الجمعة، 30 يونيو 2023

أين ذهبتْ أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة؟


ألقى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش كلمة في قمة "ميثاق التمويل العالمي الجديد" التي عُقدت في باريس في 22 يونيو 2023 وتهدف إلى البحث في طرق تعديل النظام المالي العالمي من خلال إصلاح بنوك التنمية العالمية، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، إضافة على المساعدة على مواجهة تداعيات الفقر والتغير المناخي، حيث دعا ضمن كلمته إلى عدة أمور منها توفير 50 مليار دولار سنوياً لتحقيق "أهداف التنمية المستدامة".

وفي الحقيقة فقد ذكَّرني الأمين العام للأمم المتحدة بأهداف التنمية المستدامة التي وافقت عليها الدول قبل أقل من عقدٍ من الزمن، والآن أكل عليها الدهر وشرب، ونستها الأمم والشعوب والحكومات وأصبحت حالياً في غرفة الإنعاش تقاسي من آلام وسكرات الموت، وتعاني من الساعات الأخيرة لمفارقتها للحياة، ثم دفنها في مقبرة الكثير من اتفاقيات ومعاهدات وبروتوكولات الأمم المتحدة الحالية التي لا تعد ولا تحصى، كما إنه أيضاً بين الحين والآخر تُضاف معاهدة جديدة إلى مستودع المعاهدات ومخزن الاتفاقيات والجهود الأممية غير الفاعلة، وآخرها معاهدة "التنوع الحيوي خارج نطاق القضاء القومي" في 12 يونيو 2023. وهذه المعاهدة تهدف إلى حماية الحياة البحرية في أعالي وأعماق البحار، وتمخضت عن مفاوضات عقيمة، وجهود كبيرة أُهدرت، وأموال أنفقت وضُيعت على مدى نحو 20 عاماً. ولذلك فهذا المبلغ الذي اقترحه الأمين العام هو لإنقاذ خطة "أهداف التنمية المستدامة"، وعلاج أزمة ضعف وعزوف دول العالم عن تنفيذها، والإنفاق على إخراجها من حالة الطوارئ الصحية التي وُضعت فيها.

وقد جاءت تقارير الأمم المتحدة التي تتناول تنفيذ هذه الأهداف التنموية التي يبلغ عددها 17 هدفاً في الجانب البيئي والاقتصادي والاجتماعي، سواء على المستوى الدولي أو الإقليمي أو القومي، مشيرة إلى ضعف دول العالم في تحقيق كل هذه الأهداف على حدٍ سواء، مثل التقرير الرابع المنشور في عام 2019 تحت عنوان: "العِلْم لتحقيق التنمية المستدامة: المستقبل الآن"(The Future is Now: Science for Achieving Sustainable Development)، إضافة إلى التقرير الأخير والخامس المنشور في 14 يونيو 2023 تحت عنوان: "التنمية المستدامة الدولية: التقرير الخامس"( Global Sustainable Development Report). فعلى سبيل المثال، أكد التقرير الأخير أن حالة تنفيذ الدول لأهداف التنمية المستدامة قد ساءت خلال الخمس سنوات الماضية، بل وإنه بالنسبة لبعض الأهداف فإن العالم اتجه عكسياً وتأخر كثيراً في تحقيقها، مثل استئصال الفقر المدقع، ومواجهة ومكافحة التغير المناخي، وحماية التنوع الحيوي، وخفض الإنفاق العسكري على الأسلحة. وهذا التباطء والتأخير في تحقيق الأهداف يؤدي في الوقت نفسه إلى عدم اللحاق بتطبيق جدول أعمال 2030، أو أجندة 2030 التي وافقت عليها كل دول العالم.

وعلاوة على هذه التقارير الأممية، فهناك دراسات علمية تحليلية منشورة في مجلات مُحَكَّمة قد توصلت إلى النتيجة نفسها. فعلى سبيل المثال، نَشرت مجلة "الطبيعة" الدولية المعروفة دراسة في 20 يونيو 2023 تحت عنوان: "فشل خطة العالم لجعل الإنسانية مستدامة. العِلْم يستطيع العمل أكثر لإنقاذها"، حيث خلصت الدراسة إلى استنتاج مهم جداً هو أن "أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة تتجه نحو الصخور"، كما أن هذه المجلة المرموقة ستُخصص منذ سبتمبر القادم سلسلة من المقالات التحريرية حول حال تنفيذ وتحقيق أهداف التنمية المستدامة وأسباب الفشل في تطبيقها على أرض الواقع.

ولذلك في تقديري فإن هناك جانبين أود طرحهما بالنسبة لأهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة. أما الجانب الأول فهو أن سرعة تحقيق هذه الأهداف التنموية على كافة المستويات منذ تدشينها لا تتواكب مع سرعة وحجم تداعيات وانعكاسات هذه القضايا التي تعالجها على الإنسان وبيئته والمجتمع البشري بشكل عام، فالتداعيات العصيبة على وقعت لهذه الأهداف تقدمت كثيراً على عملية تحقيق المجتمع الدولي لها، مثل الاستمرار في ظاهرة الفقر المدقع حول العالم، ووقوع ظاهرة التغير المناخي وسرعة انكشاف مردوداتها كالزيادة المطردة في سخونة الأرض والتي زادت حتى الآن عن 1.1 درجة مئوية، وفي طريقها إلى بلوغ درجة كارثية على الأرض ومن عليها وهي 1.5 درجة مئوية، إضافة إلى ارتفاع حرارة وحمضية مياه البحار وارتفاع مستوى سطح هذه البحار وحدوث الفيضانات المهلكة للحرث والنسل والحجر والشجر، إضافة إلى اتساع دائرة حرائق الغابات وزيادة تكرار وقوعها ومساحتها، والزيادة المطردة سنوياً في الموجات الحرارية الصيفية. 

والجانب الثاني فهو الجهد المتواصل والكبير الذي بُذل خلال الثلاثين سنة الماضية والأموال الباهظة التي أنفقتها الأمم المتحدة وحكومات الدول والمنظمات الأهلية، كلها تفوق كثيراً الفائدة التي سيُجنيها الإنسان وبيئته والمجتمع الإنساني برمته من وضعه هذه الأهداف التنموية، أي في تقديري فإن هذه الأموال التي صرفت والجهود التي ضيعت على وضع الأهداف كانت أكثر جدوى وفاعلية وفائدة، لو أنفقتها الدول منذ الثلاثة عقود مباشرة على التنمية على المستوى القُطري.

ولكي تعرفوا حجم هذا الجهد البدني والعقلي والمال الذي أُنفق على وضع هذه الأهداف، أُقدم لكم تاريخ نشؤ فكرة هذه الأهداف التنموية، وكم سنة استغرقت حتى تولَّدت هذه الأهداف وتمت الموافقة عليها وعلى تنفيذها.

 فقد بدأت الخطوة الأولى في القمة البيئية التاريخية، قمة الأرض التي عقدت في مدينة ريو دي جانيرو البرازيلية في يونيو 1992، وفي هذه القمة وضعت اللبنة الأولى لبناء أهداف التنمية المستدامة، حيث تمخض عنها جدول أعمال القرن الحادي والعشرين(أجندة 21)، وهي خطة عمل شاملة لتحقيق التنمية المستدامة بأركانها الثلاثة، الركن البيئي والاقتصادي والاجتماعي، ثم في سبتمبر 2000 تم اعتماد "إعلان الألفية"، ومنها تطوير "أهداف التنمية الألفية"( Millennium Development Goals) التي تكونت من 8 أهداف من أهمها استئصال الفقر بحلول عام 2015. وفي مدينة جوهنسبرج بدولة جنوب أفريقيا حيث عُقدت القمة الدولية حول التنمية المستدامة تم الإعلان في عام 2002 عن خطة عمل لتنفيذ التنمية المستدامة وإعادة التركيز على محاربة الفقر وحماية البيئة.

ثم جاء اجتماع ريو_20، أو مؤتمر الأمم المتحدة حول التنمية المستدامة في يونيو 2012، أي بعد عشرين عاماً من قمة الأرض، حيث وافقت الدول على ما تمخض من تقرير "المستقبل الذي نريد" من استنتاجات وتصورات، ومن بينها البدء في عملية تطوير "أهداف التنمية المستدامة" والبناء على الجهود المشابهة السابقة، منها "أهداف الألفية". وفي عام 2013 قامت الجمعية العمومية للأمم المتحدة بتكليف مجموعة عمل مفتوحة لتطوير هذه الأهداف، وفي سبتمبر 2015 تبنت دول العالم جدول أعمال 2030 للتنمية المستدامة الذي احتوى على 17 هدفاً، أي أن على دول العالم الانتهاء من تحقيق هذه الأهداف بحلول عام 2030.

ولذلك فإن فشل دول العالم في تحقيق أهداف التنمية المستدامة يتماشى ويتطابق مع فشل تنفيذ الكثير من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية وعدم فاعليتها في علاج المشكلات الدولية المشتركة على وجه السرعة والفاعلية. وفي تقديري فإن هناك عدة أسباب لهذه الظاهرة، منها بطء وتعقيد آلية اتخاذ القرار في منظمات الأمم المتحدة، حيث إنها تعتمد عادة على إجماع الدول، ومنها أن المعاهدات تأخذ وقتاً طويلاً لترى النور، فهي بعد التفاوض حولها لسنوات عجاف، والتوقيع عليها من الدول، فإنها تأخذ وقتاً طويلاً للمصادقة عليها ودخولها حيز التنفيذ. كذلك من الأسباب الرئيسة لفشل وضعف تنفيذ المعاهدات الأممية هي عدم وجود أدوات حازمة وفاعلة لمراقبة تنفيذ الدول لتعهداتها والتزاماتها، إضافة إلى عدم وجود آليات للمحاسبة والعقوبة للدول التي لا تطبق بنود المعاهدة، فهي في نهاية المطاف طوعية وليست الزامية.

 

الثلاثاء، 27 يونيو 2023

لكل فِعلْ رد فعل

ما زلتُ أتذكر القانون الثالث لنيوتن للحركة الذي درستُه عندما كنتُ طالباً في المرحلة الثانوية قبل قرابة خمسين عاماً، ومُلخص هذا القانون في علم الميكانيكا بأن لكل فِعل رد فعل مساو له في المقدار ومعاكس له في الاتجاه.

 

فهذا القانون أُطبقه دائماً في واقعنا الحالي على أفعال وممارسات الإنسان تجاه بيئته ومكوناتها الحية وغير الحية، فكلما أَطلقَ الإنسان الملوثات من مصادرها التي لا تعد ولا تحصى إلى عناصر البيئة، جاءت ردود أفعال هذه العناصر البيئية مباشرة وبنفس القوة والمقدار، أي تساويها مقداراً وتضادها اتجاهاً، ولو بعد حِين من الزمن، لتعكس سوء فعل الإنسان وتصرفاته، وتبين الأضرار التي ارتكبتها أيدي الإنسان تجاه مكونات بيئته، بل وفي تقديري ومن خلال متابعتي ومراقبتي لردود فعل البيئة وجدتُها في بعض الحالات التي سأتحدث عنها لاحقاً، أكثر شدة وتنكيلاً من الفعل نفسه، وأقوى تأثيراً على الأرض برمتها، كما أن رد الفعل البيئي تجاوز وتعدى حدود الجيل الواحد نفسه ليؤثر على الأجيال المتلاحقة.

 

فعندما شرع الإنسان قبل أكثر من 200 عام وحتى يومنا هذا في أنشطته التنموية المتسارعة وغير المتبصرة وغير الرشيدة، سمح للملوثات من المصانع والسيارات بالدخول مباشرة إلى الهواء الجوي دون معالجة ذات جدوى وفاعلية، ودون تحييد كلي لهذه الملوثات وإزالة السموم منها، فكانت النتيجة الطبيعية لذلك رد فعل شديد وعصيب من الهواء الجوي، واختلف وتنوع رد الفعل هذا من الهواء الجوي في قوته ودرجته حسب قوة ودرجة سُمية ونوعية هذه الملوثات.

 

ففي العقود الأولى من الثورة التنموية الصناعية كان الإنسان يستخدم أنواع الوقود الأحفوري من فحم ومشتقات النفط والغاز الطبيعي والتي كانت تحتوي على مستويات مرتفعة من مركبات الكبريت، فعندما يحترق هذا النوع من الوقود في المصانع ومحطات توليد الكهرباء، ينطلق منه غاز ثاني أكسيد الكبريت، إضافة إلى غازات ملوثة وحمضية أخرى مثل ثاني أكسيد النيتروجين، فكان رد فعل الهواء الفوري هو تحول هذه الغازات الحمضية في السماء مع وجود بخار الماء إلى أحماض، مثل حمض الكبريتيك، أو حمض البطاريات والمعروف محلياً بـ "التيزاب"، وحمض النيتريك والكربونيك، وكل هذه الأحماض كانت تتكون في السماء العليا فتنزل على شكل أمطار حمضية، أو ثلوج حمضية تَكُون وبالاً ونقمة على البشرية جمعاء، فتدمر الشجر والحجر، وتهلك الحرث والنسل.

 

وعلاوة على ذلك فإن احتراق الوقود الأحفوري ولَّد غاز ثاني أكسيد الكربون الذي ارتفع إلى السماء العليا وتراكم مع الزمن في تلك المنطقة، وكوَّن طبقة واسعة فوق سطح الأرض عَمَلتْ على حبس الحرارة ومنعها من الانتشار، مما أدى إلى انكشاف قضية العصر الكبرى، وهي التغير المناخي وسخونة الأرض وارتفاع حرارتها. وهذا الارتفاع في حرارة الأرض شكَّل تداعيات كثيرة ومتنوعة هزَّت سلامة وأمن كوكبنا كله، منها ارتفاع حرارة وحموضة مياه المسطحات المائية والذي أدى إلى ارتفاع مستوى سطح البحر ووقوع الفيضانات وتدمير المرافق الساحلية. كما أن تداعيات التغير المناخي تخطت الجوانب البيئية وامتدت واتسعت دائرة تأثيراتها على الجوانب الصحية، والاقتصادية، وأمن واستقرار الدول، أي أن رد فعل الهواء الجوي في هذه الحالة فاق وتجاوز فعل وممارسات الإنسان نفسه. كذلك فإن تداعيات التغير المناخي لن يتأثر بها هذا الجيل فحسب، وإنما ستصل حتماً وتؤثر على الأجيال المستقبلية من بعدنا، جيلاً بعد جيل.

 

كذلك فإن الاعمال التنموية للإنسان سوَّقت منتجات كانت تعتبر في البداية منتجات سحرية لها تطبيقات لا تعد ولا تحصى في حياتنا اليومية، وبالتحديد المركبات العضوية التي تحتوي على العناصر الهالوجينية مثل الكلورين، والفلورين، والمعروفة بالفريون أو مركبات الـ "سي إف سي"(CFCs). فهذه المجموعة الكبيرة من المنتجات الاستهلاكية كانت تتميز بخصائص حميدة وفريدة من نوعها، مثل الثبات والاستقرار في البيئة، وعدم الاشتعال، وخمولها الكيميائي. ولكن تبين مع الوقت بأن هذه الصفات والمميزات نِقمة وليست نعمة، وأنها بلاء وليس منحة، فهي بسبب عدم تحللها واستقرارها  كانت تنتقل إلى طبقات الجو العليا، وبالتحديد إلى طبقة الأوزون في طبقة الاستراتسفير فتُحلل غاز الأوزون الموجود هناك، والذي يعمل كمظلة واقعية تحمي الكرة الأرضية ومن عليها من كائنات وأحياء من شَرِ الأشعة البنفسجية القاتلة التي كان غاز الأوزون يمتصها فيمنعها من الوصول إلى سطح الأرض. فهُنا أيضاً رد فعل البيئة على هذه التعديات كان شديداً جداً، وضرب الكرة الأرضية برمتها ووقعت أضرارها على كل كائن حي صغير أم كبير يعيش على سطحها. 

 

وفي المقابل فإن أفعال الإنسان امتدت إلى المسطحات المائية، فصَرف الناس شتى أنواع الملوثات في بطنها، منها ملوثات مُغذية للنباتات البحرية، كالفوسفات والنيترات، وغيرهما من مصادر مختلفة منها مياه المجاري والصرف الصحي، إضافة إلى مخلفات مياه الصرف الزراعي والصناعي. فجاء رد فعل البيئة لهذه الأفعال والتجاوزات على هذا المكون البيئي سريعاً وحازماً، فقد أدت هذه الملوثات إلى وقوع طفرة كبيرة وواسعة في نمو الطحالب، فغطت مساحات واسعة من هذه المسطحات وحولتها إلى اللون الأخضر، أو البني، أو الأحمر القاتم. وهذه المساحات تحولت سريعاً إلى مقابر جماعية وصحراء مائية قاحلة لا حياة فيها، فانخفض كثيراً تركيز الأكسجين الذائب في الماء، واختنقت وماتت الأسماك والقواقع التي كانت تعيش في تلك المناطق المنكوبة، كما تسمم الناس الذي أكلوا من هذه الكائنات البحرية، أو استحموا في المناطق الملوثة.

 

فكل هذه الظواهر والحوادث الكثيرة والمتنوعة التي وقعت على عناصر البيئة من ماء، وهواء، وتربة نتيجة لتعدي الإنسان على بيئته، ونتيجة لأعماله اللامسؤولة، كانت ردود فعل طبيعية ومنطقية على هذه التجاوزات التي امتدت إلى كل شبر قريب أو بعيد من كوكبنا، كما أن ردود الفعل البيئية لم تقف عند حد التأثير على هذا الجيل وإنما انتقلت مباشرة إلى الأجيال القادمة، إضافة إلى أنها أضعفت في الوقت نفسه قدرة الموارد الأرضية وثرواتها الطبيعية على الاستدامة في العطاء والإنتاج لنا ولمن يأتي بعدنا، وزعزعت من حالة التوازن والاستقرار بين كافة عناصر البيئة الحية وغير الحية.  

   

الجمعة، 23 يونيو 2023

تفاقم وتوسع دائرة التلوث الضوئي


مجلة علمية عريقة ومرموقة تَصْدر أسبوعياً في الولايات المتحدة الأمريكية من "الجمعية الأمريكية لتقدم العلوم" تحت مسمى "العلم"(Science)، حيث نُشر العدد الأول للمجلة في عام 1880، أي أن عمرها الآن قرابة 143 عاماً، ولذلك فإن هذه المجلة نظراً لسمعتها على المستوى العالمي لا تنشر إلا الأبحاث والدراسات الأصيلة والقيَّمة والتي لها وزن علمي ثقيل ولها فائدة كبيرة، وتُقدم انجازاً واكتشافاً حديثين في المجالات العلمية المختلفة، كما تنشر المجلة آخر المستجدات والتطورات على الساحة العلمية الدولية.

 

 فهذا المجلة أصدرتْ عدداً خاصاً في 16 يونيو 2023 تحت عنوان "التلوث الضوئي"، أي أن هذا العدد في مُجمله تناول قضية واحدة، ربما يعتبرها الناس هامشية ولا علاقة لهم بها، وليست ذات قيمة علمية عالية، ولا يهتم بها عامة الناس، وهي قضية الإنارة الليلية الساطعة التي تستمر ساعات طويلة من الليل طوال العام، فتُحول ظلام الليل الكالح إلى نهار ونور مشع من مصادر لا تعد ولا تحصى، فتنتقل الأضواء الشديدة من سطح الأرض إلى أعالي السماء.

 

فتخصيص هذه المجلة لعدد مستقل لمناقشة وطرح موضوع معين، أو قضية محددة، يؤشر في حد ذاته على أهمية هذه القضية، ويؤكد على وجود تداعيات عصيبة لهذه القضية على البيئة ومكوناتها الحية وغير الحية، وعلى رأس الأحياء الإنسان.

 

وقد احتوى هذا العدد الخاص على ستة مقالات ودراسات رصينة تتناول جوانب وأبعاد التلوث الضوئي وتداعياته المتعددة والمختلفة على الإنسان ومكونات بيئته، كما تفيد بأنها ظاهرة قديمة ولكنها متجددة وتتفاقم ويتسع نطاق ومجال تأثيراتها سنة بعد سنة. أما المقال الأول فقد جاء تحت عنوان: "فُقدان الظلام"، حيث يوثق ظاهرة الأضواء اللامعة الشديدة في معظم مدن العالم، والتي لها مصادر كثيرة ومختلفة في حجمها وشدتها ودرجة تأثيرها، منها مصابيح الإنارة في الشوارع والطرقات والمنازل، وإنارة المباني والعمارات والمجمعات من الداخل والخارج والملاعب الرياضية، إضافة إلى حركة وسائل المواصلات والمرافق الليلية الخاصة التي تعمل الليل كله حتى طلوع الشمس. وهذه الأنوار تصدر من سطح الأرض وتبلغ عنان السماء وتشع وتضيء الأفق كله أثناء الليل، حتى أن الليل والنهار في الكثير من مدن العالم الحضرية أصبحا سواسية لا فرق كَثِير بينهما من ناحية شدة الأنوار والإضاءة.

 

وعلاوة على مصادر الأضواء النابعة من سطح الأرض، فهناك مشهد جديد برز في العقود القليلة الماضية ولكن في أعالي السماء، وبالتحديد في المدارات القريبة والبعيدة حول الأرض، فتحولت هذه المدارات إلى شارعٍٍ سريع ومزدحم جداً ومكتظ، ليس بالسيارات والحافلات الأرضية، وإنما بعشرات الآلاف من الأقمار الصناعية الكبيرة والصغيرة الحجم والسفن الفضائية التي تسبح واحدة تلو الأخرى في مدارات الأرض، فتُضيء السماء من فوقنا، وكأنها في طلعتها الأولى مصابيح وأجرام سماوية طبيعية تتلألأ فوق الأرض، حسب المقال المنشور في مجلة "ناشونال جيوجرافيك" في 30 مارس 2021 تحت عنوان: "التلوث الضوئي من الأقمار الصناعية في كل مكان". وقد توقع هذا البحث بأنه خلال العقود القادمة ستكون نقطة واحدة في السماء من بين 15 نقطة ضوء في الليل هي ليست طبيعية فطرية من الأجرام السماوية، وإنما هي صناعية من تحرك الأقمار والسفن الفضائية وغيرهما(للمزيد من المعلومات يمكن الرجوع إلى مقالي في أخبار الخليج في 15 أبريل 2022 تحت عنوان :"الأقمار الصناعية مصدر للتلوث").

   

والمقال الثاني المنشور في العدد الخاص من مجلة "العلم" فعنوانه: "تنظيم التلوث الضوئي لا يكون فقط في مجال سماء الليل"، حيث يهدف هذا المقال إلى تصحيح الانطباع العام الخاطئ عند الكثير من الناس بأن التلوث الضوئي يعيق فقط عمل وأبحاث علماء الفلك والمهتمين والهواة ممن يستمتعون بمشاهدة ومراقبة مخلوقات الله الفضائية، وإنما يجب العلم بأن الإنارة الليلية المتواصلة والمستمرة والشديدة تُحدث خللاً كبيراً في نظام الحياة الطبيعي الفطري للكثير من الكائنات الليلية التي تمارس حياتها اليومية ليلاً من حشرات وطيور مهاجرة، فتنشط فقط أثناء الليل من أجل البحث عن الغذاء والتكاثر وغيرهما، فزيادة ساعات الضوء الليلية يغير من الساعة الحيوية الداخلية لهذه الكائنات، فتوقع شرخاً عظيماً في سلوكياتهم وتصرفاتهم، وتتأثر حياتهم ونموهم وتكاثرهم، وحياة هذه الكائنات مرتبطة بخيوط دقيقة كخيوط العنكبوت مباشرة أو غير مباشرة بحياة الإنسان واستدامة معيشته فوق سطح الأرض.

 

وأما الدراسة الثالثة فتتناول قياس ومراقبة التلوث الضوئي سواء من على سطح الأرض، أو باستخدام الأقمار الصناعية، كما تناقش المداخل المختلفة والتحديات التي تواجه الإنسان لإدارة هذه المشكلة. كذلك فإن الدراسة الرابعة تأتي تحت عنوان: "تأثيرات المصابيح الصناعية على الأنواع والأنظمة البيئية"، حيث تفيد الدراسة بأن التأثيرات على الأنظمة البيئية معقدة ومتشابكة وغير معروفة بالدقة الشديدة حتى الآن، وأما المقال الخامس فيقع تحت عنوان: "خفض التعرض للإضاءة الليلية في البيئات الحضرية يفيد صحة الإنسان والمجتمع"، حيث تشير الدراسة إلى أن هذا التلوث الضوئي والأنوار العالية تعرض عين الكائنات الليلية للخطر وتؤثر على حدة أبصارها، كما تحدث خللاً في العمليات الحيوية في أجسامها وفي ساعات النوم والاستيقاظ، أما تأثيراتها على صحة الإنسان فمازالت في مهدها وفي طور البحث والدراسة، وفي تقديري فإن أضرارها ستكون مشهودة ومعلومة خلال العقود الماضية. وأما البحث السادس والأخير فقد نُشر تحت عنوان: "التأثرات المتزايدة للتلوث الضوئي على علم الفلك للمحترفين والهواة"، فعلم الفلك من العلوم التاريخية القديمة، وهناك الكثير من المهتمين بهذا العلم عبر الزمان والمكان والثقافات المختلفة في كل أنحاء العالم، وبخاصة من الهواة الذين يسيحون بحُرية أثناء الليل في السماوات العليا لمشاهدة عجائب الأجرام السماوية والنجوم الساطعة، والآن مع وجود التلوث الضوئي فقد شكل حجاباً ملموساً في وضوح رؤية هذه المخلوقات الإلاهية العجيبة، إضافة على أن مثل هذه الأنوار تؤثر على أبحاث العلماء وتقلل من احتمال اكتشافاتهم الفلكية من الأجسام الجديدة.

 

فالتلوث الضوئي تحول مع الوقت إلى قضية هامة يجب الاهتمام بها ومعالجتها قبل أن تخرج عن سيطرة الإنسان والتحكم في مردوداته، فتداعياته المعلومة حالياً والمنظورة تمس الجانب الصحي للإنسان والكائنات الحية الأخرى النباتية والحيوانية، كما أنها تعرقل أبحاث علماء الفلك والفضاء والهواء على حدٍ سواء.

 

الأحد، 18 يونيو 2023

تحذيرات القادة والعلماء من الذكاء الاصطناعي

الذكاء الاصطناعي في صورته البدائية البسيطة والأقل تعقيداً وصعوبة هو التطبيقات التي يحْمِلها ويخزنها هاتفك النقال في ذاكرته، وتستخدمها بشكلٍ يومي دون انقطاع. فعلى سبيل المثال، عندما تريد أن تكتب رسالة قصيرة باستخدام هاتفك الخلوي، وتبدأ بكتابة حرفٍ أو حرفين فإن برنامج الذكاء الاصطناعي الموجود في هاتفك يقدم لك خيارات وبدائل على كلمات تناسب معنى الحرفين، أو إذا كتبتَ كلمة واحدة فقط فالبرنامج يقدم لك جُملاً وعبارات تحمل الفكرة والمعنى نفسه. وفي بعض الحالات فإن الهاتف يحفظ العبارات والجمل التي تكتبها دائماً، فإذا كتبتَ أول كلمة من هذه الجمل والعبارات، فإن الذكاء الاصطناعي يوفر لك العبارة المخزنة عنده والتي استخدمتها في المرات السابقة.

 

ولكن الذكاء الاصطناعي تَطَور ونما بدرجةٍ كبيرة جداً وأكثر تعقيداً، واتسعت وامتدت مجالاته وتطبيقاته لتشمل كافة مناحي الحياة اليومية، فتخطى بذلك توقعات البشر، وبالتحديد الذين صنعوه وأنتجوه أنفسهم، فتقدم بخطى سريعة جداً وفي مجالات حساسة أمنية وعسكرية دقيقة وفي غاية السرية وتمس حياة وأمن الإنسان بشكلٍ مباشر، بحيث إن الإنسان قد يفقد السيطرة عليه، فلا يمكنه التحكم في تصرفاته وممارساته ضد الإنسان نفسه.

 

فهذا التقدم السريع غير المحسوب وغير المسبوق في تاريخ البشر، بات الآن يخوف الإنسان في تداعياته المستقبلية على الإنسانية برمتها والتهديدات التي قد يمثلها على استدامة حياة الإنسان، حتى إنني في الآونة الأخيرة قرأتُ تصريحات وتحليلات كثيرة من مصادر مختلفة وعلى جميع المستويات والتخصصات، فمنها تصريحات من رجال السياسة والنفوذ على المستوى الدولي، ومنها تقارير ومقالات من أهل العلم والخبرة والاختصاص في إنتاج هذه العقل الاصطناعي البديل. وهذه التصريحات والتحليلات الأولية تشير إلى احتمالية وقوع تهديد أمني خطير من هذه التقنية الجديدة على المجتمعات البشرية، فتُحذر من تأثيراتها العامة الشاملة، وكأنها تحولت إلى قنبلة دمار شامل ستنزل على البشرية جمعاء.

 

فعلى سبيل المثال، جاء تصريح مُفزع من رأس أعلى هرم سياسي وتنفيذي في العالم، وهو الرئيس الأمريكي جو بايدن في الأول من يونيو 2023، حيث قال في كلمة ألقاها في حفل تخريج طلاب أكاديمية القوات الجوية، "إنني التقيتُ 8 أفضل علماء في مجال الذكاء الاصطناعي، وبعضهم قلق جداً بأن الذكاء الاصطناعي في الحقيقة قد يتخطى تفكير وتخطيط الإنسان، ولذلك لدينا الكثير للتعامل معه"، علماً بأن بايدن التقى في البيت الأبيض في الخامس من مايو 2023 الرؤساء التنفيذيين للشركات الرائدة في مجال الذكاء الاصطناعي للتحاور معهم حول أمن وسلامة منتجات وتطبيقات الذكاء الاصطناعي، والتأكد بأنها آمنة للاستخدام من قبل عامة الناس قبل تسويقها للجميع. ولذلك خصص البيت الأبيض 140 مليون دولار لتأسيس أجهزة بحثية مختصة بالذكاء الاصطناعي تحت مظلة "المؤسسة القومية للعلوم". وتهدف هذه الأجهزة إلى دراسة الجوانب الأخلاقية لهذه التقنية الحديثة المتغلغلة في كل مجالات ودقائق حياتنا، والعمل على تطوير هذه التقنية بشكل مسؤول خدمة لعامة الناس، إضافة إلى وضع أسس وقواعد وسياسات عامة تنظم هذه التقنية وتقنن استخدامه وتسويقه.

 

 كما أن منظمة "مركز أمان الذكاء الاصطناعي"( Center for AI Safety) ممثلة في  مئات العلماء والتنفيذيين لصناعة التكنلوجيا، مثل جوجل، وميكروسوفت، وشخصيات عامة أخرى، أرسلوا بياناً تحذيرياً عاماً حول الذكاء الاصطناعي في السادس من يونيو 2023، وجاء في البيان الذي وقعه 350 شخصية مرموقة كل في مجاله وتخصصه: "التخفيف من خطر الانقراض بسبب الذكاء الاصطناعي يجب أن يكون أولوية دولية إلى جانب المخاطر المجتمعية الأخرى كالأوبئة والحرب النووية".

 

 كذلك جاء التحذير من الأب الروحي للذكاء الاصطناعي "جيفري هنتون"( Geoffrey Hinton) الذي وضع أساسيات أحد التطبيقات والبرامج الرائدة لشركة جوجل في مجال الذكاء الاصطناعي والمعروف ببرنامج( OpenAI's ChatGPT)، فأنتج هذا العالم وغيره من العلماء ما لم يتوقعه أحد، ولم يخطر على بالهم، وهو أن أنظمة الذكاء الاصطناعي أصبحت أكثر ذكاء وقدرة من عقل الإنسان، بل وتفوقت عليه. فهذا العالم بعد أن خاض هذه التجربة الفريدة لأكثر من عقد من الزمان وسبر غور هذه التقنية المخيفة، وتعرف عن كثب على الغول الذي أنتجه وصنعه بيديه، انتابه مس شديد من الرعب والخوف مما قد يقوم به هذا الغول العظيم من فقدان السيطرة عليه والتحكم في ما قد يقوم به، فاستقال من منصبه كنائب رئيس في شركة "جوجل" ليستطيع التحدث بحرية للجمهور حول مخاطر الذكاء الاصطناعي، وضرورة كبح جماح هذه التقنية الحديثة السرية والمعقدة قبل فوات الأوان، فيُحذر هذا العالم من أهمية ترويض هذا الغول العملاق المفترس الذي تجذر وبسرعة فائقة في أعماق المجتمعات البشرية في كل أنحاء المعمورة، ولا يعلم أحد قدراته على الاختراق في العقل البشري والهدم والفساد العام.

 

وفي المقابل أكد مستشار رئيس وزراء بريطانيا للذكاء الاصطناعي "مات كليفورد"( Matt Clifford) في الخامس من يونيو 2023 بأن أنظمة الذكاء الاصطناعي ستكون فاعلة وقوية، وقال: "ستكون هناك تهديدات فعلية خطيرة جداً للبشر وبإمكانه قتل الكثير من الناس...والتوقعات خلال سنتين". وفي الوقت نفسه نشرت "وزارة الدولة للعلوم والابتكار والتكنلوجيا" في بريطانيا، مكتب الذكاء الاصطناعي، تقريراً في 29 مارس 2023 تحت عنوان: "مدخل مساند للابتكار في تنظيم الذكاء الاصطناعي". وهذا التقرير الذي تم عرضه على البرلمان البريطاني يحتوي على سبعة أجزاء منها الملخص التنفيذي، والمقدمة، ثم النظام الحالي، والجزء الثالث تناول موضوع مدخل الابتكار في مناقشة الذكاء الاصطناعي والأدوات المستخدمة في التنفيذ، والجزء السابع قدَّم أهم الاستنتاجات والخطوات المستقبلية، إضافة إلى ملحقين. وقد وردت تحذيرات واضحة في فقرة "الملخص التنفيذي" لهذه التقنية والمخاطر والتهديدات المستقبلية التي قد يُشكلها، حيث جاء فيه: "المخاطر تتضمن أي شيء بدءاً من الضرر الجسدي، وتهديد الأمن القومي، إضافة إلى المخاطر على الصحة العقلية. كما يمكن أن يمثل تطوير وتمكين الذكاء الاصطناعي تحديات أخلاقية لا توجد لها إجابات واضحة".

 

أما على المستوى الدولي الجماعي المشترك فقد بدأت المبادرة للتصدي لظاهرة تغلغل الذكاء الاصطناعي في قمة الدول الصناعية السبع الكبرى في مدينة هيروشيما اليابانية في مايو 2023 حيث أَعلنتْ القمة عن تدشين "عملية هيروشيما للذكاء الاصطناعي"( Hiroshima AI Process)، وذلك بهدف تنظيم هذه التقنية، وتحديد مدخل جماعي للعمل في هذا المجال، إضافة إلى وضع سياسات للتعامل معه وتنسيق العمل والجهود الدولية في مجال حوكمة الذكاء الاصطناعي. وقد تزعم رئيس وزراء بريطانيا هذه المبادرة الدولية حيث طرح فكرة تنظيم قمة دولية في الخريف القادم في العاصمة البريطانية، ونال مباركة الرئيس الأمريكي بايدن في الاجتماع الذي عُقد في البيت الأبيض في الثامن من يونيو 2023 تحت مسمى اتفاقية عريضة أُطلق عليها "إعلان أتلانتيك"(Atlantic Declaration)، وهي اتفاقية اقتصادية بين بريطانيا وأمريكا، وتشتمل على التعاون والتنسيق في مجال الأبحاث والاستثمارات في الذكاء الاصطناعي.

 

فالذكاء الاصطناعي، كباقي التقنيات والبرامج شديدة التقدم والتطور هو من عقل وجهود الدول المتقدمة، ولذلك فهي التي تسيطر عليه كلياً، وهي التي تخطط في توجهاته، وتتحكم في تطبيقاته المستقبلية، وترسم السياسات والأنظمة العامة لاستخدامه، ونحن في الدول النامية كالعادة نتلقى فقط ونستقبل كل هذه التوجهات المفروضة علينا دون أن تكون لدينا القدرة على التغيير فيها، أو تكون عندنا الإمكانات والخبرات العلمية التقنية لتكييفها لتتناسب مع دولنا ومجتمعاتنا.

الخميس، 15 يونيو 2023

سباق الليثيوم يصل إلى الشرق الأوسط


عنصر كيميائي مغمور موجود في الجدول الدوري للعناصر الكيميائية منذ مئات السنين، ولكن هذا العنصر بالرغم من قِدَمه وتعرُّف العلماء على هويته وخصائصه، إلا أنه بالرغم من ذلك كله ظل مهمشاً ولم يلق أحد له بالاً، ولم يجد لنفسه موطأ قدمٍ راسخ وقوي في الأسواق العالمية وفي صناعة المنتجات الاستهلاكية كمنتج استراتيجي واسع الاستخدام يحتاج إليه البشر أجمعين، فهو إذن موجود منذ القِدَم في بعض الدول ولكن لا قيمة له من الناحية التجارية والإنتاجية والاقتصادية.

 

ولكن كما يُقال الأيام دول، والثروات الطبيعية التي حباها الله لينتفع بها البشر بين مد وجزر، فتلك الأيام والموارد والخيرات الفطرية، سواء أكانت حية كالنباتات والحيوانات أم غير حية، يتم تداولها بين الناس بين الاتساع في الاستخدام وبين الانكماش، ومنها ما يزيد الاعتماد عليها، ومنها ما ينقص استخدامها مع الزمن فيأفل نجمها. فهذا في تقديري ينطبق أيضاً على العناصر والمركبات الكيميائية الموجودة طبيعياً في باطن الأرض، ومخزنة كمواد طبيعية بعضها في أعماق الكتلة الأرضية، وبعضها في أعماق البحار والمحيطات السحيقة وهي جاثمة هناك آلاف السنين تنتظر الوقت المناسب، وتنتظر دورها في التنقيب عنها واستخراجها إلى سطح الأرض، كما تنتظر دورها في ظهور حاجة الإنسان لها، واكتشاف تطبيقات حيوية لا يستغني عنها البشر.

 

وهذا بالضبط ما حدث لعنصر الليثيوم، وبالتحديد المُركبات والأملاح التي تحتوي على هذا العنصر الأبيض الفضي اللون، والذي يتمتع بنشاطٍ قوي جداً يجعله قابلاً للاشتعال في حالته الفردية العنصرية، حتى أن هذا العنصر المجهول اقتصادياً نال الآن وبجدارة لقب "النفط القادم"، أو "الذهب الأبيض"، فهو يدخل كمكون رئيس في الكثير من منتجات القرن الحادي والعشرين التي لا يمكن الاستغناء عنها في كل دول العالم، مثل بطاريات مئات الملايين من السيارات الكهربائية، والمليارات من رقائق ومكونات الكمبيوتر والهاتف النقال، ومصادر الطاقة المتجددة النظيفة كطاقة الرياح والطاقة الشمسية.

 

ومن أجل السيطرة على هذا الذهب الأبيض والتحكم فيه على المستوى الدولي، بدأ منذ قرابة عقد من الزمان سباق دولي جديد محتدم، ووقع تنافس محموم قوي لإحراز السبق والريادة في استخراجه من مكامنه ومخازنه في البر والبحر، ومن سيفوز بهذا السباق ويحرز مركزاً متقدماً سيكون عنده زمام الأمور، وستكون بيده دفة سفينة التحكم في أسعار السوق، وسينال مع كل ذلك تطوراً اقتصادياً وتنموياً كبيرين، وهيمنة سياسية على القرار الدولي.

 

أما نتائج السباق الدولي حتى الآن فالصين هي الأولى، وهي التي تتصدر رأس القائمة في هذا السباق الماراثوني، فهي الرائدة في مجال تكرير وإنتاج الليثيوم وتصنيع هيدروكسيد الليثيوم المستخدم في بطاريات السيارات، وهذه الريادة والتفوق برزا على جبهتين. الجبهة الأولى هي التنقيب عن الليثيوم والعناصر الأخرى التي نحتاج إليها في كافة الأجهزة الإلكترونية والبطاريات والرقائق، مثل النيكل، والكوبالت، والنحاس وغيرها داخل الصين وفي حدودها الجغرافية، مثل المنطقة الجبلية الغنية التي يٌطلق عليها "بايان أوبو"(Bayan Obo) المخزن في بطنها كميات ضخمة من العناصر الأرضية النادرة(Rare Earth)، إضافة إلى منطقة البحيرات المالحة في مقطعة كونجهاي (Chaerhan Salt Lake). وأما الجبهة الثانية فهي تشغيل الشركات الصينية لبعض مواقع التعدين والتنقيب عن الليثيوم وغيره من العناصر النادرة وتكريرها مثل الكونجو، وأستراليا، وفي دول قارة أمريكا الجنوبية، مثل منطقة "مثلث الليثيوم"، وهي بوليفيا، وتشيلي، والأرجنتين. ففي بوليفيا هناك أكبر مخزون لليثيوم في العالم في منطقة (Salar de Uyuni)، حيث البحيرات الملحية ويتم فصل الليثيوم من الملح تحت إشراف وتشغيل شركة صينية.

 

وأما الولايات المتحدة الأمريكية فهي دخلت السباق منذ زمن طويل، ولكن تقدمها وخطواتها نحو الأمام كانت بطيئة جداً، واعتمدت على الصين ودول أخرى لتزويدها بما تحتاج من الليثيوم وغيره من العناصر لتجنب التداعيات البيئية والصحية المصاحبة لعملية الإنتاج وخفض الكلفة، ولكن ظروفاً دولية وأزمات صحية ألزمت أمريكا إلى تغيير سياساتها واستراتيجياتها، مثل وباء كورونا الذي ضرب الكرة الأرضية برمتها وأوقف سلاسل توريد وإمداد المواد الخام والمنتجات حول العالم، وشل حركة التجارة بين الدول، إضافة إلى الحرب الروسية الأوكرانية. فكل هذه الوقائع اضطرت أمريكا إلى أن تعود إلى السباق مرة ثانية، وتُسرع من خطواتها حتى تصل إلى النهائية قبل الدول الأخرى، وتقلل من اعتمادها على الدول الأخرى لتزويدها بالمواد الخام. فقد تعهد الرئيس بايدن منذ ولايته بالتصدي لظاهرة التغير المناخي والتحول إلى الاقتصاد الأخضر المعتمد على مصادر الطاقة المتجددة والنظيفة، ولذلك اتخذ عدة خطوات لتحقيق هذه الأهداف، منها التوقيع على قانون "خفض التضخم" (Inflation Reduction Act)، ثم توفير القروض والمساعدات للشركات التي تعمل في مجال إنتاج السيارات الكهربائية وتصنيع البطاريات، حيث أعلن في 18 أكتوبر 2022 عن توفير قروض بمبلغ 2.8 بليون دولار، ودشَّن "المبادرة الأمريكية لمواد البطاريات" (American Battery Materials Initiative)، كذلك شجع شركات التعدين على إنتاج الليثيوم والعناصر الأخرى،  منها المنطقة الواقعة على الحدود بين ولاية كاليفورنيا ونيفادا وهو منجم (Mountain Pass)، إضافة إلى منجم (Silver Peak Mine) الذي يعد من أقدم المناجم في نيفادا لإنتاج الليثيوم. وعلاوة على ذلك فإن الشركات تحفزت في الاستثمار في السيارات الكهربائية، ومصانع التكرير، والمناجم المنتجة لليثيوم والعناصر الضرورية الأخرى.

 

وفي المقابل فإن الدول الأوروبية سارت على النهج الأمريكي أيضاً، وتبنت السياسة الأمريكية في الاعتماد على القدرات والإمكانات الأوروبية الذاتية وتجنب الاعتماد على الصين وغيرها من الدول، حيث قامت بوضع قانون جديد لتأمين احتياجاتها من المواد الخام(Critical Raw Materials Act)، كما قامت بعض الدول، مثل ألمانيا والنمسا بإنشاء أول مصنع لتكرير الليثيوم، إضافة إلى السويد التي تمتلك مخزوناً يعتبر هو الأكبر على مستوى القارة الأوروبية من الليثيوم والعناصر الأرضية النادرة.

 

وطوال العقود الماضية، فقد كانت دول الشرق الأوسط غائبة كلياً عن هذا السباق الدولي، فلم تتمكن من التنافس مع الدول المصنعة لليثيوم والمعادن الأخرى لعدم وجود المقومات القوية التي تؤهلها للدخول في السباق، ولكن في 27 فبراير 2023 تغير هذا التوجه الدولي، وأصبحت إيران أول دولة في الشرق الأوسط قادرة على خوض هذا السباق والتنافس على مركز الصدارة، وذلك بعد أن أعلنت إيران ممثلة في وزارة الصناعة والتعدين والتجارة عن اكتشاف أول مخزون ضخم لليثيوم في سهول قهاوند شرقي مدينة همدان، حيث تُقدر الكمية بنحو 8.5 مليون طن من صخور الليثيوم، فهي الآن تحتل المركز الرابع في احتياطي الليثيوم على المستوى الدولي الذي يبلغ 89 مليون طن بعد بوليفيا في المركز الأول(21 مليون طن)، ثم الأرجنتين(19 مليون طن)، وتشيلي(9.8)، وأستراليا(7.3) في المركز الخامس، والصين(5.1 مليون طن)في المركز السادس، حسب إحصاءات هيئة المسح الجيولوجية الأمريكية(U. S. Geological Survey) المنشورة في يناير 2022.

 

والعالم الآن في انتظار النتائج النهائية لسباق الليثيوم، ويترقب بلهفة شديدة لمعرفة من سيصل أولاً إلى خط النهاية ويفوز بالجائزة الذهبية الكبرى.