السبت، 30 مارس 2019

وباء السكري في البحرين



معلومات مخيفة وإحصاءات مقلقة للغاية وردت في وثائق مؤتمر البحرين لداء السكري الذي اختتم أعماله في 23 فبراير من العام الجاري، حيث أكدت تقارير المؤتمر بأن هناك زهاء 200 ألف مصاب بالسكري في البحرين، وأن معدل الإصابة حالياً مريض بين كل 6 اشخاص.

وهذا الظاهرة المرضية المتمثلة في ارتفاع أعداد المصابين بداء السكري وانتشاره في البحرين ليست ظاهرة محلية موجودة فقط في بلادنا، وإنما تؤكد الدراسات والتقارير بأنها ظاهرة عالمية تعاني منها معظم دول العالم، وبخاصة شعوب الدول التي تتبع المنهج الغربي في الحياة، وتتبنى السلوكيات الغربية في الأكل والشرب والممارسات اليومية الأخرى.

ففي الولايات المتحدة الأمريكية، على سبيل المثال، تُشير الإحصاءات المنشورة في عام 2015 من مراكز التحكم ومنع المرض في الولايات المتحدة الأمريكية إلى أن هناك 30 مليون أمريكي، أي أكثر من 9% من السكان قد سقطوا في شباك مرض السكري، وأكثر أنواع السكري انتشاراً هو من النوع الثاني والمرتبط بالبدانة وزيادة الوزن المفرطة، كما أشارت إحصاءات المركز بأن داء السكري يُعد السبب السابع في موت الأمريكيين.

وفي بريطانيا، واحد من كل عشرة أشخاص فوق عمر الأربعين يقاسون من السكري، حسب أبحاث جمعية مرض السكري في بريطانيا والمنشورة في 26 فبراير من العام الجاري، كما تفيد الأبحاث بأنه بحلول عام 2030 سيبلغ عدد الذين سيسقطون في فخ مرض السكري قرابة 5.5 مليون بريطاني، وتُقدر الأعداد اليوم بنحو 3.8 مليون بريطاني بزيادة 1.9 مليون منذ عام 1998، ومعظمهم يصابون بالنوع الثاني الذي له علاقة مباشرة بالبدانة والوزن الزائد.

أما على المستوى الدولي فقد أفادت تقارير منظمة الصحة العالمية أن هناك حالياً قرابة 422 مليون مريض بداء السكري، ويقضي هذا المرض المزمن على حياة قرابة 5 ملايين مصاب سنوياً، أي بمعدل مصاب كل 6 ثوان، وهذه الأرقام في ازدياد مطرد كل عام.

والآن القضية التي أريد أن أُركز عليها بعد أن قدَّمتُ لكم هذه الأعداد المهولة من المصابين بالمرض على المستوى بعض دول العالم، والذين يقضون نحبهم بسببه، هي دخول عاملٍ جديد لم يكن في الحسبان، ويتحمل مسؤولية كبيرة في الإصابة بهذا المرض، وهذا العامل هو التلوث بشكلٍ عام، وتلوث الهواء بشكلٍ خاص.

وفي السنوات القليلة الماضية قام الكثير من العلماء بالولوج في هذا المجال البحثي الجديد، وأجمعوا على العلاقة الوطيدة التي تربط بين التعرض للهواء الملوث ومخاطر الإصابة بمرض السكري، فكلما زاد استنشاق الإنسان للسموم التي تنبعث من السيارات ومحطات توليد الكهرباء والمصانع، ارتفعتْ عنده احتمالات التعرض لتهديدات هذا الوباء العام الذي بدأ يسري في شرايين الشعوب كجريان الدم في جسم الإنسان.

ومن أهم هذه الدراسات وأكثرها شمولية ومصداقية تلك الدراسة المنشورة في المجلة الطبية المرموقة "اللانست صحة الكوكب"(Lancet Planetary Health) في الأول من يوليو عام 2018، حيث وجهتْ استنتاجات الدراسة أصابع الاتهام نحو تلوث الهواء الجوي في تعريض الملايين من البشر على مستوى الكرة الأرضية برمتها للإصابة بالسكري. فقد قام الباحثون بمتابعة ومراقبة الحالة الصحية لنحو 1.7 مليون أمريكي غير مصابين بالسكري، ولمدة نحو ثمان سنوات، ثم درسوا العلاقة بين تلوث الهواء في المناطق والمدن التي يسكنون فيها والأمراض التي يصابون بها، وبخاصة مرض السكري، كما قام الباحثون في هذه الدراسة أيضاً بدراسة هذه الظاهرة الصحية البيئية في 194 دولة.

وقد جاءت نتائج الدراسة مؤكدة على دور تلوث الهواء العقيم في انتشار وباء السكري في المجتمعات البشرية، حيث حمَّل الباحثون تلوث الهواء مسؤولية انكشاف أكثر من 3.2 مليون حالة سكري جديدة، أي 14% من مجموع الحالات على مستوى كوكبنا في عام  2016. كما أفادت الدراسة بأن هناك قرابة 15 ألف حالة جديدة من السكري من النوع الثاني تُضاف سنوياً إلى الأعداد الضخمة من المصابين بهذا الداء الخطير في بريطانيا فقط، فعدد مرضي السكري تضاعف مرات عديدة من 700 ألف في التسعينيات من القرن المنصرم إلى 2.8 مليون، أي قرابة 410 حالة يومياً، وفي الولايات المتحدة الأمريكية هناك 150 ألف حالة جديدة سنوياً تظهر نتيجة لتدهور جودة الهواء الجوي في المدن.

وهذه الحقائق الطبية البيئية المتعلقة بمسؤولية تلوث الهواء في الإصابة بمرض السكري من المفروض أن تُلزمنا على أن نأخذ قضية تلوث الهواء خاصة، والتلوث بشكلٍ عام في البر والبحر على محمل الجد والرعاية المستدامة، فالاهتمام فقط بالعوامل والأسباب التقليدية المعروفة للتعرض للأمراض لا تكفي للوقاية منها وتجنبها، وإنما علينا إدخال حماية البيئة كجزء رئيس في برامجنا الطبية الصحية المتعلقة بالمنع من المرض جذرياً والوقاية منه بصفةٍ دائمة.

الاثنين، 25 مارس 2019

مأزق الغرب مع المخلفات المنزلية



قرار صيني يبدو بسيطاً في مظهره وحجمه، ولكنه كبير في معناه وتداعياته، فقد هزَّ العالم أجمع، وخلق نوعاً من الفوضى في الكثير من دول العالم، وبخاصة الدول الغربية، وولَّد لها أزمة خانقة حقيقية لم تكن تتوقعها.

فقد قررت الصين بعد عقود طويلة من الزمن كانت تعمل خلالها وباختيارها ورغبتها كمقبرة جماعية للمخلفات المنزلية التي تستوردها من بعض دول العالم، فتحولت الصين أثناء تلك العقود إلى مرتعٍ خصب زهيد تستقبل فيها مخلفات العالم لإسراع عجلة التنمية الاقتصادية في البلاد وتحقيق النمو الاقتصادي بأسرع وقت وعلى حساب كل شيء آخر، سواء أكان ذلك صحة الإنسان أو سلامة البيئة ومكوناتها وأمنها، ولكنها بعد هذه السنوات الطوال من العمل كمَكبٍ دولي للمخلفات، أدركتْ الخطأ الفاحش الذي ارتكبته، والسياسة الفاشلة التي تبنتها، فقامت لتفادي الاستمرار في هذا الخطأ المدمر في يوليو عام 2017 إلى حظر نقل مخلفات الغرب والدول الأخرى إليها، والتوقف كلياً عن استيرادها.

فهذا القرار المفاجئ أربك جميع حسابات الدول المصدرة للمخلفات إلى الصين وسبب لها معضلة مزمنة، ومشكلات عقيمة في مجال التخلص من المخلفات، وبخاصة المخلفات المنزلية والبلدية من البلاستيك، والورق، والزجاج، والألمنيوم وغيرها من أنواع المخلفات الموجودة في القمامة التي ينتجها الإنسان يومياً، فالصين بهذا القرار أخذت الدول الغربية على حين غرة، فهي غير مستعدة لتحمل تبعاتها وتداعياتها.

فعلى الدول الغربية، وعلى رأسها بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية إيجاد حلٍ سريع وجذري ومستدام لملايين الأطنان من المخلفات المنزلية الصلبة التي كانت تُرسلها إلى الصين، فأصبحت الآن تتراكم يوماً بعد يوم في مدافنها التي تشبعت كلياً بهذه المخلفات، ولا تستطيع تحمل المزيد منها. فعلى سبيل المثال، خلال الثلاثين سنة الماضية، نقلت الولايات المتحدة الأمريكية ودول غربية أخرى أكثر من عشرة ملايين طن متري من البلاستيك فقط، ناهيك عن الزجاج والورق وغيرها، وهذه المخلفات الآن تقبع في أراضي هذه الدول وتحتاج إلى حلٍ سليم وعاجل من الناحيتين البيئية والصحية.

وهذه الورطة الكبيرة التي تعاني منها الكثير من الدول انكشفت على السطح وتناقلتها وسائل الإعلام، ومنها التحقيق المنشور في صحيفة الجارديان البريطانية في 21 فبراير من العام الجاري حيث أفاد بأن بعض المدن الأمريكية بدأت بحرق المخلفات التي رفضت الصين استقبالها، مثل مدينة فيلادلفيا بولاية بنسلفانيا، مما يعني ارتفاع نسبة الملوثات في هواء المدينة الناجمة عن حرق المخلفات وتأثيراتها على تدهور نوعية الهواء من جهة وإفساد صحة الناس وزيادة نسبة الأمراض من جهةٍ أخرى. فهذه المحرقة عليها العمل منذ عام 2017 مع قرار الوقف فوق طاقتها الاستيعابية والتأقلم مع القرار الصيني، فباتت الآن تستقبل 200 طن يومياً من المخلفات، إضافة إلى المخلفات التي كانت تحرقها في السنوات الماضية قبل الحظر الصيني.

كذلك كتبت مجلة اليابان تايمس تقريراً في 21 فبراير من العام الحالي حول الورطة التي دخلت فيها اليابان مع المخلفات البلاستيكية، حيث إنها كانت تنقل إلى الصين كميات كبيرة من مخلفاتها البلاستيكية والآن عليها التعامل معها داخل اليابان، كما نشرت مجلة الوال ستريت تقريراً في 13 مايو 2018 حول تكدس المخلفات التي يتم تدويرها وجمعها في المنازل في بعض المدن الأمريكية في المدافن التي لا تتمكن الآن من استيعاب هذه المخلفات الإضافية التي تصل إليها بعد وقف الصين لاستقبالها.

فمثل هذا القرار الصيني يحتاج منا إلى أن نتوقف أمامه قليلاً لكي نُحلِّله ونستخلص منه العبر والعظات والفوائد التي يمكن أن نتعلم منها في البحرين، كما يلي:
أولاً: َتبنتْ الصين منذ أكثر من ثلاثين عاماً عندما ركبت قطار التنمية الدولي سياسة تنموية أحادية الجانب، فركزت كلياً على البعد الاقتصادي البحت وكيفية تحقيق نموٍ وازدهارٍ اقتصادي سريع وواسع النطاق دون الأخذ في الاعتبار الجوانب الأخرى والأبعاد التي لها علاقة بالنشاط التنموي، ودون إجراء أية دراسة لتأثيرات هذا النمو المتعجل وغير المتبصر على النواحي الاجتماعية، والبيئية، والصحية، ودون التعرف على القضايا الأخرى التي تصاحب وتنجم عن هذا النمو، فكانت قرارتها مبنية فقط على الأرباح التي تجنيها من أي نشاطٍ تنموي. ولذلك ولأول وهلة يبدو قرار استيراد المخلفات من الدول الأخرى وإنشاء مصانع لتدويرها وإعادة استعمالها داخلياً وخارجياً وتشغيل عشرات الآلاف من الصينيين فيها قراراً صائباً وناجحاً، ويضرب أكثر من عصفورين بحجرٍ واحد. ولكن التجربة الميدانية والخبرة التي تراكمت عبر السنين مع قرار تحويل الصين إلى مقبرة للمخلفات أكدتا بأن القرار كان قصير النظر وغير مستدام، فقد أدى إلى زيادة تلوث الصين هواءً، وأنهاراً وبحاراً، وتربة، كما أدى إلى ازدياد الحالات المرضية في البلاد وانكشاف ظاهرة القرى الصينية التي ترتفع فيها نسبة الإصابة بالسرطان، وعلاوة على ذلك كله، فقد تبين أن ما يُطلق عليه بالمخلفات المنزلية التي تصل من الدول الأخرى إلى الصين كانت مخلوطة بمخلفات خطرة وسامة تدمر صحة الناس. فكل هذه السلبيات المهددة للمجتمع الصيني والأمن البيئي والصحي أدت إلى تغيير الصين لسياساتها التنموية، ومن بينها القرار المتعلق بحظر استيراد مخلفات الآخرين.
ثانياً: علينا عدم التهاون في قضية إدارة المخلفات بشكلٍ عام والمخلفات المنزلية الصلبة بشكلٍ خاص فإذا تفاقمت المشكلة فسيكون حلها صعباً ومعقداً، ولذلك لا بد من تغيير سياستنا في التعامل مع المخلفات من سياسة "خُذُوه فغُلوه" إلى سياسة أكثر فاعلية واستدامة، ومنها العمل على إنشاء مصنع حكومي مع القطاع الخاص لتدوير المخلفات أو حرقها والاستفادة من الحرارة الناجمة عنها باستخدام أحدث التقنيات وتبني أشد الأنظمة صرامة للتعامل مع الملوثات التي تنجم عن الحرق.
ثالثاً: نجاح مصانع تدوير المخلفات المنزلية مرتبط بعوامل كثيرة منها تقلبات سوق أسعار المواد والقرار السياسي على المستوى القطري والدولي، ولذلك قرار الصين لم يكن شراً كله، فقد كان خيراً لبعض مصانع التدوير، حيث إنها استقبلت المخلفات التي كانت من المفروض أن تذهب إلى الصين، وبناءً عليه فإنني أرى ضرورة تدخل الدول لدعم مصانع التدوير لضمان استقرارها وتشغيلها وتجنب حدوث أزمة في التخلص من المخلفات.