الأربعاء، 5 يونيو 2019

المضادات الحيوية تُهدد صحتنا!



في كل يوم أقرأُ عن دراسة ميدانية جديدة أو بحثٍ علمي فريد من نوعه يُثير لدَّي الكثير من التساؤلات المحيرة، ويشعرني بالقلق العميق حول مصير البشرية والكرة الأرضية برمتها بسبب الأنواع الكثيرة من الملوثات التي نطلقها في بيئتنا من مصادرها التي لا تُعد ولا تحصى، إضافة إلى المواد الكيميائية والأدوية التي نصرفها ونتخلص منها بشكلٍ عشوائي غير مدروس.

فآخر ما اطلعتُ عليه من أبحاث هو توغل الأدوية في مكونات بيئتنا الحية وغير الحية، وبخاصة المضادات الحيوية بكل أنواعها، سواء التي تُعطى للحيوانات أو للبشر، وهذه الدراسة ليست جديدة في ظاهرة وجود المضادات في البيئة والعناصر البيئية المختلفة، وبالتحديد في المسطحات المائية، ولكن المخيف والمقلق في هذه الدراسة والذي يُعد إضافة حديثة إلى المعلومات العلمية، هو انتشار المضادات وبتراكيز مرتفعة في معظم المسطحات المائية في العالم، وبالتحديد في الأنهار، وليست في دولة واحدة فقط وإنما في معظم دول العالم، فهذه الدراسة الفريدة والأولى من نوعها وحجمها تؤكد تغلغل وتعمق المضادات التي نستعملها يومياً لحمايتنا من العدوى المرضية في البيئة المائية على المستوى الدولي، فهي إذن تؤكد بأن وجود المبيدات في الأنهار ليس حالة فردية منعزلة، إذ لم يسلم نهر في العالم إلا وتلوث بنوعٍ أو أكثر من هذه العقاقير.

فهذه الدراسة أُجريت على المستوى الدولي وشملت الكثير من الأنهار المشهورة في 72 دولة في ست قارات من العالم، وهي على سبيل المثال نهر الدانوب في النمسا، ونهر جاو فرايا (Chao Phraya) في تايلند، ونهر مكونج (Mekong) في الصين، ونهر السين في فرنسا(Seine)، ونهر تايبر في إيطاليا(Tiber)، ونهر التيمس في بريطانيا، ونهر الغانج المقدس في الهند(Ganga)، ونهر دجلة في تركيا، إضافة إلى أنهارٍ أخرى في بنجلادش، وكينيا، وباكستان، ونيجيريا، وغانا. وقد قامت هذه الدراسة الميدانية بتحليل 711 عينة من ماء هذه الأنهار وتم تحليلها لوجود 14 نوعاً من مختلف أنواع المضادات الحيوية الشائعة الاستعمال لعلاج حالات العدوى والالتهابات.

هذه الدراسة التي أُلقيتْ في المؤتمر السنوي لجمعية علم السموم وكيمياء البيئة(Environmental Toxicology and Chemistry) في هلسنكي في الفترة من 27 إلى 28 مايو من العام الجاري، خَلصتْ إلى استنتاجٍ عامٍ واحد خطير جداً وهو أن وجود المضادات الحيوية في المسطحات المائية وفي التربة ظاهرة عالمية، وليست حالات بسيطة مقتصرة على بعض الأنهار في العالم، حيث أفادت بعد تحليل العينات من ماء النهر بأن 65% منها ملوث بالمضادات الحيوية، وبنسبٍ مرتفعة جداً أعلى من الحد الآمن. فالمضاد الحيوي (Metronidazole) الذي يستخدم لمعالجة الالتهابات البكتيرية للجلد والفم بلغ أقصى تركيز له في بنجلادش وبنسبة 300 ضعف عن المستويات الآمنة، أي 40 ألف نانو جرام من المضاد في اللتر الواحد من ماء النهر، وفي نهر التيمس في بريطانيا وصل التركيز إلى 233 نانوجراماً من المضاد في اللتر من ماء النهر. كما كان المضاد الأكثر شيوعاً وانتشاراً هو (trimethoprim) المستعمل لالتهابات المسالك البولية، حيث تم اكتشافه في 307 عينات. كذلك المبيد الأعلى في التركيز في معظم العينات كان (Ciproflaxacin) ووجد في 51 عينة معظمها في آسيا وأفريقيا، مثل بنجلادش وكينيا وغانا وباكستان ونيجيريا.

هذه الظاهرة اضطرت الأمم المتحدة في أبريل من العام الجاري إلى إعلان حالة الطوارئ الصحية على المستوى الدولي، إذ أفادت بأن تفشي وتفاقم هذه الظاهرة يُهدد الصحة العامة للخطر في كل دول العالم، حيث إنها قدَّرت بأن عدد الضحايا الذين سيقطون صرعى من هذه الحالة العصيبة سيكون نحو عشرة ملايين إنسان بحلول عام 2050.

فمن أين يأتي هذا التهديد الصحي العام للبشرية من وجود المضادات في مكونات بيئتنا؟

لقد أَكدتْ مجموعة كبيرة الدراسات أن وجود المضادات الحيوية في المسطحات المائية والتربة في البر أو البحر يكسب البكتيريا التي تعيش في تلك الأوساط البيئية مناعة ومقاومة قوية ضد المضادات، أي أن هذه البكتيريا لو دَخلتْ جسمك وأصابتك بالعدى والالتهابات فإن أي مضادٍ حيوي ستأخذه للعلاج لن يفيد كثيراً ولن يجدي نفعاً وسيكون غير فاعلٍ في علاجك، مما قد يؤدي إلى نقلك مبكراً إلى مثواك الأخير، وأَطلق العلماء على هذه الظاهرة الجديدة وعلى هذه البكتيريا القاتلة التي لا ينفع معها أسلحة البشر بالسُوبر بَجْ(superbug)، ولذلك تحذر منظمة الصحة العالمية من هذه الكارثة الصحية المرتقبة التي بدأت مؤشراتها تنكشف في المستشفيات، كما تؤكد الأمم المتحدة بأنها ستكون من أهم التحديات والتهديدات التي تواجه البشرية في هذا القرن الجديد.

وهناك عدة مصادر تَصرفْ المضادات الحيوية المستهلكة إلى مكونات وأوساط بيئتنا، من أهمها محطات معالجة مياه المجاري التي لا تكون عادة معالجتها لمياه المجاري المحتوية على المضادات فاعلة في التخلص من هذه المضادات الحيوية والأدوية، فتخرج هذه المضادات مع المياه المعالجة ثم إلى الأنهار والبحار أو المزارع والمسطحات الزراعية، أو أنها تتراكم في حمأة مياه المجاري التي تستخدم كمواد مخصبة للتربة في الزراعة، كذلك مياه الصرف الزراعي من المزارع التي تربي الأبقار والأغنام والدواجن وتستخدم فيها المضادات الحيوية للحيوانات، فإن مخلفاتها السائلة والصلبة تكون أيضاً محملة بهذه المضادات والعقاقير الأخرى، وأخيراً تكون مصانع الأدوية والعقاقير مصدراً للتلوث بالأدوية بشكلٍ عام.

ولمواجهة هذا التهديد الصحي العالمي فعلينا أولاً رفع الوعي عند الأطباء والمرضى بخفض استخدام المضادات بشكلٍ عام، ثم القيام بتطوير وتحديث عمليات معالجة مياه المجاري لكي تكون فاعلة في التخلص من الأدوية، إضافة إلى تحديث القوانين والأنظمة لتواكب هذه المستجدات الصحية الخطرة، وأخيراً إعادة تأهيل وتنظيف الأوساط البيئية التي تلوثت بهذه العقاقير بشكلٍ عام.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق