الجمعة، 23 يونيو 2023

تفاقم وتوسع دائرة التلوث الضوئي


مجلة علمية عريقة ومرموقة تَصْدر أسبوعياً في الولايات المتحدة الأمريكية من "الجمعية الأمريكية لتقدم العلوم" تحت مسمى "العلم"(Science)، حيث نُشر العدد الأول للمجلة في عام 1880، أي أن عمرها الآن قرابة 143 عاماً، ولذلك فإن هذه المجلة نظراً لسمعتها على المستوى العالمي لا تنشر إلا الأبحاث والدراسات الأصيلة والقيَّمة والتي لها وزن علمي ثقيل ولها فائدة كبيرة، وتُقدم انجازاً واكتشافاً حديثين في المجالات العلمية المختلفة، كما تنشر المجلة آخر المستجدات والتطورات على الساحة العلمية الدولية.

 

 فهذا المجلة أصدرتْ عدداً خاصاً في 16 يونيو 2023 تحت عنوان "التلوث الضوئي"، أي أن هذا العدد في مُجمله تناول قضية واحدة، ربما يعتبرها الناس هامشية ولا علاقة لهم بها، وليست ذات قيمة علمية عالية، ولا يهتم بها عامة الناس، وهي قضية الإنارة الليلية الساطعة التي تستمر ساعات طويلة من الليل طوال العام، فتُحول ظلام الليل الكالح إلى نهار ونور مشع من مصادر لا تعد ولا تحصى، فتنتقل الأضواء الشديدة من سطح الأرض إلى أعالي السماء.

 

فتخصيص هذه المجلة لعدد مستقل لمناقشة وطرح موضوع معين، أو قضية محددة، يؤشر في حد ذاته على أهمية هذه القضية، ويؤكد على وجود تداعيات عصيبة لهذه القضية على البيئة ومكوناتها الحية وغير الحية، وعلى رأس الأحياء الإنسان.

 

وقد احتوى هذا العدد الخاص على ستة مقالات ودراسات رصينة تتناول جوانب وأبعاد التلوث الضوئي وتداعياته المتعددة والمختلفة على الإنسان ومكونات بيئته، كما تفيد بأنها ظاهرة قديمة ولكنها متجددة وتتفاقم ويتسع نطاق ومجال تأثيراتها سنة بعد سنة. أما المقال الأول فقد جاء تحت عنوان: "فُقدان الظلام"، حيث يوثق ظاهرة الأضواء اللامعة الشديدة في معظم مدن العالم، والتي لها مصادر كثيرة ومختلفة في حجمها وشدتها ودرجة تأثيرها، منها مصابيح الإنارة في الشوارع والطرقات والمنازل، وإنارة المباني والعمارات والمجمعات من الداخل والخارج والملاعب الرياضية، إضافة إلى حركة وسائل المواصلات والمرافق الليلية الخاصة التي تعمل الليل كله حتى طلوع الشمس. وهذه الأنوار تصدر من سطح الأرض وتبلغ عنان السماء وتشع وتضيء الأفق كله أثناء الليل، حتى أن الليل والنهار في الكثير من مدن العالم الحضرية أصبحا سواسية لا فرق كَثِير بينهما من ناحية شدة الأنوار والإضاءة.

 

وعلاوة على مصادر الأضواء النابعة من سطح الأرض، فهناك مشهد جديد برز في العقود القليلة الماضية ولكن في أعالي السماء، وبالتحديد في المدارات القريبة والبعيدة حول الأرض، فتحولت هذه المدارات إلى شارعٍٍ سريع ومزدحم جداً ومكتظ، ليس بالسيارات والحافلات الأرضية، وإنما بعشرات الآلاف من الأقمار الصناعية الكبيرة والصغيرة الحجم والسفن الفضائية التي تسبح واحدة تلو الأخرى في مدارات الأرض، فتُضيء السماء من فوقنا، وكأنها في طلعتها الأولى مصابيح وأجرام سماوية طبيعية تتلألأ فوق الأرض، حسب المقال المنشور في مجلة "ناشونال جيوجرافيك" في 30 مارس 2021 تحت عنوان: "التلوث الضوئي من الأقمار الصناعية في كل مكان". وقد توقع هذا البحث بأنه خلال العقود القادمة ستكون نقطة واحدة في السماء من بين 15 نقطة ضوء في الليل هي ليست طبيعية فطرية من الأجرام السماوية، وإنما هي صناعية من تحرك الأقمار والسفن الفضائية وغيرهما(للمزيد من المعلومات يمكن الرجوع إلى مقالي في أخبار الخليج في 15 أبريل 2022 تحت عنوان :"الأقمار الصناعية مصدر للتلوث").

   

والمقال الثاني المنشور في العدد الخاص من مجلة "العلم" فعنوانه: "تنظيم التلوث الضوئي لا يكون فقط في مجال سماء الليل"، حيث يهدف هذا المقال إلى تصحيح الانطباع العام الخاطئ عند الكثير من الناس بأن التلوث الضوئي يعيق فقط عمل وأبحاث علماء الفلك والمهتمين والهواة ممن يستمتعون بمشاهدة ومراقبة مخلوقات الله الفضائية، وإنما يجب العلم بأن الإنارة الليلية المتواصلة والمستمرة والشديدة تُحدث خللاً كبيراً في نظام الحياة الطبيعي الفطري للكثير من الكائنات الليلية التي تمارس حياتها اليومية ليلاً من حشرات وطيور مهاجرة، فتنشط فقط أثناء الليل من أجل البحث عن الغذاء والتكاثر وغيرهما، فزيادة ساعات الضوء الليلية يغير من الساعة الحيوية الداخلية لهذه الكائنات، فتوقع شرخاً عظيماً في سلوكياتهم وتصرفاتهم، وتتأثر حياتهم ونموهم وتكاثرهم، وحياة هذه الكائنات مرتبطة بخيوط دقيقة كخيوط العنكبوت مباشرة أو غير مباشرة بحياة الإنسان واستدامة معيشته فوق سطح الأرض.

 

وأما الدراسة الثالثة فتتناول قياس ومراقبة التلوث الضوئي سواء من على سطح الأرض، أو باستخدام الأقمار الصناعية، كما تناقش المداخل المختلفة والتحديات التي تواجه الإنسان لإدارة هذه المشكلة. كذلك فإن الدراسة الرابعة تأتي تحت عنوان: "تأثيرات المصابيح الصناعية على الأنواع والأنظمة البيئية"، حيث تفيد الدراسة بأن التأثيرات على الأنظمة البيئية معقدة ومتشابكة وغير معروفة بالدقة الشديدة حتى الآن، وأما المقال الخامس فيقع تحت عنوان: "خفض التعرض للإضاءة الليلية في البيئات الحضرية يفيد صحة الإنسان والمجتمع"، حيث تشير الدراسة إلى أن هذا التلوث الضوئي والأنوار العالية تعرض عين الكائنات الليلية للخطر وتؤثر على حدة أبصارها، كما تحدث خللاً في العمليات الحيوية في أجسامها وفي ساعات النوم والاستيقاظ، أما تأثيراتها على صحة الإنسان فمازالت في مهدها وفي طور البحث والدراسة، وفي تقديري فإن أضرارها ستكون مشهودة ومعلومة خلال العقود الماضية. وأما البحث السادس والأخير فقد نُشر تحت عنوان: "التأثرات المتزايدة للتلوث الضوئي على علم الفلك للمحترفين والهواة"، فعلم الفلك من العلوم التاريخية القديمة، وهناك الكثير من المهتمين بهذا العلم عبر الزمان والمكان والثقافات المختلفة في كل أنحاء العالم، وبخاصة من الهواة الذين يسيحون بحُرية أثناء الليل في السماوات العليا لمشاهدة عجائب الأجرام السماوية والنجوم الساطعة، والآن مع وجود التلوث الضوئي فقد شكل حجاباً ملموساً في وضوح رؤية هذه المخلوقات الإلاهية العجيبة، إضافة على أن مثل هذه الأنوار تؤثر على أبحاث العلماء وتقلل من احتمال اكتشافاتهم الفلكية من الأجسام الجديدة.

 

فالتلوث الضوئي تحول مع الوقت إلى قضية هامة يجب الاهتمام بها ومعالجتها قبل أن تخرج عن سيطرة الإنسان والتحكم في مردوداته، فتداعياته المعلومة حالياً والمنظورة تمس الجانب الصحي للإنسان والكائنات الحية الأخرى النباتية والحيوانية، كما أنها تعرقل أبحاث علماء الفلك والفضاء والهواء على حدٍ سواء.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق