الخميس، 14 مارس 2019

ماذا نَسي ترمب في زيارته لفيتنام؟



عندما ذهب ترمب إلى فيتنام في 28 فبراير من العام الجاري للقاء القمة مع كيم جونج أُون زعيم كوريا الشمالية، كانت هناك محادثات ثنائية مع قادة فيتنام على هامش هذه القمة، وتمحورت حول الجوانب الأمنية وحماية فيتنام من النفوذ الصيني، إضافة إلى النواحي الاقتصادية والتجارية، ومدح فيها ترمب الازدهار الاقتصادي في فيتنام وتطورها السريع نحو التقدم والرقي، ولكن في الوقت نفسه، بالرغم منها أنه زار فيتنام أيضاً في نوفمبر 2017 إلا أنه لم يتحدث عن كارثة حرب فيتنام في الستينيات من القرن المنصرم، وبالتحديد في الفترة من 1965 إلى 1972، ولم يُشر إلى الآلام والمعاناة العصيبة التي خلفتها الحرب للمجتمع الفيتنامي برمته وللشعب عامة جسدياً ونفسياً وعقلياً، إضافة إلى التدمير البيئي الشامل الذي ارتكبتها أيدي الولايات المتحدة الأمريكية لبيئة فيتنام وحياتها الفطرية النباتية والحيوانية، والتي انعكست مباشرة على الأمن الصحي للشعب الفيتنامي.

فتداعيات هذه الحرب الضروس التي وقعت قبل نحو خمسين عاماً مازالت واقعاً مُراً وكئيباً، وتنتقل آثارها الحزينة من جيلٍ إلى آخر، وستبقى خالدة مخلدة في الذاكرة وفي الواقع اليومي مهما طال الزمن، فهذه الآلام وهذا الجرح العميق لم يندمل بعد ومازال ينزف ليس للشعب الفيتنامي فحسب وإنما على الشعب الأمريكي على حدٍ سواء، وبخاصة الجنود الذين شاركوا في الحرب سواء في العمليات القتالية أو غير القتالية.

ومن هذه التداعيات التي ربما يجهلها ترمب ولا يعرف عنها الكثير من الناس هي إنزال الطيران الأمريكي الحربي لأكثر من عشرين مليون جالون من مبيدات الأعشاب الخطرة، أو ما أُطلق عليها بالعميل البرتقالي أو الوردي أو الأخضر أو الأزرق والأبيض، فالطيران الحربي أمطر الشعب الفيتنامي بهذه السموم المدمرة للحرث والنسل والأخضر واليابس، فقضتْ على البشر والحجر وأهلكت مساحات واسعة من الغابات والأدغال وأحرقت المحاصيل الزراعية التي يعيش عليها الشعب الفيتنامي، وقد قُدرتْ المساحة التي تم فيها رش هذه السموم من الجو والبر والنهر بأكثر من 25 ألف كيلومتر مربع من الأدغال والأراضي الزراعية المثمرة، أي أكبر من مساحة البحرين بنحو ثلاثين مرة.

فهذه المبيدات التي أُنتجتْ خصيصاً كسلاح دمار شامل للأدغال التي يختبئ فيها المقاتلون ولمزارع الرز والمحاصيل الزراعية الأخرى، كانت تحتوي أيضاً على مركبات شديدة السمية ومسرطنة هي الديكسين التي هي أشد بئساً وتنكيلاً بصحة البشر، فهذا الملوث القاتل كما هو فَتكَ بالمجتمع الفيتنامي بشراً ونباتاً وحيواناً، فتك في الوقت نفسه بكل جندي استعمل هذا المبيد، أو تعرض له بطريقة أو بأخرى، فهذا السلاح القاتل رجع بشكلٍ مباشر أو غير مباشر وبعد فترة قصيرةٍ أو طويلة من الزمن ليقتل الجنود الأمريكيين أنفسهم، ويسبب لهم عاهات وأمراض مستعصية تنكشف في كل يوم حتى كتابة هذه السطور، وعلى رأس هذه الأسقام المزمنة مرض السرطان.

ووسائل الإعلام الأمريكية والباحثون والعلماء مازالوا يتعرضون لتداعيات هذه الحرب البيئية الصحية، فأخبارها حاضرة كل يوم في الصحف والمجلات العلمية، ودعوني أُقدم لكم بعض الأمثلة لأبين لكم بأن تداعيات حرب فيتنام لم تنته، ولن تنتهي على المدى المنظور والقريب.

فقد نَشرتْ صحيفة واشنطن إكزَامِينَر(Washington Examiner) في 29 ديسمبر 2018 تحقيقاً حول قيام رئيس جمعية البحارة المحاربين القدماء(Blue Water Navy Veterans Association) في خوض معركة جديدة في الحرب ضمن العميل البرتقالي لتعويض الضحايا الذين يتألمون يومياً من التعرض للعميل البرتقالي من الذين كانوا يعملون كبحارة عسكريين على متن السفن البحرية الأمريكية العسكرية التي كانت تراقب السواحل الفيتنامية لتوفير الدعم والمساندة للذين هم على البر، ومُجمل هذه التعويضات منذ انتهاء الحرب حتى الآن قد تصل إلى خمسة بلايين دولار، علماً بأن الكونجرس خصص صندوقاً خاصاً لتعويض المرضى والمتضررين وأُطلق عليه(Agent Orange Settlement Fund).

كما أجرى باحثون من عدة جامعات أمريكية دراسة ميدانية تحت عنوان: "المصير طويل الأمد للعميل البرتقالي والديكسين في التربة وفي قاع الأنهار والبحيرات في فيتنام"، والتي نُشرت في فبراير من العام الجاري في دورية "المجلة المفتوحة لعلوم التربة". فقد أكدت هذه الدراسة الشاملة التي غطت عدة مواقع في فيتنام وأخذت عينات من الكثير من الأوساط البيئية المختلفة، على أن العميل البرتقالي مازال قوياً ومؤثراً ينبض بالحياة في البيئة الفيتنامية، فهو لم يمت ولم تنهار قواه بالرغم من مرور أكثر من خمسين عاماً على استخدامه، فالديكسين الموجود في العميل البرتقالي لا يتحلل سريعاً ولا يختفي من الأنظار، فهو له القدرة على البقاء والاستقرار، كما له القدرة في الوقت نفسه على التراكم والتضخم في دهون الكائنات الحية عبر السلسلة الغذائية التي تنتهي في نهاية المطاف بالبشر، حتى أن حليب الأم الفيتنامية تسمم بهذا العميل، مما يعني انتقال هذا السم عبر الجيل الواحد، ومن ثم عبر الأجيال المتلاحقة ومن جيلٍ إلى آخر، وتأثيراته المستدامة ستكون حاضرة ومشهودة إلى أن يشاء الله على شريحة كبيرة من الشعب والبيئة الفيتنامية والأمريكية على حدٍ سواء.

ولذلك فإن على كل رئيس أمريكي يزور فيتنام في المستقبل أن يتذكر التداعيات البيئية والصحية لحرب فيتنام، فهي ستلاحق المجتمع الأمريكي أبد الدهر، وستظل كابوساً مرعباً لن يتخلصوا منه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق