المناخية، والتي لم تلعب هي أي دور تاريخياً في تلويث الأرض ورفع حرارة كوكبنا ووقوع هذه الكوارث. 

فقد نَشرتْ وكالة "بلومبيرج" خبراً في 11 نوفمبر 2023 تحت عنوان: "الاتحاد الأوروبي سيضغط على الامارات مستضيفة الاجتماع (24) للدفع لصندوق الأضرار والخسائر". وهذا الخبر يشير إلى انكشاف تغير في السياسات المتعلقة بالإسهام في الصندوق، وأن الاتحاد الأوروبي ومعه الولايات المتحدة الأمريكية ينويان الضغط على الإمارات وباقي دول الخليج ومطالبتها بتمويل هذا الصندوق، وتخفيف العبء المالي عليهم، إضافة إلى طلبهم بوجود مرونة لمساهماتهم بحيث تكون طوعية وغير الزامية. وهذا يؤكد بأن الدول الغربية الصناعية التي عاثت في بيئتنا فساداً لأكثر من قرنين تُخطط الآن على التنصل من تعهداتها وواجباتها، والتخلي عن تحمل مسؤولية إفسادها لبيئة كوكبنا، والهروب من التزاماتها المالية التي اتخذتها في الاجتماعات السابقة.

 

ولذلك أتوقع بأن الدول الصناعية الغربية ستنزل بكل ما أوتيت من قوة ونفوذ لإجبار دول الخليج على تحمل حصة الأسد في هذا الصندوق، مما يؤكد الحاجة إلى التنسيق في المواقف بين دول الخليج من جهة والدول الأخرى المعنية كالصين من جهة أخرى، ونبذ المجاملة والملاطفة مع هذه الدول التي لا ترقُب فينا إلا ولا ذمة، وليس لها أي عهد ولا التزام سوى تحقيق مصالحها.

الأحد، 12 نوفمبر 2023

شبح التجارب النووية يرجع من جديد

 

حوادث رأيناها، وتصريحات قرأناها في الأيام الماضية، وكلها أيقظت ذاكرتنا نحو سنوات الحرب الباردة العصيبة في الستينيات من القرن المنصرم، وأحْيت لدينا كابوس التجارب النووية العقيمة التي كانت تُجريها الدول المتقدمة الكبرى في البر والجو وتحت الأرض وفي المحيطات، إضافة إلى الأسلحة الذرية التي كانوا يتسابقون في نيل سبق تطويرها وإنتاجها بمختلف أنواعها وأشكالها وشدة وقوة تدميرها، والفوز في تحقيق القُدرة على التدمير الشامل النوعي والكمي لأكبر مساحة جغرافية وقتل أكبر عدد من البشر. 

 

ومن هذه التصريحات ما أدلى بها وزير التراث في الكيان الصهيوني "عميحاي إلياهو" في الخامس من نوفمبر 2023 في مقابلة إذاعية عن إمكانية استخدام القنبلة النووية ضد الشعب الفلسطيني الأعزل في غزة. وهذا التصريح المخيف يؤكد تعطش الكيان الصهيوني الهمجي والبربري للقتل الشامل للأبرياء والمدنيين، إضافة إلى أنه يُقدم الدليل الدامغ على امتلاك هذا الكيان لأسلحة الدمار الشامل الذرية، والتي لا يعترف بها رسمياً حتى الآن.

 

كذلك من الحوادث المؤسفة تلك الخطوة الخطيرة جداً التي اتخذها الرئيس الروسي بوتين، والتي قد تهدد العالم من جديد وتحيي في نفوسنا مخاطر الماضي الأليم، وحقبة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي، والتي جعلت العالم يعيش على فوهة بركان عظيم كاد أن ينفجر في أية لحظة. فهذه الخطوة تُعيد العالم مرة ثانية إلى الوراء أكثر من ستين عاماً، وتفجر مرة أخرى السباق النووي المتمثل في تفجيرات الأسلحة الذرية، وتحقيق السبق في إنتاج قنبلة الدمار الشامل التي لها قدرة على التدمير المطلق الأكبر في تاريخ البشرية.

 

فالرئيس الروسي فالدمير بوتين وقع في 2 نوفمبر 2023 على قانون لانسحاب روسيا من معاهدة "الحظر الشامل للتجارب النووية"(Comprehensive Nuclear-Test-Ban Treaty)، مما يُبطل ويلغي العمل بوقف التجارب النووية في روسيا، وهذا يعني بأن روسيا الآن في حل من أمرها بالنسبة للتجارب النووية، وهي طليقة وحرة تفعل ما تشاء، دون أية قيود، أو ضوابط، أو احراجات من المجتمع الدولي، وآخرها التجربة التي أجرتها من غواصة نووية في 6 نوفمبر 2023، وهي عبارة عن اطلاق صاروخ عابر للقارات، وقادر على حمل 6 رؤوس نووية، أي سحق وتدمير ستة أهداف في ثانية واحدة.

 

 وجدير بالذكر، فإن روسيا وأمريكا وقعتا المعاهدة في عام 1996، كما صادقت عليها موسكو في عام 2000، في حين أن أمريكا لم تتخذ هذه الخطوة ولم تصادق عليها حتى الآن، كذلك فإن هناك دولاً تمتلك السلاح النووي ولم توقع أيضاً عليها مثل الصين، والهند، وباكستان، وكوريا الشمالية، والكيان الصهيوني، ولذلك فالمعاهدة تحولت اليوم إلى حبرٍ على ورق، ولم تجد أبداً طريقها نحو التنفيذ.

 

كما وقع رئيس الوزراء الروسي ميخائيل ميشستن في التاسع من نوفمبر 2023 قراراً بسحب روسيا من المعاهدة مع اليابان التي تمت توقيعها في 13 أكتوبر 1993، والمتعلقة بخفض واحتواء المخزون النووي، أي الغاء المعاهدة وانتهاء العمل بها، والرجوع مرة ثانية إلى الأسلحة النووية وتطويرها وتخزينها.

 

ومثل هذه الحوادث والممارسات والتصريحات تؤذن بالبدء من جديد في الحرب الدولية الباردة، واحتدام السباق على تطوير وإنتاج السلاح النووي، ولكن الفرق اليوم أن الحرب كانت في القرن الماضي بين دولتين أو قطبين فقط، وأما اليوم فقد دخلت الصين على الخط كقطب كبير لا يمكن الاستهانة بقوتها أو تجاهلها، ثم كوريا الشمالية أيضاً، أي أن السباق القاتل يشترك فيه أربع دول.

 

أما الصين فقد دخلت حديثاً في سباق التسلح النووي وتحولت إلى قوى عظمى بامتلاكها مختلف أنواع الأسلحة النووية، سواء أكانت قنابل ذرية تُلقى من الطائرات فتنزل بقوة الجاذبية إلى موقع الهدف، كما هو الحال بالنسبة لقنبلتي هيروشيما وناجازاكي التقليدية القديمة، أو الرؤوس النووية التي تُحمل على صواريخ باليستية عابرة للقارات، وتكون عادة مكونة من عدة رؤوس، أي يمكن القاء أكثر من قنبلة نووية في وقت واحد وإصابة أكثر من هدف في الوقت نفسه، وأخيراً السلاح النووي الذي يُطلق من الغواصات. وقد أشار التقرير السنوي للبنتاجون الصادر في 20 أكتوبر 2023 تحت عنوان:" التطورات العسكرية والأمنية المتعلقة بجمهورية الصين الشعبية" إلى توجهات وبرامج الصين النووية العسكرية من حيث زيادة ميزانية الدفاع بنسبة 7.1%، وامتلاكها حالياً قرابة 500 رأسٍ نووي، وسيرتفع هذا العدد إلى زهاء 1500 بحلول عام 2035.

 

وهذا هو الحال بالنسبة للقطب الرابع، وهو كوريا الشمالية التي تستعد للحرب بزيادة مخزونها من الأسلحة النووية، والذي يقدر حالياً بنحو 35 إلى 63 رأساً نووياً، حسب تقرير "معهد العلوم والأمن الدولي". كما أنها تُجري تجارب مستمرة للصواريخ عابرة القارات القادرة على حمل رؤوس نووية عدة، حسب تقرير لجنة الكونجرس حول "الموقف الاستراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية"، والصادر في 15 أكتوبر 2023، والذي خَلص إلى أن: "كوريا الشمالية تعمل باستمرار على توسيع وتنويع قوتها النووية، مما يزيد من تهديدها لأمريكا وحلفائها".

 

أما الرأس النووي الأكبر فهو الولايات المتحدة الأمريكية التي تمتلك حالياً أكثر من 5244 رأساً نووياً، حسب التقارير الدورية التي ينشرها "معهد إستكهولم الدولي لأبحاث السلام". وتعمل أمريكا منذ أكثر من عقد من الزمن على تحديث الأسلحة القديمة، وتطوير أسلحة نووية جديدة، حيث أعلنت وزارة الدفاع في 27 أكتوبر 2023 عن تطوير وإنتاج نوعٍ حديث من قنبلة بي 61(B61) وهي "قنابل الجاذبية التكتيكية"، ويُطلق عليها (B61-13)، وهي النوع الأخير من سلسلة قنابل تُنتج منذ الستينيات عند بدء الحرب الباردة وقوتها 360 كيلوطن، أي أشد من قنبلة هيروشيما(15 كيلوطن) بأكثر من 24 مرة، وقادرة على قتل الملايين في ثانية واحدة، إضافة إلى موت مئات الآلاف بعد فترة قصيرة من الزمن من البشر والشجر والحجر من الحروق وعند التعرض للإشعاعات القاتلة والمسرطنة.

 

وعلاوة على القنبلة "الغول" (B83_1) التي قوتها 1.2 ميجاطن، وهي أقوى قنبلة صنعها الإنسان حتى الآن، فإن أمريكا بدأت في عهد أوباما بإنتاج قنابل نووية صغيرة من نوع(B61_12) وقوتها 50 كيلوطن، وهي موجهة ودقيقة جداً ويمكن التحكم فيها أكثر وحملها على صواريخ، حسب التقرير المنشور من "اتحاد علماء أمريكا" في 27 أكتوبر 2023 تحت عنوان:" إدارة بايدن تُقرر انتاج قنبلة نووية جديدة للتخلص من القنابل القديمة".

 

فمع سباق تطوير وإنتاج أسلحة الدمار الشامل من الدول المتقدمة والنووية، فإن تجارب الانفجارات النووية ستستمر وبوتيرة أسرع وأشد حتى تُعلن إحدى الدول انتصارها وفوزها في السباق. ومع كل هذا الزحف نحو التفوق العسكري النووي النوعي والكمي من دولة كثيرة، لا أجد من الدول العربية من يتجرأ على دخول هذا السباق، حتى ولو كان موقعه الأخير!