الأربعاء، 19 يونيو 2019

أيهما يحقق التنمية المستدامة، المتنزه البحري الصناعي أم الطبيعي؟

قبل أيام وبالتحديد في 16 يونيو من العام الجاري، حلَّ علينا في البحرين مقيمٌ دائم وبالتحديد في المنطقة البحرية في منطقة ديار المحرق شمال جزيرة أمواج، فأخذ هذا المقيم قسيمة سكنية ليستقر فيها، ويمكث فيها إلى ما شاء الله، متمنياً لهذا الضيف المقيم الجديد على بلادنا طيب الإقامة، وسكناً مريحاً ثرياً مستدام العطاء والإنتاج.

هذا الضيف الذي قرر الحصول على تأشيرة الإقامة الدائمة لينزل في ربوع بحار بلادنا عبارة عن طائرة من نوع جامبو بوينج 747، طولها 70 متراً، وستكون أول متنزه بحري صناعي في البحرين يقع على عمق نحو 20 متراً تحت سطح البحر، وعُمل خصيصاً لمحبي البيئة البحرية والرياضات المائية، وبخاصة رياضة الغطس والغوص تحت الماء. 

ولهذا المتنزه البحري جوانب متعددة تنعكس إيجاباً على المجتمع البحريني، فمنها الجانب السياحي المتمثل في الترفيه والترويح عن النفس وممارسة الرياضات المائية، ومنها الجانب المتعلق بتنمية الثروة البحرية الفطرية من ناحية تكوين موئل خاص يشبه الشعاب المرجانية، فيكون موقعاً خصباً تزدهر فيه الكائنات البحرية وتزيد من شدة التنوع الحيوي، ومنها البعد التعليمي والتعرف على الموائل البحرية وأنواع الكائنات البحرية التي تعيش فيها إضافة إلى المجسمات التقليدية والتراثية التي ستوضع في تلك الموقع، وأخيراً هناك البعد البحثي من خلال تقديم موقع غني وثري بالكائنات الفطرية البحرية فيمكن دراستها عن كثب ومعرفة سلوكها وتصرفاتها وعلاقة بعضها ببعض. 

ولا بد لي هنا بعد أن أبرزتُ أهم الجوانب الإيجابية المشرقة لهذا المتنزه البحري الوطني المرتقب أن أُقدم نقاطاً وملحوظات أخرى متعلقة بإغراق هذه الطائرة العملاقة في البحر. أما النقطة الأولى فلِكي نجني ثمرات هذا العمل الطموح، ونرى مردوداته الطيبة تنعكس علينا، فإننا بحاجة إلى الكثير من الوقت والجهد حتى تصل هذه البيئة الجديدة إلى مرحلة النضج والاستقرار ومرحلة النمو وقطف الثمار، فنمو الكائنات البحرية النباتية والحيوانية يحتاج إلى وقتٍ طويل وعمل دؤوب مستمر ولن يكون بين عشية أو ضحاها.

أما النقطة الثانية فهي مرتبطة بالظروف البحرية التي توجد فيها هذه الطائرة من ناحية عمق المياه، وقوة ودرجة التيارات المائية، وقوة وسرعة الرياح السطحية، والملوحة العالية التي تعيش فيها هذه الطائرة، حيث معدل ملوحة البحر تبلغ نحو 43 جزءاً في الألف، إضافة إلى درجة الحرارة المرتفعة للمياه في الصيف والتي قد تصل إلى 33 درجة مئوية. ومن المعروف أن جسم الطائرة مصنوع أساساً من الألمنيوم ومن سبائك الألمنيوم التي تحتوي على عناصر سامة مثل النحاس والنيكل والماغنيسيوم والمنغنيز وغيرها، كما إن جسم الطائرة يُصنع من الفولاذ ومن مواد أخرى خفيفة مركبة، إضافة إلى التايتينيم، وكل هذه المواد التي تُصنع منها الطائرة ليست مصممة أساساً لكي تكون الطائرة في بيئة قاسية كبيئتنا البحرية، ولذلك ستتفاقم مشكلة تحلل وتفكك بعض الأجزاء من الطائرة وترشح السموم منها، والتي في نهاية المطاف ستنتقل إلى الأسماك وأخيراً إلى الإنسان.

والنقطة الثالثة فهي إنه مهما فعلنا وادْعينا فإننا لا نستطيع الوصول إلى كَمال واتزان خلق الله سبحانه وتعالى، فلا يمكن أن نُكوِّن شعاباً مرجانية من جسم الطائرة ترقى إلى إنتاج وحيوية وعطاء الشعاب المرجانية الطبيعية التي تُعد في حد ذاتها نظاماً بيئياً متكاملاً يضم كل مكونات البيئة البحرية الحية وغير الحية، ويحمل في بطنه تنوعاً شديداً وثروة غنية من الحيوانات البحرية الصغيرة والكبيرة والمجهرية التي لا يمكن رؤيتها، ولهذا النظام البيئي الفريد دور كبير من ناحية تهدئة الرياح وتكسير التيارات المائية، قبل أن تصل إلى سواحل البحر. ولذلك لا يمكن أبداً استبدال النظام البحري البيئي الطبيعي بمواد من صنع البشر، مهما كانت دقتها ومهما كان اتقان صنعها، سواء أكانت مصنوعة من الخرسانة المسلحة، أو الإطارات القديمة، أو السفن والسيارات المستهلكة. 

والنقطة الرابعة فإنها أُمْنيةٌ وطنية لا بد من أن نُحققها في القريب العاجل، فهي متعلقة بقضية حياتية مصيرية للمجتمع البحريني وهي قضية الأمن الغذائي، ومرتبطة مباشرة بتحقيق أهداف التنمية المستدامة. فأتمنى أن يصحب هذا المتنزه الوطني البحريني "الصناعي" العمل على إعادة تأهيل المتنزهات البحرية القديمة الفطرية وإحيائها من جديد بعد أن دبَّ فيها الضعف والسوس بسبب الإهمال والتعدي على حرماتها من حفرٍ ودفنٍ للبحر، وصيدٍ جائر بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة، حتى كادت أن تنتهي وتزول وتصبح جزءاً من التراث البحريني البحري التاريخي، وهذه المتنزهات الطبيعية التي وهبها الله لنا معروفة بعطائها الوفير والغزير، فهي كانت حتى العقود الماضية المصدر الرئيس للثروة السمكية التجارية التي هي المصدر الغذائي الوحيد للبروتين للمواطن البحريني.

فهناك أولاً فشت العظم العظيم الذي أُطلقُ عليه "رئة الثروة السمكية"، حيث المساحة الكبيرة والواسعة، وحيث النظام البيئي البحري المتكامل الذي يحتوي على مختلف أنواع الموائل والبيئات البحرية المثمرة والمتنوعة وعلى رأس هذه البيئات الشعاب المرجانية وغيرها، فهي منطقة طبيعية تحقق أهداف التنمية المستدامة من ناحية توفير الأمن الغذائي، وتطوير السياحة البيئية، وجعلها معلماً بارزاً طبيعياً حياً للتعليم والبحث العلمي. كما إن هناك موقعاً طبيعياً آخر يمكن إعادة تأهيله وتطويره حيث تم إهماله وإفساد صحته خلال السنوات الماضية وهو "هير شتيه"، فهو من المناطق البحرية التي كانت تتميز بتنوعٍ حيوي شديد، وبخاصة من ناحية الأسماك التجارية، فتحول بسبب الصيد الجائر واستخدام وسائل الصيد غير الشرعية والإهمال من الصيادين إلى مقبرة لمخلفات الصيد المختلفة من قراقير وحبال وشباك. ثم هناك بيئة الحشائش والأعشاب والقواقع البحرية غرب البديع، حيث أُهملت هذه البيئة كلياً ودفنت، وكانت تمثل ثروة ضخمة للأسماك التجارية، وبخاصة سمك الشعري. وأخيراً لا بد من الإشارة بشكلٍ خاص إلى أفضل البيئات البحرية الموجودة حالياً والتي بسبب بعدها عن الساحل لم تمسها كثيراً أيدي البشر، وهي متنزه أبولثامه البحري، وبالرغم من ذلك فإن هذه البيئة البكر لم تحظ بالاهتمام والرعاية المطلوبين من الجهات الحكومية المعنية، حيث أخبرني بعض المهتمين بأن هذه البيئة اكتظت الآن بالصيادين الذين يُلقون مخلفاتهم فيها، ويكسرون الشعاب المرجانية الطبيعية.

وختاماً لا بد لي من الإشارة إلى أن أي جهد يبذل لحماية بيئتنا البحرية فهو عمل مشكور ومقدر، ولكن علينا وضع الأولويات للمشاريع التي نريد القيام بها في البحر، بحيث تكون الأولوية للمشاريع التي تحقق الأمن الغذائي للبلد والمواطن، والذي هو جزء لا يتجزأ من الأمن القومي العام.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق