الثلاثاء، 21 مايو 2019

هل سيتحول الخليج إلى البحر الميت؟


المواطن العادي البسيط، بل والكثير من رجال الثقافة والعلم لا يعرفون معنى تحلية مياه البحر، أو تحلية المياه الجوفية شديدة الملوحة إلا في أنها تُوفر له الماء العذب الزلال الصالح للشرب وللاستخدامات المنزلية الأخرى، ولكنه لا يعرف في الوقت نفسه ما هي المردودات البيئية والصحية التي تنجم عن عملية التحلية، ولا يُدرك حجم المخلفات السائلة والغازية والصلبة التي تصاحب هذه العملية الحيوية وتَنْتج عن تقديم وتوصيل هذه المياه الفرات إلى منزلك.

وفي الحقيقة فإنني منذ نهاية الثمانينيات من القرن المنصرم وأنا أُتابع وأُجري الأبحاث حول هذه المشكلة البيئية، وكانت باكورة أبحاثي حول تأثير المخلفات السائلة الساخنة والمالحة الناجمة عن محطة سترة لتوليد الكهرباء وتحلية ماء البحر على البيئة البحرية الساحلية المحاذية للمصنع أو المنطقة البحرية التي تستقبل هذه المخلفات. وقُمتُ في هذا البحث الميداني بتحليل مياه البحر في تلك المنطقة في أكثر من خمسين موقعاً وعلى أبعاد مختلفة من مصب المخلفات ثم قياس تركيز ملوحة المياه، ودرجة الحرارة، ونسبة الأكسجين الذائب في الماء، إضافة إلى تحليلات أخرى، حيث تبين بأن هناك ارتفاعاً مشهوداً في درجة حرارة ماء البحر ونسبة الملوحة في تلك المنطقة، كما أفادت نتائج تحاليل المياه إلى وجود انخفاضٍ ملحوظ في كمية الأكسجين الذائب في المياه بسبب هذه المخلفات السائلة شديدة الملوحة التي تصرف في ساحل البحر.

ثم ألحقتُ هذه الأبحاث بكتاب تحت عنوان "بيئة البحرين البحرية" والذي شمل كل ما هو متعلق ببيئة الخليج العربي عامة والبيئة البحرية البحرينية بصفةٍ خاصة. فمياه الخليج العربي بطبيعتها تتميز عن غيرها من بحار العالم بارتفاع ملوحتها ودرجة حرارتها وانخفاض نسبة الأكسجين الذائب في المياه، فعلى سبيل المثال فإن معدل الملوحة يبلغ نحو 40 جزءاً في الألف، في حين أنها تصل في بعض الخلجان كخليج سلوى إلى 70 جزءاً في الألف، ودرجة الحرارة تصل في أشهر الصيف إلى قرابة 35 درجة مئوية، كما إنها بشكلٍ ونتيجة لارتفاع درجة حرارة المياه تعاني من شحٍ في حجم الأكسجين الذائب فيها، وأكدتْ آخر دراسة منشورة في 24 أبريل من العام الجاري في مجلة الأحياء التجريبية(Experimental Biology) بأن انخفاض الأكسجين في الماء يؤثر على البصر عند بعض الكائنات البحرية وقد يؤدي مع الوقت إلى فقدان البصر، مما سيكون لها نتائج كارثية على الثروة البحرية، وبخاصة عند الكائنات البحرية التي تعتمد على البصر في البحث عن غذائها.

ولذلك من الواضح أن الكائنات البحرية في الخليج تعيش في ظروفٍ طبيعية قاسية وعصيبة وهشة، وأي تغييرٍ ولو كان بسيطاً على هوية المياه نوعياً وكمياً سيكون له مردودات خطيرة على البيئة والموارد البحرية، مما يعني ضرورة تجنيب البيئة البحرية أية مصادر للتلوث تؤثر على جودة مياه البحر، وبخاصة محطات التحلية التي تزيد كل سنة في دول الخليج.

وقد نُشرتْ دراسة في مجلة علم البيئة الكلية(Science of the Total Environment) في 15 يناير من العام الجاري، وتُعد أول تقييمٍ دولي لمحطات تحلية مياه البحر قام بها معهد الأمم المتحدة للماء والبيئة والصحة في جامعة الأمم المتحدة في أونتاريو، حيث أفادت الدراسة بأن هناك نحو 16 ألف محطة للتحلية على المستوى الدولي، وقد تصل إلى 17500 مصنع للتحلية بحلول عام 2025، كما أكدت الدراسة بأن كل لتر من المياه الحلوه التي يتم إنتاجها من المياه المالحة، هناك لتر ونصف اللتر من المخلفات السائلة الشديدة الملوحة(brine) التي تنتج أيضاً ويكون عادة مصيرها إلى المسطحات المائية، وتبلغ أحجامها عالمياً أكثر من 50 بليون متر مكعب، وهي أعلى حجماً من كمية المياه العذبة التي تنتج من هذه المصانع.

فتصور الآن كم حجم هذه المخلفات المالحة والحارة والملوثة بمواد كيميائية والتي تنتج من محطات التحلية في دولنا وتُصرف مباشرة إلى الخليج العربي؟ وما هي التهديدات التي تمثلها هذه المياه المالحة والحارة على خواص مياه البحر وعلى البيئات والثروة البحرية الشحيحة في الخليج؟

فالمملكة العربية السعودية، حسب التقارير الحكومية الرسمية، تحتل المركز الأول بين دول العالم في مجال تحلية مياه البحر، حيث وصل إنتاجها الى أكثر من 500 مليون جالون من المياه العذبة يومياً من 27 محطة للتحلية، وتُقدر المخلفات الملحية السائلة التي تصاحب عملية التحلية بنحو 31 مليون متر مكعب يومياً، وزِدْ على هذا الحجم الهائل من المخلفات ما يَنْتُج من محطات التحلية الموجودة على سواحل دول الخليج العربي الأخرى.
وعلاوة على هذه المخلفات الملحية السائلة الحارة والمخلوطة بمواد كيميائية سامة، فهناك استنزاف شديدة لكميات ضخمة من الطاقة لتحلية المياه، إضافة إلى تلوث الهواء الناجم عن حرق الوقود في هذه المحطات، والذي بدوره يُسهم في تدهور جودة الهواء في المنطقة، ويلعب دوراً خطيراً في التغير المناخي ورفع درجة حرارة الأرض.
فكل هذه الحقائق تُثير لدي القلق والخوف الشديدين من أن يتحول الخليج العربي مع الزمن إلى البحر الميت، فلا حياة له ولا روح فيه، فهل ننتظر وقوع هذه الكارثة أم نعمل على تجنبها من الآن وقبل فوات الأوان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق