الثلاثاء، 19 مارس 2019

سفينة نُوح وعلاقتها بواقعنا اليوم



ليست مصادفة عرضية أن يحمل نوحاً معه على ظهر السفينة من كل صنفٍ من الأحياء والحيوانات ذات الأرواح زوجين ذكراً وأنثى قبل أن تغرق هذه الكائنات الحية في الطوفان، فقد قام بذلك طاعة لأوامر الخالق العليم القدير الذي لم يعلم الإنسان لقرون طويلة الحكمة والهدف من وراء الحفاظ على الأحياء جميعها بمختلف أشكالها وأحجامها وأنواعها.

ومع مرور الزمن ومع الاكتشافات العلمية والدراسات الميدانية أيقن الإنسان مصداقية هذه الآية وأهمية ما قام به نوح عليه السلام في ذلك الوقت في الحفاظ على التنوع في الأنواع الحية كلها لاستدامة حياة الإنسان على وجه الأرض حتى يومنا هذا، فقد أثبت الإنسان الآن بأن لكل كائنٍ حي صغير كان أم كبير حتى لو كان لا يرى بالعين المجردة، وأينما يعيش في البراري والصحاري الحارة والباردة، أم في أعماق البحار السحيقة، أم في الغابات الكثيفة، فإن لكل منها خصوصيته وأهميته ودوره في الحياة التي نعيشها والمسؤولية التي يقوم به ضمن النظام البيئي، وعلاقة ذلك كله في نهاية المطاف بشكلٍ مباشر أو غير مباشر باستقامة حياة البشر، إذ لا حياة بدونه.

ولكن أنشطة الإنسان وأياديه الآثمة تعدت على بيئتنا وبلغت كل شبرٍ من الأرض في أعالي السماء، وفي الأدغال المظلمة، وفي أعماق المحيطات السحيقة الباردة، وفي البيئات الثلجية النائية، فلوثت كل بقعة قريبة أو بعيدة من الأرض وأصابت كائناتها بأمراض وأسقام أثرت على تكاثرها ونموها، وقضت على ملايين الكيلومترات من بيئات الأرض في البر والبحر والتي تعيش عليها هذه الكائنات الحية النباتية والحيوانية، فدمرتها وأزالتها من على وجه الأرض، حتى بدأنا نسمع عن انقراض أنواع كثيرة من الطيور والنباتات والحيوانات من على سطح كوكبنا، ولا يعلم أحد كم خسر الإنسان من فقدان هذه الكائنات بيئياً واقتصادياً وصحياً وتأثير كل ذلك على تحقيق الأمم للتنمية المستدامة على المستوى المحلي.

ومن أهم هذه الخسائر التي تكبدها الإنسان من جراء أعماله غير الرشيدة وأنشطته التنموية الظالمة والمتعدية على حرمات البيئة وحياتها الفطرية هي فقدان مصادر الغذاء للبشرية جمعاء وتدهور أهم الموارد الطبيعية التي يعتمد عليها الملايين من البشر في كل أنحاء العالم لقوت يومهم. وقد تنبهت منظمات الأمم المتحدة إلى هذه الحقيقة المرَّة والواقع العصيب، فقامت منظمة الأمم المتحدة للغذاء والزارعة(الفاو) بإجراء دراسة شاملة ومعمقة غطت 91  دولة، ونَشرتْ استنتاجاتها على شكل تقرير أممي مُعتمد في 22 فبراير من العام الجاري تحت عنوان "حالة العالم بالنسبة للتنوع الحيوي للغذاء والزراعة". فقد قامت هذه الدراسة بتقصي الحقائق حول درجة التنوع الحيوي، أو بعبارة أخرى أعداد الحيوانات والنباتات والكائنات المجهرية الموجودة في هذه الدول وما هي درجة الانخفاض في أعداد ونوعية هذه الكائنات الحية، وعلاقة هذه الخسارة في التنوع الحيوي بغذاء الإنسان. وقد أفادت الدراسة أن أعداد الكائنات الفطرية الحيوانية قد انخفضت على المستوى الدولي بنسبة 50%، وأن هناك حالياً أكثر من 26500 كائن حي مهدد بالانقراض، كما خلصت الدراسة إلى أن هذا التدني الملحوظ في الكائنات الحية عددياً ونوعياً سيكون له تأثير سلبي مشهود على الأمن الغذائي وتوفير القوت اليومي اللازم للمليارات من البشر، إضافة إلى مردوداته الخطرة المتمثلة في إضعاف قدرة الدول على تحقيق التنمية المستدامة.

ونحن في البحرين لا نختلف عن دول العالم في مجال تدهور الحياة الفطرية النباتية والحيوانية، في البر والبحر وانخفاض درجة التنوع الحيوي من الناحيتين الكمية والنوعية. فأما في البيئات البرية، فقد قضينا على أهم بيئة، أو نظام بيئي كُنا ننفرد بها على المستوى الدولي، وكانت تُعد من أكثر البيئات إنتاجاً وعطاءً وأشدها تنوعاً وثراءً، كما كانت تعتبر جزءاً من التراث الطبيعي التقليدي على المستوى القومي والدولي، وهذه هي بيئة "غابات النخيل" الكثيفة التي كانت تزدهر بها البحرين في الكثير من المناطق الساحلية الشمالية في شرق وغرب البلاد. فهذه كانت في حد ذاتها "نظاماً بيئياً" متكاملاً فريداً من الناحية ثراء ووفرة الموارد المائية العذب الفرات الغدقا المتمثلة في المياه الجوفية والعيون الطبيعية، ومن ناحية غابات النخيل الباسقة المثمرة والمحاصيل الزراعية المأكولة التي كانت تزرع تحتها، كذلك من ناحية الحياة الفطرية الحيوانية مثل ضفادع وسلاحف المياه العذبة، إضافة إلى ازدهارها بشتى أنواع وأشكال الطيور المقيمة مثل البلابل الغناء المغردة والطيور المهاجرة.

فهذه البساتين الغناء، وهذا النظام البيئي الفذ المتنوع قد انقرض الآن من على وجه البحرين كلياً، والأجيال الحالية والقادمة سيفتقدون جمال وغنى هذا النظام، وسيتعرفون عليه فقط في كتب التاريخ البيئي الطبيعي، فكم خسرنا اجتماعياً وبيئياً واقتصادياً وتراثياً من انقراض مثل هذا النظام البيئي المتكامل؟

وفي المقابل هناك البيئة البحرية التي هي سلة الغذاء الفطرية الطبيعية المتجددة للبلاد، وهي المصدر الذاتي الوحيد للبروتين للمواطنين، وهي صمام الأمان للأمن الغذائي للبحرين، ولكن هذه البيئة وكأنها لا قيمة لها كلياً، فقد قُمنا وبمحض إرادتنا وبأيدينا بتدميرها تدريجياً وبشكلٍ منهج منذ أكثر من 70 عاماً. فهذه البيئة البحرية المعطاة عانت منذ ذلك الوقت من عمليات الحفر ودفن السواحل المستمرة حتى يومنا هذا، وقاست من الصيد الجائر باستخدام وسائل الصيد المشروعة وغير المشروعة، والمصانع ومحطات مياه المجاري ومياه الصرف الزراعي كلها ألقت مخلفاتها السائلة الخطرة وغير الخطرة في جسم هذا البحر دون رعاية لحرماتها وصحتها، فلم يبق الآن من البحر إلا اسمه!

فلا شك بأن خسائرنا من التنوع الحيوي سواء في البر أو البحر كان له تأثير سلبي خطير على الأمن الغذائي المستدام في البحرين، حتى إننا نعيش في جزيرة ولكننا في بعض الأحيان نستورد الأسماك والروبيان من الخارج؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق