الأربعاء، 29 مايو 2019

تأثير التجارب النووية للقرن المنْصرم مازال قائماً!


إن ما أَراهُ اليوم أمامي من قضايا ومشكلات بيئية تُهدد الكرة الأرضية برمتها هي أنها من صُنْع الدول الصناعية المتقدمة الكبرى، وبخاصة الدول الغربية، فأيديهم الجائرة هي التي ارتكبت هذه الآثام البيئية الخطيرة التي لم تؤثر على دولهم فحسب وإنما تخطت حدودهم الجغرافيا فأفسدت كوكبنا كله، وتأثر بتداعياتها من لا ناقة له فيها ولا جَمَلْ بهذه المشكلات، ولا دخل له في تكوينها ونشوئها، وبخاصة الدول الفقيرة النامية والنائمة، بل وإن هذه الدول الفقيرة تُحمَّل الآن بعض التبعات الناجمة عن هذه المشكلات التي ورثناها جميعاً منهم.

فأولى هذه المشكلات البيئية التي كادت أن تقضي على البشرية جمعاء هي تدهور طبقة الأوزون التي ترتفع عنَّا في السماء وفي الغلاف الجوي نحو 15 إلى 30 كيلومتراً فوق سطح الأرض. فقد تم في السبعينيات من القرن المنصرم اكتشاف ما يُعرف بالثقب في طبقة الأوزون نتيجة لانخفاض غاز الأوزون في هذه الطبقة، وغاز الأوزون، بالرغم من أنه سام وخطير على صحة الإنسان، إلا أن ربَّ العالمين وضعه في ذلك الموقع بالتحديد بقدرٍ واتزان معلوم ليقوم بدورٍ حيوي جداً يتمثل في امتصاص الأشعة الشمسية القاتلة، وهي الأشعة فوق البنفسجية ويمنعها من الوصول إلى سطح الأرض، إذ أننا لو تعرضنا لهذه الأشعة فسيرتفع عندنا سرطان الجلد والعين وستتضرر كل الأحياء على سطح الأرض.

ويُعزى السبب في ذلك في إنتاج الغرب لمجموعة من المركبات الكيميائية المعروفة بالمركبات العضوية التي تحتوي على الكلورين والفلورين(سِي إِف سي) وهي في حد ذاتها غير سامة ومستقرة ولا تتحلل ولذلك أسرف الغرب أولاً في استخدامها في تطبيقات كثيرة لا حد لها وبأحجام مهولة في البرادات والثلاجات والبخاخات وغيرها الكثير، ولكن لم يعلم الغرب نتيجة لجهله بالبيئة وكيفية تصرفات المركبات عندما تدخل في مكونات البيئة، بأن هذه الملوثات تنتقل إلى أعالي السماء وبالتحديد في طبقة الأوزون فتتحلل هناك وتؤدي مع الوقت إلى تفكيك غاز الأوزون، بحيث إنه يتحول إلى مركبٍ آخر ليس له القدرة على امتصاص الأشعة البنفسجية القاتلة للبشر، مما ينجم عنه وصول هذه الأشعة بدرجة أكبر على سطح الأرض.

هذه الحالة الكارثية اضطرت دول العالم إلى منع أو خفض استعمال مثل هذه المركبات وإيجاد البدائل السليمة بيئياً وصحياً، ووافقت دول العالم في عام 1987 من خلال ما أُطلق علية بروتوكول مونتريال حول المواد المستنفدة لطبقة الأوزون على هذه الآلية الجماعية المشتركة.

ثم نزلت على البشرية طامة كبرى هي أشد وطأة وتنكيلاً بكوكبنا وهي أساساً من إنتاج الدول الصناعية المتقدمة، حيث إنها ومنذ انطلاق الشرارة الأولى للثورة الصناعية في إنجلترا في منتصف القرن الثامن عشر واستخدام الفحم في تحريك الآلة البخارية ثم في توليد الكهرباء وتشغيل المصانع، كانت هذه الدول تَبثُ سمومها إلى الهواء الجوي دون حسيبٍ أو رقيب، ودون أي تحكمٍ في أحجامها وأنواعها، فلوثت الهواء الجوي بدرجةٍ غير مسبوقة في التاريخ البشري، فزرعت بذور أول شجرة خبيثة على وجه الأرض، فكانت ثمارها حَنْظَلاً مُرَّاً، وأُطلق عليها بالتغير المناخي أو ظاهرة البيت الزجاجي وسخونة الأرض. فمن بين الملوثات التي انبعثتْ لمئات السنين من هذه الدول الصناعية من مصانعها وورشها ومنازلها ومحطاتها لتوليد الكهرباء ومن سياراتها هو غاز ثاني أكسيد الكربون الذي تراكم مع الزمن في بيئتنا فزاد نحو ضعفين من نحو 280 إلى 415 جزءاً من ثاني أكسيد الكربون في المليون جزء من الهواء، مما أدى إلى وقوع انعكاسات عصيبة تهدد كيان الإنسان وتنميته، منها ارتفاع درجة حرارة الأرض، وارتفاع مستوى سطح البحر، وذوبان الثلوج في القطبين، إضافة على تداعيات صحية واجتماعية واقتصادية وأمنية كثيرة جداً تنكشف في كل يوم.

واليوم أَقفُ معكم أمام اكتشاف مثير ومخيف وغير متوقع، سيُقلق البشرية جمعاء ويُثبت أن الملوثات لم تترك شبراً في البر أو البحر أو الجو إلا ووضعت بصماتها قوية فيه، ونقشت وجودها في جسده، وهذا أيضاً من صنع الدول الصناعية المتقدمة العظمى، وبالتحديد الغربية منها والشرقية.   

فقد نُشرت دراسة في الثامن من أبريل من العام الجاري في مجلة رسائل أبحاث الجيوفيزيائية(Geophysical Research Letters) تحت عنوان: “اكتشاف قنبلة الكربون في المخلوقات الموجودة في أعماق المحيطات السحيقة"، أي أن هذه الدراسة تُفيد بأن علماء المحيطات اكتشفوا التلوث الإشعاعي المتمثل في عنصر الكربون المشع في أنسجة وأحشاء أحد الحيوانات القشرية الشبيهة بالروبيان، والتي تعيش في أعمق موقعٍ تحت سطح البحر، وبالتحديد في خندق ماريانا(Mariana Trench) في غرب المحيط الهادئ على بعد 10927 متراً، أي أكثر من عشرة كيلومترات!

كما أشارت هذه الدراسة إلى أن ارتفاع تركيز الإشعاع بدرجةٍ كبيرة يؤكد بأنه من مصدرٍ بشري وليس من مصادر طبيعية، ولكن كيف وصل هذا الملوث المشع إلى تلك البقعة النائية في أعماق المحيط؟

فقد أكدت الدراسة أن مصدر هذه التلوث الإشعاعي هو تجارب الانفجارات النووية والهيدروجينية التي قامت بها الدول الصناعية المتقدمة، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، والتي بدأتْ أول تجربة لقنبلة ذرية في السادس من يوليو 1945 ثم تلتها دول أخرى مثل إنجلترا وفرنسا والاتحاد السوفيتي، ومؤخراً الهند وباكستان، ثم آخر تجربة نووية قامت بها كوريا الشمالية في سبتمبر 2017، حيث قدَّر العلماء عدد هذه التجارب التي أُجريت منذ الأربعينيات من القرن المنصرم حتى اليوم بنحو ألفين تجربة، بعضها أجري في البحر أو تحت الأرض وبعضها في الغلاف الجوي.      

فهذه الأطنان من الإشعاعات التي انطلقتْ من تجارب الدول المتقدمة انتقلت إلى جميع مكونات البيئة الحية وغير الحية ربما في كل أنحاء العالم وبقت وتراكمت فيها حتى يومنا هذا، فمنها ما ترسب على سطح المحيطات، ومع الزمن أخذ طريقه في عمود الماء إلى أن بلغ أعمق موقع على سطح الأرض فأثر على الكائنات القشرية، ولوث جسمها بالإشعاع.

ولذلك نجد بأن الدول الصناعية الغنية الكبرى والمتفوقة عسكرياً استباحت لعقودٍ طويلة من الزمن، ومازالت، حرمات كل مكونات البيئة وعبثت فيها كيما تشاء دون أن يتمكن أحد على مراقبتها ومحاسبتها، فأفسدت كوكبنا برمته وكونت مشكلات بيئية عالمية، بعضها مازال مستعصٍ على العلاج، ونحن جميعاً في الدول النامية ندفع ثمن الجرائم البيئية التي ارتكبتها هذه الدول.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق