السبت، 4 مايو 2019

الدفان: العدو الأكبر للثروة البحرية



هناك عدة تصريحات رسمية صدرتْ من مسؤولين في الحكومة عن التدمير الذي نزل على البيئة البحرية بشكلٍ عام، والاستنزاف الشديد الذي أصاب ثرواتها ومواردها الحية وغير الحية، وهذه الاعترافات في تقديري وفي حد ذاتها تُعد عامل بناءٍ وتطور في التفكير والسلوك، ونقطة الانطلاقة الأولى نحو تشخيص الوضع المأساوي للبيئة البحرية الذي تعاني منه منذ أكثر من سبعين عاماً، فلا شك بأن من طبيعة الإنسان الخطأ ولا عيب في ذلك، فكل إنسانٍ معرضٍ للنسيان والخطأ، وكل حكومة مهما كانت حِكْمتها ورؤيتها فمن الممكن أن تقع في الخطأ، فكل أبن آدم خطَّاء، وخير الخطّائين الذين إذا قاموا بالخطأ فإنهم يندمون على ارتكابه، ويعملون على تصحيحه ومعالجته وتعديل اعوجاجه، فلا يستمرون فيه أبد الدهر.

فالبيئة البحرية وثرواتها الفطرية تقعان منذ زمنٍ بعيد تحت ضغوط أيدي البشر وانتهاك حرماتها بشكلٍ يومي مستمر، فمنها ما أثَّر على الموائل البحرية الساحلية وغير الساحلية فدمرها تدميرا وأفسدها من الناحيتين الكمية والنوعية، ومنها ما أضَّر بثرواتها الحية بشكلٍ مباشر، وبالتحديد الثروات التي نعتمد عليها في غذائنا اليومي كالأسماك والربيان، فأدى مع الوقت إلى إحداث شرخٍ عظيم في حالة الأمن الغذائي الفطري الذاتي المتجدد في البلاد.

أما الأنشطة البشرية التي قضتْ على البيئات الساحلية كلياً فهي عمليات الردم ودفن السواحل التي لم تتوقف منذ عقود طويلة من الزمن، فأكلت من جسم البحر يوماً بعد يوم وشبراً بشبر، وفي كل عملية دفان قطع شريان يمد قلب البحر النابض بالحياة، وفي كل عملية دفان يهلك وإلى الأبد وبدون رجعة عضواً مثمراً ومنتجاً من البيئة البحرية فيتدمر كل من عليها من كائنات حية نباتية وحيوانية تُمثل العمود الفقري للبيئة البحرية برمتها.

وفي المقابل هناك عمليات الحفر التي صاحبت كل عملية دفان فأُجريت على نطاقٍ بحري واسع ولعدة أغراض، منها استخراج الرمل ونقله إلى المنطقة الساحلية لدفنها، حيث إن مساحة البحرين زادت نحو 300 كيلومتر مربع نتيجة لدفن السواحل، أي أن أحجام الرمل التي استخدمت كانت كبيرة جداً، كما أن عمليات الحفر البحري أُجريت لتوسعة وتعميق القنوات المائية لعبور السفن، أو لعمليات الاستكشاف عن النفط والغاز الطبيعي، وأخيراً أجريت عمليات الحفر لاستخراج الرمل واستخدامه كمادة للبناء. وكل هذه العمليات كانت لها مردودات سلبية طويلة الأمد هددت الثروة البحرية بشكلٍ عام، منها تدهور جودة المياه عن طريق زيادة الرواسب الترابية وارتفاع مستوى عكارة الماء وانخفاض درجة الرؤية، وانعكاس كل هذا على الكائنات البحرية التي كانت تعيش في مناطق الحفر أو بالقرب منها، إضافة إلى ارتفاع ملوحة المياه الجوفية الساحلية بسبب عمليات الحفر، وبالتحديد في المناطق البحرية التي كانت تقع تحتها طبقات المياه الجوفية.

وفي الجانب الآخر هناك الأنشطة البشرية التي استنزفت الثروات البحرية الحية بشكلٍ فوري ومباشر، كالصيد الجائر واستخدام طرق الصيد غير الشرعية وفي جميع الأوقات والمواسم، إضافة إلى وسائل وأدوات صيد محرمة دولياً. كذلك هناك عوامل أخرى أثرت نوعياً وكمياً بالموائل البحرية وكائناتها الفطرية كالمخلفات السائلة التي تُصرف من محطات مياه المجاري وبعض المصانع، إضافة إلى المخلفات الصلبة التي ترمى على السواحل البحرية أو في عمق البحر من قبل الصيادين بصفةٍ خاصة ومن مرتادي البحر بشكلٍ عام.

ومن بين كل هذا العوامل التي ذكرتُها لكم، هناك عامل قوي جداً، وفاعل في سرعته وقوته التدميرية الشاملة وعلى نطاقٍ واسع وكبير ومن غير رجعة، وهو عمليات الحفر ودفن البحر التي دائماً ما تكون في أهم عضوٍ من أعضاء جسم البحر، وهو المنطقة الساحلية التي تُعد الأكثر إنتاجاً وعطاءً وثراءً بالنسبة لنوعية الموائل والثروة الحية التي تعيش عليها. فالبيئات الساحلية قد تكون بيئات مدٍ وجزر، أو الشعاب المرجانية، أو الحشائش والطحالب البحرية، أو أشجار القرم.

فالفساد الدائم الذي تُوقعه عمليات الحفر والدفن لهذه البيئات الساحلية أصبح الآن حقيقة علمية يُجمع عليها مجتمع الباحثين والعلماء. وقد أُجريت دراسة شاملة للتأكيد على هذه الحقيقة ونُشرت في 12 أبريل من العام الجاري في مجلة رسائل الحماية(Conservation Letters)، حيث قامت الدراسة بحصر وتقييم وتحليل أكثر من 11 ألف دراسة علمية شملت نحو 1100 منطقة ساحلية حول العالم، منها أشجار القرم، وبيئة الحشائش البحرية، والشعاب المرجانية وغيرها، وأثبتتْ من خلال هذه الدراسات أهمية هذه البيئات الساحلية من نواحي كثيرة منها أنها تمثل أكثر البيئات البحرية إنتاجاً وحيوية وغنى بالنسبة للأسماك والربيان، فهي بيئات حضانة وتكاثر ونمو، كذلك هي بيئات تحمي السواحل والمرافق الموجودة عليها، إضافة إلى أهميتها السياحية كوسيلة رئيسة من وسائل الترفيه والترويح عن النفس وممارسة السباحة والرياضات المائية الأخرى، ولذلك يمكنني تشبيه أهمية السواحل بالنسبة للبيئة البحرية كأهمية الواحات بالنسبة للصحراء.

وعلينا الآن وقبل أن تنتهي كلياً الثروة البحرية الحية منها وغير الحية فيتحول البحر إلى صحراء مائية جرداء قاحلة لا روح فيها ولا حياة لها، أن نسن بشكلٍ عاجل التشريعات التي تتعامل مع عوامل ومصادر تدمير البحر، كما أَوردتُها هنا، فنقوم سريعاً بإنقاذ ما تبقى من هذه الثروة المصيرية، فنخرج البحر من حالة الطوارئ القصوى، ثم نقوم بتخصيص فريقٍ من المفتشين يعملون كشرطة لحماية البيئة البحرية ويسهرون على تنفيذ هذه التشريعات، علماً بأن هذا المقترح يصب في بندين من بنود برنامج الحكومة وهما تفعيل الرقابة لحماية المناطق البحرية، إضافة إلى البند حول الاستمرار في المحافظة على الثروة البحرية وتنميتها لضمان استدامتها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق