السبت، 18 مايو 2019

لا تَعْبثُوا بِبيئتنا



في كل يوم يكتشف الإنسان جهله المدقع بخفايا وأسرار بيئته والأنظمة البيئية المختلفة الموجودة في سائر أقطار العالم في البر والبحر والجو، وفي كل يوم يتعرَّف الإنسان على حقائق جديدة عن العلاقة الحميمية والمصيرية التي تربط الكائنات الفطرية النباتية والحيوانية بعضها ببعض من جهة، وبالإنسان من جهةٍ أخرى، سواء أكانت علاقات مباشرة ومشهودة للعيان، أو علاقات غير مباشرة يكتشفها الإنسان مع الوقت بين الحين والآخر فنسمع عنها ونقرأ تفاصيلها في المجلات العلمية والبحثية.

وكل هذه الحقائق البيئية يتعلمها الإنسان بعد معاناة شديدة وتجارب مُرَّة يقع فيها عندما يعبث بمكونات بيئته الحية وغير الحية بدون علمٍ ولا خبرة، فترتكب يداه أخطاءً لا تغتفر، وينتج عنها الكثير من الأبعاد البيئية والاقتصادية والاجتماعية الخطيرة التي تهدد الأنظمة البيئية وتؤثر على استدامة تنميتنا.

ومن مظاهر العبث بالبيئة هو قيام الإنسان بإدخال كائنات حية إلى بيئةٍ غير بيئتها الأصلية التي لم توجد فيها من قبل، فيقوم هذا الكائن المجنَّس الغازي بافتراس الكائنات الفطرية المستوطنة أصلاً في تلك المنطقة والقضاء عليها رويداً رويداً ويوماً بعد يوم، مما يؤدي إلى انقطاع الحلقة والسلسلة الغذائية وانهيار النظام البيئي برمته وانكشاف مشكلات لا تحمد عقباها.

ومن أفضل الأمثلة وأكثرها وضوحاً وواقعية هو ما قام به الإنسان في القرن السابع عشر عندما هاجر إلى أستراليا وهاجرت معه في الوقت نفسه كائنات دخيلة فنزلت بصفةٍ غير شرعية على هذه البيئة الجديدة، ومنذ ذلك الوقت، ونتيجة لهذا العبث غير المحسوب والمتهور، مازال الإنسان يعاني من تداعياته حتى يومنا هذا. وقد قامت صحيفة النيويورك تايمس الأمريكية بنشر تحقيقٍ مطول حول هذه القضية في 25 أبريل من العام الجاري.

ونتيجة لهذا الوضع البيئي غير الطبيعي، قررت الحكومة الأسترالية في عام 2015 مواجهة أحد مظاهر وانعكاسات هذا العبث البيئي والمتمثل في غزو نحو ستة ملايين قطة(feral cats) يسرحون ويمرحون الآن دون منافس في العديد من المدن الساحلية في أستراليا منذ أن نزلت أول قطة أرض هذه القارة قبل أكثر من 200 عام. فهذه القطط المفترسة قضت على التنوع الحيوي في تلك المدن وأدت إلى انقراض العديد من الكائنات الأصيلة الفطرية الأصغر حجماً مثل فأر الكنجرو بأنواعه المختلفة، إضافة إلى الطيور والزواحف، حتى إنها أصبحت كالأسد المهيمن على الغابة، فتكاثرت دون منافس أو منازع على سلطتها وبسرعة شديدة وسريعة وعلى نطاقٍ واسعٍ وكبير، فسببت أضراراً بيئية واقتصادية واجتماعية لا يمكن حصرها على المجتمع الأسترالي. وعلاوة على ذلك كله فإن هذه القطط تحمل عدة أنواع من الطفيليات في جسمها وتنقلها إلى الأغنام والخراف وتسبب لها الإجهاض، كما إنها في الوقت نفسه تعدي بني آدم.

فكل هذه المردودات العصيبة والمستمرة منذ قرون اضطرت الحكومة الأسترالية إلى ارتكاب مجزرة جماعية لهذه القطط، واستخدمت كافة الوسائل للتخلص من مليوني قطة بحلول عام 2020، منها استخدام الطائرات لإلقاء اللحوم السامة لهذه القطط، ومنها القتل المباشر من قبل الصيادين والمزارعين والهواة، كما أُدخلت الروبوتات في عملية الذبح الجماعي من خلال استشعارها بمرور القطط وإطلاقها للسموم عليها.

فهذا النوع الخاص من العبث بالبيئة أدى مع الزمن، إضافةً إلى عوامل كثيرة أخرى إلى تدهور التنوع الحيوي بشكلٍ عام على المستوى الدولي وانقراض الكائنات الحية النباتية منها والحيوانية، وقد أكد على هذه الحقيقة تقرير لجنة الأمم المتحدة شبه الحكومية المعنية بسياسات التنوع الحيوي وخدمات الأنظمة البيئية تحت عنوان: "التقييم الدولي لحالة الطبيعة"، والمنشور في السادس من مايو من العام الجاري ويتكون من 1800 صفحة، حيث شارك في إعداده 455 خبيراً من 50 دولة، واستغرق إنجازه قرابة ثلاث سنوات، ويُعد الآن هذا التقرير أكبر وأوسع دراسة علمية شاملة قيَّمت فيها حالة البيئة التي نعيش عليها جميعاً في كل أقطار العالم وحالة الكائنات الفطرية النباتية والحيوانية من حيث النوع والعدد.

وقد توصلت الدراسة إلى عدة استنتاجات مهمة تُبين الأزمة العصيبة التي تعيشها الكرة الأرضية بالنسبة لتدهور أنظمتها البيئية وضعف صحة الكائنات الحية التي تعيش فيها كمياً نوعياً، كما شدَّدت الدراسة إلى أهمية هذا التنوع الحيوي للبيئات والكائنات الفطرية بالنسبة لاستدامة تنمية الإنسان وحياته على سطح الأرض.

كذلك أكد التقرير على أن هناك مليون كائن نباتي وحيواني يعيش في البر أو البحر مهدد بالانقراض خلال السنوات القليلة القادمة، كما انخفضت أعداد الكائنات الفطرية الأصيلة التي تعيش منذ الأزل في بيئاتها الأصلية بنسبة 20%، وهذه النسبة في ازدياد كل سنة، إضافة إلى إشارة التقرير للزيادة الملحوظة في أعداد الكائنات الدخيلة والغازية وبنسبة عالية جداً بلغت 70% في 21 دولة.

وأخيراً أوصت الدراسة إلى ضرورة اتباع الحل الشامل والمتكامل لإيقاف عبث أيدي الإنسان ببيئته، والتعامل بحزم وجدية مع كل العوامل التي أدت إلى وصول التنوع الحيوي إلى هذه الحالة المأساوية في كل أنحاء المعمورة، وهذه العوامل هي الزيادة السكانية والاستهلاك المتزايد على الموارد والثروات والطلب المتعاظم على المواد الغذائية والثروة المائية، ثم القضاء على البيئات الطبيعية والتلوث والتغير المناخي والغزو الأحيائي النباتي والحيواني، إضافة إلى استنزاف الثروات البرية والبحرية والصيد الجائر.

فهل أعددنا الخطة التنفيذية في البحرين لمواجهة هذا التحدي وإثراء بيئتنا بالتنوع الحيوي؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق