الأحد، 22 مارس 2020

مرض كُورونا ليس شراً كُله

هناك مشاهد واقعية حية ذكرتُها ووصفتها في مقالاتي السابقة، منها ما هو منشور في عام 2013، ومنها ما هو منشور قبل أشهر معدودة فقط، وهذه المشاهد والقصص التي رأيتُها وقدمتُها لكم في مقالاتي هي حالة وواقع بعض المدن الصينية ومعاناة الشعب الصيني من ذلك الواقع، وعند قراءتك لهذه المقالات لا تكاد تحس بوجود أي خلافٍ بين بعضها البعض في دقة الوصف، وتفاصيل المشهد، والنتيجة النهائية للبث الحي من الميدان الذي عرضته لكم، ولكن الاختلاف الجوهري لهذه المظاهر الواقعية يكمن فقط في السبب من وراء انكشافها، والفروق بينها تتمثل في العوامل التي أدت إلى ظهورها أمام الجميع في كل أنحاء العالم.

فعلى سبيل المثال كتبتُ مقالاً في الأول من نوفمبر عام 2013 تحت عنوان: "شلل في الصين"، وفي هذا المقال قدمتُ وصفاً من الواقع المشهود لحال الشعب الصيني في بعض المدن الصينية العريقة في بعض الأيام العصيبة التي مرَّ به. وفي هذا المقال ذكرتُ بأنه بعد نزول السحب الكثيفة والضباب المميت على مستويات منخفضة من سطح الأرض، انحجبت أشعة الشمس عن المدن، وحَلَّ الظلام، وانعدمت الرؤية، فتحول الصبح مساءً والنهار ليلاً، وتعطلت الحركة المرورية في كافة أرجاء هذه المدن، وازدحمت الشوارع الرئيسة بالسيارات وتكدست في الطرقات العامة فتوقفت حركتها تماماً. وفي الجانب الآخر توقفت حركة القطارات بين المدن، وأَغلقت المطارات أبوابها وتوقفت حركة الطيران فتأخرت كل الرحلات الجوية، وبقي الملايين من الناس متجمعين في المطارات لعل الحركة الجوية تُستأنف ولو بعد حين.

ومع توقف حركة المرور في الشوارع ووقوع شلل في حركة الطائرات، لم يتمكن الملايين من الناس إلى الوصول إلى مواقع أعمالهم وتجاراتهم، مما اضطرهم إلى البقاء في منازلهم، كما أعلنت السلطات الرسمية في الدولة إغلاق المدارس الابتدائية والإعدادية ودور حضانة الأطفال، وحثت الأطفال والمسنين على البقاء في بيوتهم تجنباً للتعرض لهذه السموم القاتلة، فقد أكدت أجهزة قياس الدخان، أو الجسيمات الدقيقة التي يصل قطرها إلى أقل من 2.5 ميكروميتر على أن التركيز في الهواء الجوي بلغ نسبة عالية جداً وصل إلى 1000 ميكروجرام من الغبار في كل متر مكعب من الهواء، أي أعلى من مواصفات منظمة الصحة العالمية بأكثر من 40 مرة. وكل هذه المظاهر التي وصفتُها لكم بسبب تلوث الهواء انعكست بشكلٍ مباشر على صحة الناس، فقد أفادت التقارير أن عدد الناس الذين دخلوا المستشفيات أثناء نزول الضباب القاتل زاد بنسبة 30% وهم يعانون من آلام في الصدر، وحرقة في العين، وضيق في التنفس، وأمراض القلب المختلفة، كما أن الكثير من الناس أصابتهم نوبة من الهلع والخوف من شدة تأثير هذا التلوث على الآخرين ومشاهدتهم سقوط الضحايا أمام أعينهم. كذلك فالإحصاءات حول التدهور البيئي في الصين مخيفة جداً، حيث يفيد البنك الدولي أن أكثر من 700 ألف صيني يموتون سنوياً بسبب تلوث الهواء، كما تؤكد الاحصاءات الرسمية التي تنشرها الأكاديمية الصينية للتخطيط البيئي أن كُلفة تدهور البيئة على الاقتصاد الصيني في عام 2010 بلغت قرابة 230 بليون دولار، أو نحو 3.5% من الناتج المحلي الإجمالي.

وأما المشاهد الأخرى التي نقلتُها لكم فقد كانت في شهر يناير من العام الجاري، وقد كانت بشكلٍ خاص من مدينة ووهان الصينية التي تعرضت لضربة مؤلمة ومهلكة من فيروس غامض أُطلق عليه كوفيد 19، حيث تحولت المدينة برمتها والتي يقطنها نحو 30 مليون إلى سجنٍ ومحجرٍ صحي عظيم،  وأَعلنتْ السلطات في 23 يناير عن إغلاق المدينة كلياً، وتوقف الحركة فيها وإصابتها بالشلل التام، وبالتحديد منع السفر إلى خارج المدينة، فأصبحت مدينة أشباح لا نبض لها بالحياة، فكافة وسائل النقل الجماعي توقفت، من طائرات، وقطارات، وحافلات، وبواخر، كما أن المجمعات والمتنزهات والمطاعم أصبحت خاوية على عروشها لا ترى فيها أحداً، ودعت السلطات الصحية السكان إلى توخي الحذر الشديد، وارتداء الكمامات والأقنعة الواقية للفم والأنف وعدم الاختلاط مع من يشتبه في حالتهم الصحية، وهذه المشاهد حتى الآن أكدت عن سقوط أكثر من 3000 قضوا نحبهم، وانتظار نحو 80 ألف لمصيرٍ مجهول.

فالمشهد الأول يتطابق إلى حدٍ بعيد مع المشهد الثاني، ولكن الفرق هو السبب، ففي الحالة الأولى كان السبب هو التلوث بشكلٍ عام، وتلوث الهواء بشكلٍ خاص، والثاني يرجع السبب فيه إلى اكتشاف فيروس جديد غامض، وتفشيه في مدن كثيرة في الصين وخارج الصين، وكلاهما ذو تأثير صحي عصيب ومرير على الشعب الصيني.

وظهور هذه الحالة الصحية الفيروسية الجديدة الآن أدى إلى انكماش ظهور الحالة الأولى والمشهد الأول المتعلق بتدهور جودة الهواء، فنتيجة لتوقف المصانع وحركة المواصلات بشكلٍ عام خلال الشهرين الماضين، فقد انخفض بشكلٍ ملموس انبعاث الملوثات والسموم من هذه المصادر الملوثة للهواء والمسببة للموت والأمراض للناس، وقد رصد هذه التغيرات الجذرية في نسبة التلوث القمر الصناعي سنتينال-5(Sentinel-5) التابع لوكالة الفضاء الأمريكية(ناسا) ووكالة الفضاء الأوروبية، حيث قدَّمت الصور الحية التي تبين التغير في نسبة الملوثات قبل ظهور فيروس كورونا وبعد وأثناء انكشاف هذا الوباء الصحي الجماعي، وبالتحديد بالنسبة لتركيز غاز ثاني أكسيد النيتروجين والأوزون وثاني أكسيد الكربون. فقد تم نشر الصور الفضائية من 1 إلى 20 يناير، أي قبل بدء سجن الحجر الصحي، ثم من 10 و 25 فبراير أثناء الحجر الصحي، ولذلك أكدت النتائج أن هناك فوائد وايجابيات غير متوقعة قد صاحبتْ هذا الوباء الفيروسي العام، وتمثل في تحسين نوعية الهواء، وبالتالي تجنيب الناس الأمراض والموت من هذا التلوث العقيم المستدام.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق