السبت، 1 يونيو 2019

شِراء الذِمَّم



كتبتُ عدة مقالات خلال السنوات الماضية حول الثقافة العميقة والمستمرة في الشركات العملاقة متعددة الجنسيات، وهي ثقافة الربح السريع وجني المال الوفير والكبير على حساب كل شيء، ولو كان ذلك على حساب البيئة وصحة الإنسان والمجتمع، فهي لا ترقُب في أحدٍ إلا ولا ذمة.

فثقافة هذه الشركات المتأصلة فيها، والمتجذرة في عروقها والتي تجري في شرايينها مجرى الدم تسمح لها باستخدام كافة الوسائل المشروعة وغير المشروعة لتحقيق أهدافها، مثل ممارسة الكذب والتضليل والغش، واستغلال الضمائر الميتة، والأقلام المأجورة، وإنشاء الشركات الوهمية المضللة، وتجنيد المرتزقة من العلماء ورجال النفوذ والسياسة والقانون، فتقوم بشراء ذممهم بالمال والدعم بكل أنواعه وأشكاله لتصب جميعها في نهاية المطاف في نشر سياساتهم التسويقية الربحية، وتزيين مُنتجاتهم الفريدة، وتلميع بضائعهم السحرية، وإضفاء الشرعية القانونية والعلمية والصحية عليها.

واليوم أنقل لكم مثالاً جديداً، ولن يكون حتماً آخر مثال، على استخدام هذه الشركات لوسيلة شراء الذمم والضمائر لبلوغ أهدافها، حيث نشرت مجلة الليموند الفرنسية العريقة في التاسع من مايو من العام الجاري في صفحة الغلاف وبخطوط عريضة لا يمكن تجاهلها، تحقيقاً استقصائياً مميزاً حول إنفاق شركة كوكا كولا الأمريكية العملاقة زهاء تسعة ملايين دولار أمريكي للتأثير على نتائج الأبحاث الصحية المتعلقة بالمشروبات الغازية التي تُجرى في فرنسا، وجعلها تدور في فلك سياستها ورؤيتها.

فهذا المال السُحْت، والدعم غير الشريف والمشروط ذهب إلى بعض العلماء والباحثين ومنظمات صحية من أجل جعل الاستنتاجات التي تتمخض عن دراساتهم تتوافق مع هوى الشركة، وتنسجم مع سياساتها التسويقية، فتُفيد نتائج هذه الدراسات بطريقةٍ أو بأخرى بأن المواد السكرية التي تُضاف إلى هذه المشروبات لا تضر بالصحة، أو أن ضررها ذا تأثيرٍ بسيط لا يُلحق الأمراض بعامة الناس، وبخاصة الأطفال ولا يسبب لهم البدانة والوزن الزائد.

وجدير بالذكر أن هذا السلوك من هذه الشركة ليس هو الأول من نوعه، فقد نَشرتْ صحيفة النيويورك تايمس تحقيقاً مشابهاً لتحقيق الليموند في التاسع من أغسطس 2015 تحت عنوان:" "كوكا كولا تُمول العلماء لتغيير آرائهم حول البدانة والعادات الغذائية السيئة"، وكان فحوى هذا التحقيق المطول والمدعوم بالأدلة والوثائق وأسماء الخبراء والعلماء المتورطين، أن كوكا كولا تسعى لتوجيه نتائج بعض الأبحاث لعدم إلقاء اللوم على المشروبات الغازية السكرية لظاهرة البدانة ومرض السكري من النوع الثاني المستشرية في الولايات المتحدة الأمريكية والمنتشرة بشكلٍ خاص بين الأطفال والشباب، وهي الآن تُسوق لنظرية "علمية" جديدة من إعدادها وإخراجها حول أسباب البدانة وطرق علاجها، وتتمثل في ممارسة الرياضة بشكلٍ عام من أجل مكافحة البدانة وعدم الاكتراث بكمية السعرات الحرارية التي تستهلكها ، أي أنه لا توجد علاقة بين المشروبات الغازية السكرية وزيادة الوزن والبدانة، أو بعبارة أخرى أن العادات الغذائية والمشروبات التي تستهلكها ليست لها علاقة بزيادة الوزن، والرياضة فقط هي العامل الرئيس في التحكم في الوزن وتجنب مشكلة البدانة. ومن أجل فرض هذا التصور جنَّدت الشركة جيوشاً من العلماء والباحثين والإعلاميين لنشر هذه النظرية في المجلات والمؤتمرات العلمية ووسائل الاتصال الاجتماعي الجماعي ووسائل الإعلام التقليدية.

وتأكيداً على تحقيق الليموند والنيويورك تايمس نقلت صفحة المحطة الإخبارية الأمريكية سِي إِن بِي سي (CNBC) في الثامن من مايو من العام الجاري تقريراً أُعد من جامعة كامبريج، وبالتحديد من إدارة السياسة والدراسات الدولية والمنشور في مجلة "سياسات الصحة العامة" في الثامن من مايو من العام الجاري تحت عنوان: "اقرأ دائماً المطبوعة الصغيرة، دراسة حالة لتمويل الشركات التجارية، البنود والاتفاقيات مع كوكا كولا"، حيث اكتشفت دراسة كامبريج بأن الشركة تضع بعض البنود الخاصة والمقيدة في الاتفاقيات التي تبرمها مع الجهات التي تدعمها، منها البند حول حق الشركة في قطع التمويل عن الدراسات التي لا تُبشِّر بنتائج إيجابية تصب لصالحها، كما أن هناك بنداً حول حق الشركة في وقف التمويل في أي وقت ودون إبداء أي عذر، ومن هذه البنود القانونية أيضاً عدم نشر النتائج التي لا تُرضي الشركة ولا توافق عليها. وجدير بالذكر فإن هذه السياسة "عامة" للشركة نفسها، أي تُتبع وتنفذ في كل دول العالم، حيث أكد على هذه الظاهرة الدراسة المنشورة في مجلة "سياسات الصحة العامة" في الثامن من مارس من العام الجاري تحت عنوان "تأثير شركات الصودا على عِلم وسياسة البدانة في الصين".

وتأتي هذه الحملات الشرسة والمستمرة منذ سنوات كردة فعل من الشركة على رفع الضرائب على المشروبات الغازية في الكثير من دول العالم، إضافة إلى منع بيعها في المدارس وتسويقها على الأطفال لما لها من علاقةٍ مباشرة في السقوط في شباك البدانة والوزن المفرط. فهذه الشركة تُريد تعويض خسائرها بأية طريقة متاحة مهما كانت، والرسالة التي تريد إيصالها إلى جمهور الناس وإقناعهم بها هي أنه لا ضير أبداً من استهلاك المشروبات الغازية السكرية، فاشرب كما تريد ولن يزيد وزنك، أو تصاب بالبدانة ومرض السكري أو أمراض أخرى، وكل ما عليك القيام به هو ممارسة الألعاب الرياضية للتحكم في وزنك!

فهذه "التكتيكات" والوسائل التي اتبعتها هذه الشركة هي نفسها التي تتبعها كل الشركات العملاقة متعددة الجنسيات منذ مئات السنين حتى تحولت إلى "ثقافة" وليست سياسة عابرة وقتية، فشركات التبغ والسجائر نفذت هذه المنهجية منذ عقود طويلة من الزمن، وبخاصة عندما أَجمعتْ الدراسات على أن التدخين يسبب السرطان، فجَمعتْ كل قواها واستنفرت كافة جنودها ومواردها المالية للتشكيك في نتائج هذه الدراسات وإجراء أبحاث أخرى مضادة موجهة لدحض هذه النتائج وإثارة التساؤلات والشكوك حولها، كذلك فعلت شركات العقاقير للتسويق لأدويتها وتشجيع الناس على شرائها، وهكذا بالنسبة للكثير من أمثال هذه الشركات، فهل نثق بهم بعد كل هذا؟ 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق