الأربعاء، 22 مايو 2019

القاتل الطليق


إذا أُصيب أي إنسانٍ لا قدَّر الله بسرطان الرئة فإن أول سؤال يخطُر على بال الطبيب بعد الانتهاء من عمليات التشخيص لهذا المريض المبتلى بهذا المرض العضال هو: "هل تُدخن السجائر أو الشيشه أو السجائر الإلكترونية؟ ومنذ متى وأنت تدخن السجائر؟"

فهذه الأسئلة التقليدية التي يطرحها الأطباء على المرضى في مثل هذه الحالات معروفة منذ أكثر من 55 عاماً، وبالتحديد منذ إعلان الجراح العام الأمريكي والمسؤول الأول عن خدمات الصحة العامة في الولايات المتحدة الأمريكية في 11 يناير 1964 في تقريره الأول حول "التدخين والصحة" بأن التدخين يسبب سرطان الرئة والحنجرة، حيث أكد على هذه الحقيقة التاريخية والعلاقة الحميمية المميتة التي تربط بين التدخين والسرطان استناداً على الاستنتاجات التي تمخضت عن أكثر من سبعة آلاف بحث علمي أُجري في تلك الفترة الزمنية حول السجائر والتدخين والأضرار الصحية التي تنجم عنه.

واليوم دَخَلتْ مُستجدات كثيرة على مكونات بيئتنا من ماءٍ وهواءٍ وتربة، وحدثت تغييرات جذرية في هويتها من الناحيتين النوعية والكمية، فالهواء الذي خلقه الله سبحانه وتعالى نقياً صافياً ونظيفاً يحمي صحة الإنسان ويقويه لأداء مهماته وواجباته اليومية، تحول إلى مادةٍ مختلفة جداً، فغزت عشرات الآلاف من الملوثات والسموم القاتلة أعماق جسمه، فتحول من عامل بناءٍ وقوة لجسم الإنسان إلى عامل هدمٍ وضعفٍ ومرضٍ لكافة أعضاء جسمه، وانكشفت نتيجة لذلك علل وأسقام جديدة لم تكن في الحسبان، ولم تخطر قط على بال أحد بسبب هذا الهواء الجوي الفاسد.

ولقد لفتت انتباهي دراسة شاملة وجامعة تؤيد ظاهرة تدهور نوعية الهواء الجوي وانعكاسها المباشر على الأمن الصحي للإنسان، ولذلك تستحق أن نقف عندها مَلياً لما لها من مدلولات عصيبة، واستنتاجات خطيرة تهم كل إنسان يعيش على سطح الأرض، سواء أكان مواطناً عادياً بسيطاً فقيراً، أو غنياً وثرياً ومتنفذاً، أو مسؤولاً رفيعاً. وهذه الدراسة منشورة في مجلة الجمعية الملكية للطب(Royal Society of Medicine) في 25 أبريل من العام الجاري تحت عنوان: “سرطان الرئة عند غير المدخنين: المرض الخفي".

وقد توصلت الدراسة إلى استنتاجٍ غريب لم يعرفه الإنسان من قبل، وكان بمثابة مفاجأة غير سارة، حيث أفادت الدراسة بأن سرطان الرئة في ارتفاع مطرد مع الزمن، ولكن هذه الزيادة المستمرة في أعداد المصابين ليست فقط عند المدخنين للسجائر أو الشيشه أو السجائر الإلكترونية، كما هو معروف عند الجميع الآن ولا يُنكره أحد، فنسبة كبيرة من الذين سقطوا في شباك سرطان الرئة لم يضعوا قط أية سيجارة في أفواههم، أو إنهم دخنوا السجائر لفترة قصيرة جداً، فكيف إذن نزلت عليهم هذه الصاعقة وهزت صحتهم؟

فقد أشارت الدراسة إلى أن هذا الارتفاع المشهود للإصابة لسرطان الرئة عند غير المدخنين يرجع إلى تعرضنا في كل ثانية من حياتنا لخليطٍ معقد وسام من الملوثات الكيميائية والحيوية والطبيعية، كما يعزى السبب إلى استنشاقنا في كل ساعة للمواد المسرطنة المنطلقة من مصادر كثيرة لا تُعد ولا تحصى، منها ما هو موجود داخل منازلنا وفي عقر دارنا، ومنها نشاهدها أمامنا في البيئات الخارجية من عوادم السيارات ومن المصانع ومن محطات توليد الكهرباء.

ففي بريطانيا يَلْقى أكثر من 6000 شخص سنوياً مصرعهم بسبب سرطان الرئة، بالرغم من أنهم من غير المدخنين أو من الذين دخنوا لفترات قصيرة جداً من حياتهم، وهذا العدد أعلى من الذين يموتون من أنواع السرطان الأخرى، وأما على المستوى الدولي فتتراوح حالات الإصابة بسرطان الرئة بين غير المدخنين من 10% إلى 25%، علماً بأن هذه النسبة في ازدياد مطرد كل سنة.

ولذلك فإن هذه الدراسة الفريدة من نوعها، ودراسات أخرى كثيرة تُثبت بأن هناك قاتلاً طليقاً يسرح ويمرح بحريةٍ تامة في أوساط بيئتنا، وبخاصة الهواء الجوي، فيُنزل البلاء والمحن على شعوب العالم ويعرضهم لأقسى أنواع الأسقام وأشدها بطشاً وتنكيلاً بالصحة العامة، وهو مرض السرطان عامة وسرطان الرئة خاصة، وبالرغم من ذلك فإن الاهتمام لكبح جماح هذا القاتل لا يرقى إلى مستوى الجريمة التي يرتكبه في حق البشرية، ولا يواكب درجة الأضرار الجسيمة التي يُلحقه بالبيئة والإنسان معاً.

فقد كان الاعتقاد السائد سابقاً بأن هذا القاتل الطليق يضرب فقط الجهاز التنفسي والرئتين، ومع مرور الوقت واتساع دائرة وجود هذا القاتل في المنزل وخارج المنزل وازدياد تركيزه في الهواء، انكشفت تأثيرات ضارة أخرى على أعضاء مختلفة من جسم الإنسان، وتبين أن هناك العديد من الأمراض الجديدة التي تنجم الآن عن التعرض لملوثات الهواء الجوي، ومنها أنها تصيب القلب بأمراض مزمنة واحتمال التعرض للنوبة القلبية والسكتة الدماغية، كما إنها تعرض الإنسان للإصابة بمرض السكري والبدانة وسرطان الرئة، وتسبب الإجهاض عند النساء الحوامل، أو تؤثر على وزن الجنين وحدوث الولادة المبكرة، وعلاوة على هذه الانعكاسات الفسيولوجية العضوية، فإن لهذا القاتل الطليق تأثيرات سلبية على الجانب والعقلي والنفسي والسلوكي.

 ومن هذا كله أَخرجُ باستنتاج خطير جداً وهو ألا نتهاون أو نُقلل من قُدرات تلوث الهواء في الفتك بالإنسان جسدياً، وعقلياً، ونفسياً، ولذلك لا أُبالغ ولا أَخْرج عن الوصف العلمي الموضوعي للتلوث إذا أَطلقتُ عليه بأنه "قنبلة دمار شامل للجسم البشري برمته".

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق