الأحد، 12 مايو 2019

أعظم دولة تَنْقُصها مياه الشرب السليمة والهواء النظيف

 
زادتْ الدراسات العلمية والأبحاث الميدانية والتقارير والتحقيقات الإعلامية التي تُنشر في الولايات المتحدة الأمريكية حول عدم توفير الولايات الأمريكية لمياه الشرب النقية والصالحة للاستعمال الآدمي في منازل الناس من جهة، وضعف قدرتها على المحافظة على الهواء النقي والنظيف في سماء مدنها من جهةٍ أخرى، حتى أن وسائل الإعلام الواسعة الانتشار والمرموقة أطلقتْ على شيوع المياه غير الصالحة للشرب في منازل الأمريكيين بأنها "أزمة"، كالتقرير المنشور في الثامن من أبريل من العام الجاري في صحيفة النيويورك تايمس تحت عنوان: “هل أزمة مياه الشرب غير الآمنة تستطيع توحيد الأمريكيين"، سواء كانوا ديمقراطيين أو جمهوريين أو مستقلين، وسواء كانوا يسكنون في المدن الحضرية أو المناطق الريفية.

وفي الحقيقة فإن هناك عدة كوارث بيئية وصحية وقعت في بعض مدن الولايات المتحدة الأمريكية وهي التي وضعت قضية المياه النظيفة والهواء النقي ضمن اهتمام العلماء ورجال السياسة والنفوذ ووسائل الإعلام على حدٍ سواء، فالكارثة التي وقعت في مدينة فلينت بالقرب من ديترويت مدينة صناعة السيارات في عام 2015 هي التي أحيت هذه القضية من جديد فتصدرت الصفحات الأولى للصحف، ومازالت تداعياتها باقية ومشهودة، فهذه المدينة حتى كتابة هذه السطور لا تستطيع شرب المياه من حنفية المنازل وإنما تعتمد على المياه المعبئة في الحاويات البلاستيكية. وقد قامت طبيبة أمريكية عاصرت هذه الكارثة وعالجت المرضى الذين سقطوا في المستشفيات لشربهم مياهاً ملوثة بالرصاص ترشح من أنابيب الرصاص القديمة بتأليف كتابٍ شامل يحكي قصة هذه الطامة الصحية البيئية، ويسطر تجربتها الطويلة القاسية، ومعاناتها الشديدة المرَّة من هذه الطامة الكبرى، وجاء الكتاب المنشور في يونيو 2018 تحت عنوان:" "ما لا تراه عُيوننا. قصة أزمة ومقاومة وأمل في مدينة أمريكية".

فأزمة تدهور مياه الشرب في منازل الأمريكيين جِد حقيقية وواسعة الانتشار في مدن الولايات المتحدة الأمريكية، وبين الحين والآخر أَقرأ تحقيقات ودراسات تؤكد واقعية هذه الأزمة، كما أشرت في مطلع المقال، فهناك تحقيق في الواشنطن بوست في 16 أبريل 2019 حول أزمة مياه الشرب في ولاية كنتكي، حيث أفاد التحقيق بأن مياه الحنفية في المنازل في بعض مدن الولاية لها روائح غير مرغوب فيها وكريهة، وتنفر الإنسان من شرب الماء مباشرة من الصنبور، إضافة إلى اللون غير المستساغ والغريب، حتى أن عضو الكونجرس عن الولاية دعا حاكم الولاية إلى إعلان حالة الطوارئ المائية في الولاية. كذلك هناك الدراسة التي أجرتها مجموعة العمل البيئية (Environmental Working Group) ونشرتها في 30 أبريل من العام الجاري في مجلة صحة البيئة ونقلتها المحطة الإخبارية الأمريكية سي إِن إِن، وتفيد هذه الدراسة التحليلية بأن مياه الشرب الملوثة في المنازل قد تُعرض قرابة 15449 من سكان كاليفورنيا للإصابة بالسرطان، وهذه الملوثات تم اكتشافها في مياه الصنبور التي تصل إلى المنازل بعد تحليل 2737 شبكة لمياه الشرب في الولاية، هي الزرنيخ والكروميوم وبعض العناصر المشعة كاليورانيوم والراديوم.

كما إن هناك الدراسة الميدانية المنشورة في مجلة وقائع الأكاديمية القومية للعلوم(Proceedings of the National Academy of Sciences) ونقلتها مجلة العلوم في 12 فبراير 2018 تحت عنوان "ملايين الأمريكيين يشربون مياهاً غير آمنة في منازلهم"، حيث غطت الدراسة فترة زمنية تصل إلى 34 عاماً، من 1982 إلى 2015 وشملت 17900 مدينة، وخلصت الدراسة إلى أن نحو 9 إلى 45 مليون أمريكي يشربون مياهاً لا تتوافق مع القانون الأمريكي لمياه الشرب النظيفة.

وفي المقابل هناك أيضاً أزمة تدهور نوعية الهواء الجوي التي يتعرض لها الأمريكي في كل ثانية من حياته. فالتقرير المنشور من الجمعية الأمريكية للرئة في 24 أبريل من العام الجاري حول حالة الهواء الجوي(State of the Air) للفترة من 2015 إلى 2017 ، وهو التقرير السنوي العشرين الذي يحلل ويقيم تركيز الملوثات في الهواء الجوي في المدن الأمريكية، يؤكد هذه الظاهرة المتعلقة بجودة الهواء الجوي. فقد جاء في التقرير أن نحو 141.1 مليون أمريكي يستنشقون هواءً ملوثاً بغاز الأوزون السام والدخان أو الجسيمات الدقيقة ويعيشون في مدنٍ هواؤها ملوث، وهذا العدد يمثل قرابة 43.3% من سكان أمريكا. وتكمن مشكلة تلوث الهواء في بعض المدن الأمريكية، كما هو الحال في معظم المناطق الحضرية في العالم، في ظهور السحب البنية الصفراء اللون، أو ما يُعرف بظاهرة الضباب الضوئي الكيميائي الذي يحتوي على آلاف الملوثات الخطرة والمؤكسدة وعلى رأسها غاز الأوزون السام، إضافة إلى الدخان أو الجسيمات الدقيقة التي تنبعث من السيارات وبخاصة سيارات الديزل ومحطات توليد الكهرباء، وبالتحديد المحطات التي تشتغل باستخدام الفحم.

فهذه الحالة الأمريكية من المفروض أن تُغير تعريفنا لتصنيف الدول بأنها عظيمة ومتطورة ومتقدمة، أو فقيرة ونامية ومتأخرة بناءً فقط على المؤشرات التقليدية وبالتحديد المؤشرات الاقتصادية ثم المؤشرات العسكرية والأمنية، فالجانب البيئي المتعلق بصحة البيئة وصحة الإنسان يجب أن يكون من العوامل التي تدخل في تصنيف الدول، فليس من المعقول أو المنطقي تعريف دولة بأنها متطورة ومتقدمة وفي الوقت نفسه تعاني من بيئة فاسدة متدهورة ولا توفر للشعب أبسط حقوقه الدستورية الأساسية وهو الحق في العيش الصحي الكريم والبيئة السليمة، والذي من ضمنه توفير مياه الشرب الصالحة للاستهلاك الآدمي والمحافظة على نقاوة وصفاء الهواء الجوي، حيث لا حياة مستدامة وصحية بدونهما.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق