الخميس، 27 يونيو 2019

شِراء الذِمَّم (الجزء الثاني)


منذ سنوات وأنا أحاول أن أُثبت نظريتي بأن الكذب والغش والتضليل "ثقافة" عامة متأصلة في جذور الشركات العملاقة متعددة الجنسيات، وأن تَبَني هذه الوسائل والأساليب غير الأخلاقية "ظاهرة عامة" نشاهدها في معظم هذه الشركات، إن لم يكن كلها، فهي ليست حالات فردية ومنعزلة نسمع عنها بين الحين والآخر عن شركة هنا أو هناك.

فالهدف النهائي من وراء تبني هذا النهج غير المسؤول للشركات العظمى هو إرضاء المساهمين وتحقيق أعلى سقف ممكن من الأرباح وجني المال على حساب كل شيء، مهما كان، ولو كان ذلك الشيء صحة الإنسان وأمنه البيئي.

وكُلما توفرت الأدلة والوثائق والتقارير الموثقة، أُقدم أمثلة لمثل هذه الشركات، وأُبين الوسيلة غير الشرعية التي استخدموها لتحقيق مآربهم السرية وأهدافهم الخبيثة، وكان المثال الأخير في الأول من يونيو من العام الجاري في المقال المنشور في أخبار الخليج حول قيام شركة كوكا كولا بشراء ذمم بعض العلماء والباحثين وتقديم المال السُحت لبعض معاهد ومراكز البحث العلمي لتتوافق أبحاثهم ودراساتهم مع سياسات الشركة وبرنامجها التسويقي للمنتجات.

واليوم أنا معكم في موعد جديد مع شركة عملاقة أخرى هي شركة مونسانتو الأمريكية التي انتقلت ملكيتها في يونيو عام 2018 إلى شركة باير الألمانية(Bayer) المعروفة. فهذه الشركة أَنتجتْ منذ عشرات السنين مبيداً خاصاً يقضي على الأعشاب الضارة في المزارع والحدائق والمنازل، وأُطلق عليه إسم تجاري هو رَاونْد أب(Roundup)، حتى أصبح هذا المنتج الآن الأكثر شيوعاً واستخداماً في كل أنحاء العالم. فهناك دراسة أجرتها شبكة الغذاء والبيئة(Food & Environment Reporting Network) الأمريكية ونَشرتها في 21 مارس من العام الحالي وأكدت فيها الإفراط الشديد في استخدام هذا المبيد ودرجة انتشاره وتغلغله ليس في أعماق مكونات البيئة الأمريكية فحسب، وإنما في أجسام المواطنين الأمريكيين، بحث إن أكثر من 90% من الأمريكيين أجسامهم تحتوي على هذا المبيد الأعجوبة السحري.

فمع الزمن، واستمرار تعرض الناس لسنوات عجاف عصيبة لهذا المبيد، تبين أن المادة الفاعلة والنشطة الموجودة فيه وهي الجلاي فوسات(glyphosate) قد تكون مسرطنة للإنسان، حيث صنَّفت الوكالة الدولية لأبحاث السرطان في عام 2015، وهي الذراع العلمي المتعلق بأبحاث السرطان في منظمة الصحة العالمية بأن هذه المادة "من المحتمل أن تكون مسرطنة للإنسان".

وهنا جنَّ جُنون هذه الشركة، حيث إنها تربح المليارات من وراء تسويق هذا المبيد وبيعه إلى كل مزرعة صغيرة أو كبيرة، وكل حديقة منزلية أو غير منزلية، وكل متنزه في كل أنحاء للعالم، فكيف يمكن لهذا المبيد الذي أغدق عليهم بالمال الوفير والربح العظيم أن يكون من أسباب إصابة الإنسان بالسرطان. ومما زاد الطين بِلَّه الدعاوى القضايا التي وصلت إلى عشرات الآلاف في المحاكم الأمريكية نتيجة للسرطان الذي أصاب الكثيرين، ولذلك بدأتْ الشركة بسرعةٍ فائقة بتحريك جنودها على الفور من كل التخصصات الإعلامية والبحثية والأكاديمية، وجعلتهم يشمرون عن أيديهم للدفاع المستميت عن هذا المبيد، فهي لن تُفرِّط في هذا المبيد بسهولة، ولن ترفع العلم الأبيض بهذه السرعة، وستحارب جميع المعارك التي ستواجهها على كل الجبهات حتى آخر قطرة دمٍ في عروقها.

فهناك حتى كتابة هذه السطور ثلاثة دعاوى قضائية خسرتها الشركة منها أولاً الحكم الذي صدر من محكمة في سان فرانسيسكو في أغسطس 2018 لصالح رجلٍ أصيب بالسرطان عندما كان يعمل في حديقة مدرسة، حيث بلغت الغرامة 78 مليون، وأخيراً وليس آخراً حكمت المحكمة في مدينة أوكلاند بولاية كاليفورنيا في 13 مايو من العام الجاري بتغريم مونسانتو 2 بليون دولار لرجل وزوجته أصابهما السرطان نتيجة لاستخدامهما لهذا المبيد.

فهذه الحالة العقيمة التي تمر بها الشركة والخسائر الفادحة التي تكبدتها حتى الآن، جعلتها منذ أكثر من عشر سنوات تمارس أسلوب الكذب والتضليل عن طريق جنودها المرتزقة، وأثناء هذه المحاكم الثلاث انكشفت الكثير من أسرار هذه الشركة، وظهرت الأساليب الملتوية التي تستخدمها من خلال شراء الذمم الرخيصة القابلة للبيع، والأقلام المأجورة من صحفيين وكتاب وعلماء.

وقد نقلت بعض الصحف الأمريكية والأوروبية هذه الخفايا والأسرار والفضائح التي انكشفت مؤخراً أثناء المحاكمات السابقة. فهناك التحقيق الذي نشرته صحيفة الجارديان البريطانية في الثاني من يونيو من العام الجاري عنوانه: "كيف تقوم مونسانتو باستغلال الصحفيين والأكاديميين"، حيث أفاد التحقيق بأن وثائق البريد الإلكتروني الداخلي للشركة بين منتسبيها تُشير إلى دورها في إخفاء المعلومات المتعلقة بالعلاقة المحتملة بين المبيد والسرطان، كما فضحت هذه الرسائل الجهود المضنية التي تبذلها الشركة في تضليل الرأي العام من جهة، وتشويه سمعة الأبحاث العلمية التي تتعارض مع سياسة الشركة في أن المبيد آمن وسليم من جهةٍ أخرى، إضافة إلى محاربة الشرفاء من رجال الإعلام والعلم والطعن في مصداقيتهم وكتاباتهم وتقاريرهم. كذلك كشفت هذه الرسائل أسماء بعض الصحفيين والمذيعين "المستقلين" الذين كانوا يعملون سراً لصالح الشركة ومن أجل تنفيذ سياساتها التسويقية. وعلاوة على ذلك كله فقد أظهرت الرسائل الإلكترونية الداخلية المتبادلة بين التنفيذين بالشركة إلى وجود حوارٍ ونقاشٍ داخل أروقة الشركة حول سلامة هذا المبيد بالنسبة للإنسان، حيث كتب أحد التنفيذين في عام 2003 في خطابه الإلكتروني الداخلي قائلاً: "لا تستطيع القول بأن المبيد غير مسرطن لأننا لم نجر التجارب الضرورية على المبيد لإبداء هذا الرأي".

وليس هذا هو التحقيق الوحيد الذي يفضح ممارسات هذه الشركة، فهناك تحقيقان آخران. التحقيق الأول نشرته مجلة الشبيجل الألمانية في 24 أكتوبر من العام الجاري حول دور شركة مونسانتو في إخفاء المعلومات حول سميه المبيد، كما أشارت الوثائق التي تم كشفها بأن الشركة تلاعبت في نتائج الدراسات الخاصة بتأثير هذا المبيد على الإنسان، إضافة إلى أنها لم تقم بالتجارب الكافية لمعرفة هذا المبيد وانعكاسات استعماله على المجتمع البشري، وبالتحديد احتمال الإصابة بالسرطان.

وأما التحقيق الثاني فقد نشرته صحيفة النيويورك تايمس في الأول من أغسطس 2017 تحت عنوان: "البريد الإلكتروني لشركة مونسانتو يُثير قضية تأثير الشركة على الأبحاث المتعلقة بمبيد الأعشاب". وهنا أيضاً تأكيدات على الأساليب الملتوية واللاأخلاقية التي اتبعتها الشركة لتضليل الرأي العام في الولايات المتحدة الأمريكية خاصة ودول العالم عامة، وذلك من خلال إخفاء المعلومات عن تأثيرات المبيد على الصحة العامة، إضافة إلى تقديم أمثلة على تكليف بعض الإعلاميين لكتابة مقالات تدافع عن سلامة هذا المبيد وتحاول إثارة الشكوك والريبة حول الدراسات التي تشير إلى أن هذا المبيد يسبب نوعاً خاصاً من السرطان يتعدى على الجهاز المناعي للإنسان ويُطلق عليه (non-Hodgkin’s lymphoma).

وختاماً فإنني أعدكم على متابعة ومراقبة ممارسات هذه الشركات العملاقة في كل دول العالم، وأُقدم لكم المزيد من الأمثلة والحالات الجديدة التي تُثبت أن نظريتي صحيحة، وأستطيع من الآن أن أُطلقَ عليها بأنها "حقيقة" و "ظاهرة عالمية".


الأربعاء، 26 يونيو 2019

هل أَفَل نجم الفحم والنفط؟


الجواب عن هذا السؤال الذي أَطرحه أمامكم حول مصير الوقود الأحفوري متمثلاً في الفحم والنفط يعتمد بدرجةٍ كبيرةٍ على سياسة ورؤية وخطة الرجل الذي يحكم البيت الأبيض، فالولايات المتحدة الأمريكية أكبر دولة في العالم وسياساتها مهما كانت تنعكس بشكلٍ مباشر أو غير مباشر على سياسات باقي دول العالم بدون استثناء، وأي قرار يتخذه الرئيس الأمريكي فإن صداه ينعكس على الجميع فيشجع الدول الأخرى على أن تحذو حذوها فتتخذ قرارات مماثلة.

فعندما كان أوباما والياً على الولايات المتحدة الأمريكية، بدأ رويداً رويداً وتدريجياً خلال الثماني سنوات من حكمه في المضي قدماً بخطى ثابتة وبطيئة والزحف برفق أولاً نحو مصادر الطاقة الأقل تلويثاً للبيئة من الفحم والنفط مثل الغاز الطبيعي، ثم التحول نحو مصادر الطاقة البديلة النظيفة والمتجددة مثل الطاقة الشمسية، والرياح، وطاقة المياه، والوقود الحيوي وغيرها من المصادر المنخفضة الانبعاث للملوثات، أو التي لا تنبعث منها كلياً أية ملوثات تضر بصحة الإنسان وبيئته وتعمق وتفاقم من قضية العصر وهي التغير المناخي وارتفاع درجة حرارة الأرض.

ومن أجل تحقيق هذا الهدف وضع أولاً خطة متكاملة وشاملة في عام 2015 أَطلق عليها "خطة الطاقة النظيفة" وركزت على ثلاثة محاور رئيسة، الأول رفع فاعلية وكفاءة استخدام الوقود بشكلٍ عام، سواء في محطات توليد الكهرباء، أو المصانع، أو وسائل النقل والمواصلات، والثاني هو الخفض التدريجي مع الزمن لاستخدام الوقود الأحفوري في توليد الكهرباء، وبخاصة الفحم والبترول، والتوجه كبديل عنه إلى أنواع ومصادر الطاقة النظيفة والمتجددة.

فهذه الخطة تعني التخلص مع الوقت نهائياً من الوقود الأحفوري، وبخاصة الفحم والنفط، مما يعني انتهاء عصرهما وبدون رجعة، ولكن هذا الاستنتاج اختلف الآن وتغير بشكلٍ كبيرٍ مشهود بعد دخول ترمب إلى البيت الأبيض، وبالتحديد بعد 28 مارس 2017 عندما وقَّع على الأمر التنفيذي تحت عنوان: "استقلال الطاقة"(Energy Independence)، وصرح قُبيل التوقيع قائلاً: "إدارتي ستَضع نهايةً للحرب على الفحم الجميل والنظيف". وبهذا الأمر التنفيذي، ألغى ترمب برنامج أوباما للطاقة النظيفة، وأعلن عن سياسة جديدة لأمن الطاقة في الولايات المتحدة الأمريكية، فأعاد الروح مرة ثانية للفحم، وخلَّصه من دخول القبر الذي أعدَّه أوباما للفحم والبترول معاً، ورسم لهما مستقبلاً زاهراً من جديد.

ومن أجل إنعاش حياة الفحم مرة ثانية، وضع ضرائب على استيراد خلايا الطاقة الشمسية، أي رَفَعَ التعريفة الجمركية الخاصة بالطاقة الشمسية، إضافة إلى أنه فك الحزام الشديد الذي فرضه أوباما على مصانع الفحم عن طريق إلغاء القيود البيئية وتسهيل الأنظمة والمعايير المتعلقة بخفض انبعاث الملوثات، كما قام بدعم محطات توليد الكهرباء التي تعمل بالفحم.

فالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية فإن مصير الفحم سيكون مشرقاً بعض الوقت إلى أن ننتهي من انتخابات الرئاسة القادمة، وأما الدول الأخرى فمستقبل الفحم يعتمد على مدى توافره محلياً في هذه الدولة وتوافر الأنواع الأخرى من الوقود. وحسب ما نُشر في صحيفة "الوال ستريت جورنال" في الثامن من أكتوبر 2018 فإن الفحم يبدوا عصياً على أن يأفل نجمه بهذه السهولة، فقد بدأ في البزوغ مرة ثانية على مستوى دول العالم، حيث تقوم الكثير من الدول، وبالتحديد في آسيا وأفريقيا ببناء محطات جديدة لتوليد الكهرباء تعمل بالفحم أو أنواع الوقود الأحفوري الأخرى، ولذلك زاد الطلب على الفحم بنسبة تقريباً 3% في هذه الدول.

وحسب ما نُشر في صحيفة "الوال ستريت جورنال" في الثامن من أكتوبر 2018 فإن الفحم يبدوا عصياً على أن يأفل نجمه فقد بدأ في البزوغ مرة ثانية على مستوى دول العالم، حيث تقوم الكثير من الدول، وبالتحديد في آسيا وأفريقيا ببناء محطات جديدة لتوليد الكهرباء تعمل بالفحم أو أنواع الوقود الأحفوري الأخرى، ولذلك زاد الطلب على الفحم بنسبة تقريباً 3%.


وفي اليابان، وحسب ما نُشر في البلومبرج في 24 أبريل من العام الجاري فإنها بعد كارثة فوكوشيما النووية في مارس 2010 فإنها ستتبنى سياسة التوازن والتنوع بين مصادر الطاقة، وعدم الاعتماد كلياً على مصدر واحد فقط، وستعمل على استخدام خليط من مصادر الطاقة، ومن بينها الفحم، والغاز الطبيعي المسال، أي أن الفحم سيظل أحد المصادر للوقود لضمان استمرارية توليد الكهرباء لليابان وعدم انقطاعه، وستعمل على بناء مصانع جديدة تشتغل بالفحم. وأما في الصين فيكفي أن نعلم بأنها توظف أكثر من 4.3 مليون صيني في مناجم الفحم، ناهيك عن الذين يعملون في محطات توليد الكهرباء والمصانع التي تعمل بالفحم، والذي فإن الفحم سيظل باقياً في المجتمع الصيني لسنواتٍ طويلة قادمة.

وفي بولندا، بلد الفحم، والبلدة التي استضافت اجتماع الأمم المتحدة للتغير المناخي في ديسمبر 2018 والتي من المفروض أن تكون قدوة للدول الأخرى في التخلص من الفحم والنفط، فإن هناك أكثر من مائة ألف بولندي يعملون في قطاع الفحم، ونحو 80% من الطاقة الكهربائية تُولد باستخدام الفحم، حيث وصف رئيس الوزراء البولندي الفحم بأنه "ذهبنا الأسود".

كذلك فإن ألمانيا بالرغم من تزعمها لقضية التغير المناخي إلا أنها مازالت تحرق الفحم لتزويد ألمانيا بالطاقة،  فنحو 40% من الطاقة تأتي من الفحم، وربما يعزى السبب في ذلك إلى أن ألمانيا اتخذت قراراً في عام 2011 بطي صفحة الطاقة النووية بحلول عام 2022 ولذلك لا بد من إيجاد البديل لسد الفراغ الذي ستحدثه الطاقة النووية بمصادر أخرى، ومن بين هذه المصادر الفحم.

والهند البلد الصاعد اقتصادياً فإن قرابة نصف مليون هندي يعملون في قطاع الفحم وهي تنوي زيادة سقفها من إنتاج الفحم من 560 مليون طن في عام 2017 إلى أكثر من بليون طن بحلول عام 2020، مما يؤكد بأن الفحم سيكون مسيطراً ومهيمناً على قطاع الطاقة في الهند لعقود طويلة قادمة.

ولذلك في تقديري فإن الفحم والنفط والغاز الطبيعي والأنواع الأخرى من الوقود الأحفوري ستبقى معنا لسنواتٍ طويلة قادمة، وستبقى الرقم الصعب في سوق قطاع الطاقة وتشغيل المصانع في كل دول العالم حتى آخر قطرة منها.