السبت، 25 مايو 2019

30 بليون يورو كُلفة كذبة بسيطة!



يتهاون الناس كثيراً في تبعات الكذب وانعكاساته المخزية والمأساوية على الفرد نفسه وأسرته وعلى المجتمع برمته، ولا أقصد هنا تبعات الكذب المخزية والمهلكة في الآخرة فحسب وإنما في هذه الحياة الدنيا قبل العقاب يوم الحساب. ففي كل يوم أقرأ في دول العالم عن النتيجة المؤلمة التي وقع فيها الكذَّاب والغشاش، والمعاناة العصيبة التي تنزل عليه بعد اكتشاف كذبه عاجلاً أم آجلاً، سواء الخسارة المالية العقيمة التي تنزل عليه، أو المكوث في غياهب السجون وهو يعض على يديه حسرة وألماً وندما. 

ومن أشهر حالات الكذب والغش التاريخية والتي أُتابعها عن كثب منذ انفجارها أمام الملأ وفي وسائل الإعلام في سبتمبر 2015 هي تضليل وكذب أكبر شركة لصناعة السيارات في العالم، شركة فولكس واجن الألمانية التي تمتلك مجموعة من السيارات كفولكس واجن نفسها وبُورشْ وأُودي، حيث بلغت كلفة هذا الكذب والغش حتى يومنا هذا 30 بليون يورو، حسب ما اعترف به رئيس الشؤون المالية للشركة في الثاني من مايو من العام الجاري، ونقل التصريح صحيفة الإندبندنت البريطانية.

فما قصة هذا الكذب المتَعمَّد مع سبق الإصرار والترصد؟
ولماذا لجأت هذه الشركة العملاقة الثرية إلى استخدام هذا الأسلوب غير السوي وغير المقبول للترويج لمنتجهم؟    

تأتي تفاصيل القصة في المعاناة العقيمة التي تقاسي منها كافة دول العالم وشعوبها منذ أكثر من مائة عام نتيجة للتدهور الشديد الذي طرأ على نوعية الهواء الجوي وارتفاع تركيز الملوثات من جهة وازدياد أنواع هذه الملوثات التي دخلت في سمائنا، بحيث تحول هذا الهواء الجوي من عامل بناءٍ ونمو إلى عامل هدمٍ وتأخر، وتحول الهواء من مصدرٍ لإثراء وتقوية صحتنا إلى مصدرٍ لإفساد ودمار كافة أعضاء جسدنا، وأصبح هذا الهواء الملوث الآن في جميع ربوع العالم عائقاً خطيراً أمام تنمية صحة الإنسان، وحجر عثرة أمام تحقيق التنمية المستدامة.

وقد أكدت كافة التقارير الصادرة من الدول، أو التي تنشرها منظمات الأمم المتحدة المعنية بأن تلوث الهواء يعتبر اليوم التهديد الأقوى والأشد تنكيلاً بالصحة العامة من جهة وللعمليات والأنشطة التنموية من جهةٍ أخرى. فتلوث الهواء يتحمل مسؤولية القتل المبكر لنحو 800 ألف أوروبي سنوياً، وأكثر من 1.8 بليون طفل دون سن الـ 15 عاماً يعانون من أمراضٍ مزمنة نتيجة لتعرضهم كل ساعة للهواء الملوث في داخل المنزل وخارجه، وقرابة 600 ألف طفل منهم قضوا نحبهم في عام 2017 بسبب أمراض الجهاز التنفسي الناجمة عن تلوث وتدهور نوعية الهواء الجوي، وفي العالم كله يصل عدد الذين يلقون نحبهم في سنٍ مبكرة نتيجة لتعرضهم لتلوث الهواء إلى 8.8 مليون، حسب آخر الإحصاءات المنشورة من منظمة الصحة العالمية.

كما تؤكد الدراسات بأن أهم مصدر لتعكير صفو الهواء الجوي في كل المدن الحضرية في العالم هو السيارات، ولذلك تسعى كل دول العالم جاهدة على كبح جماح هذا المصدر القاتل لصحة الإنسانية، وأي علاج أو حل لمشكلة التلوث الناجم عن عوادم السيارات سيكون مصدر ترحيب في العالم أجمع، والشركة التي تقدم هذا الحل ستربح المليارات من الدولارات فوراً من خلال بيع هذا المنتج الحديث.

وانتهزتْ شركة فولكس واجن حاجة الناس والدول الماسة والعاجلة لأية تقنية تقلل من انبعاث الملوثات من السيارات، وبخاصة سيارات الديزل، فكذبت على العالم وضللتهم في أنها توصلت إلى تقنية جديدة لم تتوصل إليها أية شركة لصناعة السيارات من قبل، بحيث إنها تخفض من انطلاق السموم من السيارات فتحمي صحة الناس من الموت المحتوم والأمراض المزمنة المستعصية، وفي الوقت نفسه تحافظ على سلامة البيئة، فأرادت هذه الشركة أن يكون لها السبق في تقنيات علاج عوادم السيارات فتحتكر سوق بيع السيارات كله، وتكتسح باقي شركات صناعة السيارات.

فهذا الادعاء جعل الناس والدول تهرع إلى شراء هذه السيارات منخفضة التلوث للبيئة، حتى أن الشركة باعت قبل اكتشاف الفضيحة المدوية أكثر من 11 مليون سيارة مغشوشة، ولكن كما يقول المثل البحريني "حَبْلْ الكذب قصير"، فلم تمض سنوات قليلة إلا واكتشف علماء من الولايات المتحدة الأمريكية عن طريق الصدفة هذا الغش، وعروا هذا الكذب البواح من الشركة. وكالعادة لم تعترف الشركة بهذه الجريمة النكراء، وأنكرت جملة وتفصيلاً قيامها بمثل هذا الفعل الشنيع، ولكن بعد أن زادت الأدلة ضد الشركة وأثبت علماء أمريكا بالتجارب الميدانية على السيارات المغشوشة، اضطرت هذه الشركة المرموقة وهي خاضعة وذليلة إلى الاعتراف رسمياً بهذا الخزي والعار الذي لم يشوه سمعة الشركة ويلوث وجهها فحسب وإنما لطخ سمعة صناعة السيارات في ألمانيا بشكلٍ عام. 

فهذه الكذبة الصغيرة هزَّت دعائم أكبر شركة لإنتاج السيارات على المستوى الدولي، وكانت لها انعكاسات اقتصادية واجتماعية وخيمة وغير مسبوقة تاريخياً، بل ودخلت موسوعة جينيس للأرقام القياسية. أما على المستوى الاقتصادي فقد بلغت تداعيات هذه الكذبة حتى الآن نحو 30 بليون يورو، وعدَّاد استنزاف الشركة مالياً لن يتوقف عند هذا الحد، فهناك آلاف الدعاوى القضائية المرفوعة ضد الشركة على مستوى دول العالم من الأفراد والشركات التجارية الأخرى وحتى الدول. وأما على المستوى الاجتماعي فتم سجن عدد من التنفيذين في الشركة، إضافة إلى تشويه مكانة الشركة بين منتجي السيارات في العالم وفقدان ثقة الشعوب والدول بهذه الشركة.

فهل بعد كل هذه الفضائح سيلجأ أحد إلى وسيلة الكذب والغش؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق