الثلاثاء، 31 مارس 2020

الحرب الاستباقية ضد الفيروسات


منذ مطلع القرن الماضي ومختلف أنواع الفيروسات تضرب الإنسان فتنزل بغتة على المجتمعات البشرية في كل أنحاء العالم، فتُحذره عن قرب بأنها قادمة وموجوده أمامه وستضرب يوماً ما الضربة القاضية التي قد تهلك البشر أجمعين وتقضي عليهم وتسقطهم على الأرض صرعى لا حراك لهم، وفي كل مرة لا يريد الإنسان أن يتعظ ويتعلم من هفواته وزلاته، وفي كل ضربة لا يريد الإنسان أن يأخذ درساً من الحوادث السابقة التي نزلت عليه والتجارب التي مرَّ بها، وفي كل حالة لا يعتبر هذا الإنسان من خبراته المتراكمة منذ أكثر من مائة عام.

فأول لقاءٍ كارثي عقيم بين الإنسان وعالم الفيروسات كان في عامي 1918 و 1919 أعقاب الحرب العالمية، فكما أن الحرب العصيبة أكلت ودمرت البلاد والعباد بالملايين، نزلت هذه الطامة الكبرى الجديدة كالريح الصرصر العاتية على عدة دول منها القارة الأوربية والولايات المتحدة الأمريكية وكندا والهند واليابان، عندما غزا أحد الفيروسات وهو فيروس الإنفلونزا، وربما لأول مرة بهذه الحجم عالم البشر، وكشَّر عن أنيابه واستعرض قوته وسلطانه وواقعيته، فذهب ضحيته أكثر من  50 مليون من بني آدم في سنة واحدة فقط، وأُطلق على المرض الإنفلونزا الإسبانية(Spanish flu).

وفي عام 1994 وقع لقاء آخر بين الفيروسات والإنسان عندما نزل فيروس هندرا(HeV) على منطقة هندرا(Hendra) في أستراليا، وأوقع مرضاً معد ونادر في الوقت نفسه وانتقل من الخيول إلى الإنسان، حيث كانت الحصيلة الكلية على مدى عدة سنوات نحو 70 حالة للخيول، ومرض 7 من البشر. وأكد العلماء أن مصدر الفيروس كان نوعاً من الخفاش الذي يأكل ثمار الفواكه ويُعرف بخفاش الثمار، حيث أن الخيول كانت الوسيط لنقل المرض إلى الإنسان.

واللقاء الثالث بين الفيروس وبني البشر كان من عام 1998 إلى 1999 مع فيروس نيبه(Nipah) في ماليزيا حيث هاجم الفيروس المميت المخ مباشرة وأوقع 265 حالة مرضية وذهب ضحية الفيروس 105 من الماليزيين، وكان خفاش الثمار هو المتهم بنقل الفيروس عن طريق الخنازير، أو من خلال أكل الفواكه المسمومة بالفيروس.

ثم صادفتنا عدة لقاءات مع الفيروسات منها في الصين في عام 2002، حيث ضرب فيروس كورونا من نوع سَارس (SARS)، وأصاب الناس بمرض رئوي حاد أودى بحياة نحو 800 شخص وحول أكثر من 81 ألف إنسان إلى أقسام الطوارئ للعلاج في 27 دولة، ومنها في عام 2009 عندما حلَّ وباء إنفلونزا الخنازير، وهو من نوع فيروس(H1N1) على معظم دول العالم، وأسقط زهاء نصف مليون إنسان ضحية للتعرض لهذا الفيروس، كما أننا في دول الخليج عامة، والسعودية خاصة كان لنا لقاء مميت في عام 2012 مع فيروس كورونا من نوع ميرس(MERS)، حيث أَدْخل قرابة 800 إنسان إلى مثواهم الأخير ومرض نحو 2500. كذلك نزلت على العالم طامة كبرى في عام 2014 ومازالت آثارها باقية وبصمتها مستمرة وقوية، وتمثلت في تفشي مرض بوليو(polio) وإِبولا(Ebola) وبخاصة في جمهورية الكونجو الديمقراطية ودول جنوب أفريقيا، ولم تكن سوى فترة قصيرة من الزمن، وبالتحديد في عام 2016 عندما أعلنت منظمة الصحة العالمية عن حالة الطوارئ الدولية لمواجهة فيروس زيكا(Zika) الذي خرج على الناس في دول أمريكا الجنوبية وأوقع الكثير من الضحايا البشرية.

وأخيراً وليس آخراً ضرب زلال فيروسي من نوع كُورونا الكرة الأرضية برمتها في ديسمبر 2019، فأوقع الضحايا البشرية من أقصى الشرق إلى أدنى الغرب، ومن الشمال إلى الجنوب، وأثر على المجتمع البشري برمته صحياً وبيئياً واقتصادياً واجتماعياً، فكانت نواة الزلزال في البداية مدينة ووهان الصينية حيث مسقط رأس المرض ومكان ولادة الفيروس، ثم انتقلت نواة وبؤرة الزلزال إلى قارة أوروبا، حيث انتشر فيها المرض بسرعة البرق، وتفشي فيها كانتشار النار في الهشيم حتى بلغ عدد الضحايا والحالات المرضية أكثر من  201000، توفى منه أكثر من 8200.

وفي جميع هذه الكوارث السابقة ينزل علينا الفيروس فجأة وبدون سابق إنذار، فيباغتنا مرة واحدة ويأخذ المجتمع البشري على حين غرة، فيغزوا أجسامنا ويفسد صحتنا ويدمر اقتصادنا، ولذلك غيَّر الإنسان استراتيجيته في التعامل مع الفيروسات، وشرع في تنفيذ السياسة الاستباقية والاستراتيجية الوقائية، فلا ننتظر في بيوتنا إلى أن يغزونا العدو الفيروسي فيهاجمنا ويدخل في أجسامنا، وإنما نذهب إليه بعِدتنا وعتادنا إلى عقر داره وإلى معاقله النائية والبعيدة عن أعين البشر، ومن حيث لا يدري، فنشن حرباً عليه ونقتحمه أيضاً فجأة ودون سابق إنذار، ونتعرف على هويته وقوته ونقاط ضعفه وكيفية التعامل معه.

ومن أجل تحقيق هذه الاستراتيجية طويلة الأمد، تسابقت فرق علمية في بعض دول العالم للقيام بهذه العملية الاستكشافية السامية، ومن أقدمها الفريق الصيني برئاسة عالمة الفيروسات الصينية، يز نجلي(Shi Zhengli) والتي تُكنى في الصين بـ "المرأة الخفاش". فهذه المرأة وعلماء آخرون يُطلق عليهم بصيادي الفيروسات، فيرحلون بأجهزتهم ومعداتهم إلى الكهوف والأنفاق المظلمة والبعيدة داخل الصخور والجبال بحثاً عن مخزون الفيروسات، وبالتحديد في الخفاش الذي يُعرف علمياً بأنه يحمل في جسمه ثروة طبيعية من عشرات الآلاف من الأنواع المختلفة من الفيروسات، ومعظم الكوارث الصحية التي ذكرتُها لكم بسبب التعرض للفيروسات، كان مصدرها الأول هو الخفاش، ثم ينتقل إلى حيوانات أخرى تعمل كوسيط، مثل الخيول، والجمال، والكِيف أو قط الزباد، أو آكلات النمل، أو الثعابين، أو الفئران أو غيرها من الحيوانات التي تُعدي الإنسان. فصيادو الفيروسات يجْمَعون عينات من دم الخفاش وبوله ولعابه وبرازه ويحددون أنواع الفيروسات الموجودة فيه، ثم يجرون الأبحاث الجينية المخبرية الشاملة عليه، بحيث إن أي فيروس ينزل علينا من هذه المصادر في المستقبل يكون الإنسان جاهزاً ومستعداً لمواجهته ومكافحته وسرعة إيجاد العلاج المناسب له.

ولذلك أتمنى نجاح الإنسان على المدى القريب والبعيد في هذه الاستراتيجية الوقائية الاستباقية في الحرب الماراثونية المستعرة منذ قرون ضد الفيروسات.

الأحد، 22 مارس 2020

مرض كُورونا ليس شراً كُله

هناك مشاهد واقعية حية ذكرتُها ووصفتها في مقالاتي السابقة، منها ما هو منشور في عام 2013، ومنها ما هو منشور قبل أشهر معدودة فقط، وهذه المشاهد والقصص التي رأيتُها وقدمتُها لكم في مقالاتي هي حالة وواقع بعض المدن الصينية ومعاناة الشعب الصيني من ذلك الواقع، وعند قراءتك لهذه المقالات لا تكاد تحس بوجود أي خلافٍ بين بعضها البعض في دقة الوصف، وتفاصيل المشهد، والنتيجة النهائية للبث الحي من الميدان الذي عرضته لكم، ولكن الاختلاف الجوهري لهذه المظاهر الواقعية يكمن فقط في السبب من وراء انكشافها، والفروق بينها تتمثل في العوامل التي أدت إلى ظهورها أمام الجميع في كل أنحاء العالم.

فعلى سبيل المثال كتبتُ مقالاً في الأول من نوفمبر عام 2013 تحت عنوان: "شلل في الصين"، وفي هذا المقال قدمتُ وصفاً من الواقع المشهود لحال الشعب الصيني في بعض المدن الصينية العريقة في بعض الأيام العصيبة التي مرَّ به. وفي هذا المقال ذكرتُ بأنه بعد نزول السحب الكثيفة والضباب المميت على مستويات منخفضة من سطح الأرض، انحجبت أشعة الشمس عن المدن، وحَلَّ الظلام، وانعدمت الرؤية، فتحول الصبح مساءً والنهار ليلاً، وتعطلت الحركة المرورية في كافة أرجاء هذه المدن، وازدحمت الشوارع الرئيسة بالسيارات وتكدست في الطرقات العامة فتوقفت حركتها تماماً. وفي الجانب الآخر توقفت حركة القطارات بين المدن، وأَغلقت المطارات أبوابها وتوقفت حركة الطيران فتأخرت كل الرحلات الجوية، وبقي الملايين من الناس متجمعين في المطارات لعل الحركة الجوية تُستأنف ولو بعد حين.

ومع توقف حركة المرور في الشوارع ووقوع شلل في حركة الطائرات، لم يتمكن الملايين من الناس إلى الوصول إلى مواقع أعمالهم وتجاراتهم، مما اضطرهم إلى البقاء في منازلهم، كما أعلنت السلطات الرسمية في الدولة إغلاق المدارس الابتدائية والإعدادية ودور حضانة الأطفال، وحثت الأطفال والمسنين على البقاء في بيوتهم تجنباً للتعرض لهذه السموم القاتلة، فقد أكدت أجهزة قياس الدخان، أو الجسيمات الدقيقة التي يصل قطرها إلى أقل من 2.5 ميكروميتر على أن التركيز في الهواء الجوي بلغ نسبة عالية جداً وصل إلى 1000 ميكروجرام من الغبار في كل متر مكعب من الهواء، أي أعلى من مواصفات منظمة الصحة العالمية بأكثر من 40 مرة. وكل هذه المظاهر التي وصفتُها لكم بسبب تلوث الهواء انعكست بشكلٍ مباشر على صحة الناس، فقد أفادت التقارير أن عدد الناس الذين دخلوا المستشفيات أثناء نزول الضباب القاتل زاد بنسبة 30% وهم يعانون من آلام في الصدر، وحرقة في العين، وضيق في التنفس، وأمراض القلب المختلفة، كما أن الكثير من الناس أصابتهم نوبة من الهلع والخوف من شدة تأثير هذا التلوث على الآخرين ومشاهدتهم سقوط الضحايا أمام أعينهم. كذلك فالإحصاءات حول التدهور البيئي في الصين مخيفة جداً، حيث يفيد البنك الدولي أن أكثر من 700 ألف صيني يموتون سنوياً بسبب تلوث الهواء، كما تؤكد الاحصاءات الرسمية التي تنشرها الأكاديمية الصينية للتخطيط البيئي أن كُلفة تدهور البيئة على الاقتصاد الصيني في عام 2010 بلغت قرابة 230 بليون دولار، أو نحو 3.5% من الناتج المحلي الإجمالي.

وأما المشاهد الأخرى التي نقلتُها لكم فقد كانت في شهر يناير من العام الجاري، وقد كانت بشكلٍ خاص من مدينة ووهان الصينية التي تعرضت لضربة مؤلمة ومهلكة من فيروس غامض أُطلق عليه كوفيد 19، حيث تحولت المدينة برمتها والتي يقطنها نحو 30 مليون إلى سجنٍ ومحجرٍ صحي عظيم،  وأَعلنتْ السلطات في 23 يناير عن إغلاق المدينة كلياً، وتوقف الحركة فيها وإصابتها بالشلل التام، وبالتحديد منع السفر إلى خارج المدينة، فأصبحت مدينة أشباح لا نبض لها بالحياة، فكافة وسائل النقل الجماعي توقفت، من طائرات، وقطارات، وحافلات، وبواخر، كما أن المجمعات والمتنزهات والمطاعم أصبحت خاوية على عروشها لا ترى فيها أحداً، ودعت السلطات الصحية السكان إلى توخي الحذر الشديد، وارتداء الكمامات والأقنعة الواقية للفم والأنف وعدم الاختلاط مع من يشتبه في حالتهم الصحية، وهذه المشاهد حتى الآن أكدت عن سقوط أكثر من 3000 قضوا نحبهم، وانتظار نحو 80 ألف لمصيرٍ مجهول.

فالمشهد الأول يتطابق إلى حدٍ بعيد مع المشهد الثاني، ولكن الفرق هو السبب، ففي الحالة الأولى كان السبب هو التلوث بشكلٍ عام، وتلوث الهواء بشكلٍ خاص، والثاني يرجع السبب فيه إلى اكتشاف فيروس جديد غامض، وتفشيه في مدن كثيرة في الصين وخارج الصين، وكلاهما ذو تأثير صحي عصيب ومرير على الشعب الصيني.

وظهور هذه الحالة الصحية الفيروسية الجديدة الآن أدى إلى انكماش ظهور الحالة الأولى والمشهد الأول المتعلق بتدهور جودة الهواء، فنتيجة لتوقف المصانع وحركة المواصلات بشكلٍ عام خلال الشهرين الماضين، فقد انخفض بشكلٍ ملموس انبعاث الملوثات والسموم من هذه المصادر الملوثة للهواء والمسببة للموت والأمراض للناس، وقد رصد هذه التغيرات الجذرية في نسبة التلوث القمر الصناعي سنتينال-5(Sentinel-5) التابع لوكالة الفضاء الأمريكية(ناسا) ووكالة الفضاء الأوروبية، حيث قدَّمت الصور الحية التي تبين التغير في نسبة الملوثات قبل ظهور فيروس كورونا وبعد وأثناء انكشاف هذا الوباء الصحي الجماعي، وبالتحديد بالنسبة لتركيز غاز ثاني أكسيد النيتروجين والأوزون وثاني أكسيد الكربون. فقد تم نشر الصور الفضائية من 1 إلى 20 يناير، أي قبل بدء سجن الحجر الصحي، ثم من 10 و 25 فبراير أثناء الحجر الصحي، ولذلك أكدت النتائج أن هناك فوائد وايجابيات غير متوقعة قد صاحبتْ هذا الوباء الفيروسي العام، وتمثل في تحسين نوعية الهواء، وبالتالي تجنيب الناس الأمراض والموت من هذا التلوث العقيم المستدام.